المسألة الأوكرانية أعقد بكثير من أن نفهمها خلال عملية التصعيد المخيفة الجارية، وبالتالي من أن نبني موقفاً موضوعياً في نزاع سياسي بهذا الحجم. لكن عندما تحتدم الأزمات إلى هذه الدرجة، لا تعود الموضوعية ضرورية أو قادرة على لجم الانقسام.
لذلك، ينقسم العالم إلى فريقين: واحد مع فلاديمير بوتين وأسلوبه وعسكريته وتعاليه وتصغيره للأوكرانيين، وواحد ضده وضد سلوكه العنفي، لكنه الفريق الضعيف في الصراع. فالرجل في الكرملين يعرف تماماً أن أقصى ما سيواجهه هو العقوبات الاقتصادية، بينما هو يفتت دولاً، وينشئ أخرى، ويغير الخرائط، ويلغي المعاهدات، ويتهم أوكرانيا بالعدوان.
أن يكون الغرب مخطئاً أو طامعاً، أو عازماً على محاصرة «المجال الحيوي الروسي»، فهو أمر لا شك فيه. وأن يكون قليل المشاعر وكثير المصالح، فهذه حقائق قديمة، لكن في المقابل يتعامل بوتين مع هذا العالم، وكأنه جناح في الحزب الشيوعي قرر التمرد ولا بد من تأديبه. هكذا أخذ منذ 2014 يقتحم الدول المجاورة أو يضم بعضها، مثل القرم، أو يعلن من وراء مكتبه إقامة دول جديدة في أكره صيغة عرفها العالم: الانفصال والتقسيم.
حتى لو كانت الدولة في وضع سوريا، المعتمدة على دعم موسكو، لا يجوز أن تبارك خطوة الانفصال، لأنها سابقة شديدة الخطورة. الانفصال وباء أكثر من يعرف مآسيه رجل الاتحاد السوفياتي. إنه تماماً مثل الطلاق وفصل الأم عن أبنائها. وليس هناك أي بطولة في ملامح بوتين القاسية والخشنة والخالية من أي مشاعر، وهو يعلن قيام جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، وإلى جانبه رئيسان لا دور ولا أهمية لهما سوى التوقيع على خيانة معلنة لبلديهما.
العالم أمام ساحة من الضعف والهزال والاضطراب، والرجل بوتين يستغل التخبط الأميركي الملازم لإدارة جو بايدن حول العالم، لكي يحيي – كما ورد في خطابه – لينين وستالين والثورة البلشفية. كل هذه نذائر شؤم لوضع عالمي شديد الضعف والتردي. وقد أعاد بوتين تجزئته إلى قسمين، بحيث أرغم فرنسا – مثلاً – على التخلي عن موقف الوسيط المحايد إلى موقعها في الكتلة الغربية. وكذلك ألمانيا، الأكثر انخراطاً في القضية تاريخياً، لكي تتخذ موقعاً كاملاً مع الغرب.
شن الرجل بوتين على الشيشان حرباً حارقة لأنها أرادت الانفصال عن روسيا. وها هو ينشر دباباته على مسافة آلاف الأميال لكي يمكن الحركات الانفصالية عند جارته الأوكرانية. وفي الطريق يبلبل الوضع العالمي برمّته، غير مبالٍ بما يحدث.
كل ما يستطيعه هذا العالم أن يدعوه إلى «احترام ميثاق الأمم المتحدة بالكامل» وفقاً للأمين غوتيريش. يا سعادة الأمين العام. دعه أولاً يعترف بك وبه.
هدى الحسيني:أزمة كوبا انتهت في تركيا فأين ستنتهي أزمة أوكرانيا؟
عندما تأكدت روسيا أن طلباتها من الغرب لن تُقبل ولن يكون هناك اتفاق مُلزم قانوناً على عدم توسع حلف الناتو، وأنه لن تكون هناك ضمانات سياسية مكتوبة – كما تصرّ روسيا – بأن أوكرانيا وجورجيا لن يتم قبولهما أبداً في الحلف، كان السؤال هو: كيف ستتصرف روسيا عندما يصبح من الواضح تماماً أن المطالب التي وصفها المسؤولون الروس مراراً بأنها «حتمية مطلقة» سترفضها الدول الغربية؟ وجاء الجواب من ديمتري ترينين، رئيس مركز «كارنيغي» في موسكو، في حديث مع صحيفة «كومرسانت» الروسية: «لديّ شعور بأن روسيا كانت تبحث عن نقطة انطلاق جديدة يمكن حولها إعادة تجميع الدول في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي. وإذا توصلت السلطات الروسية إلى استنتاج مفاده أنه من المستحيل تنفيذ اتفاقيات مينسك، فقد تعترف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك (شرق أوكرانيا) كدولة واحدة أو دولتين ودمجهما في اتحاد دولة روسيا وبيلاروسيا، وكان رئيس الاستخبارات الروسية الخارجية قد فوجئ يوم الاثنين والرئيس فلاديمير بوتين يسأله ما إذا كان يؤيد قرار الاعتراف بمنطقتي دونيتسك ولوغانسك؟ فأجابه سيرغي ناريشكين: أدعم انضمام المنطقتين الانفصاليتين إلى روسيا لتصبحا جزءاً منها»!
من الناحية الافتراضية، قد يشمل هذا الكيان أيضاً أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. وعندما سئل ترينين: هل نحن على شفا صراع عسكري حقيقي؟ أجاب: «في المستقبل القريب، الشهر المقبل مثلاً، أعتقد أن الإجابة هي: لا. بالنسبة إلى المدى الطويل، لديّ أسئلة للطرفين؛ سؤال موجه إلى الغرب: هل يمكن للحكومة في كييف أن تقوم باستفزاز لتوريط روسيا؟ هذا السيناريو لن يفيد كثيراً أولئك الذين يقفون وراء كييف. ومن المؤكد أن أي استفزاز من هذا القبيل سينتهي بهزيمة القوات الأوكرانية. وبغضّ النظر عن ارتفاع تكلفة النصر بالنسبة إلى روسيا، فإن ذلك لن يعوض الخسائر الهائلة للسمعة التي ستتكبدها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لا سيما على الساحة الداخلية بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان؛ ستكون خسارة حليف إقليمي بارز آخر في غاية الخطورة على الإدارة، لا سيما في السياق السياسي المحلي. بالإضافة إلى ذلك، هناك سياق الناتو وعامل المكانة الدولية للولايات المتحدة».
على كلٍّ لن تهدد أي درجة من توسع الناتو، بما في ذلك إدخال أوكرانيا، التوازن العسكري واستقرار الردع. ولن تكسب الولايات المتحدة ميزة استراتيجية جادة على روسيا من خلال نشر صواريخ بالقرب من مدينة كاركيف. ولا يمكن للواء عسكري أميركي في بولندا أو كتيبة تابعة لحلف شمال الأطلسي في دول البلطيق أن تقوّض بشكل خطير أمن روسيا. الجانب الوحيد الذي قد يكون مصدر قلق لروسيا هو عناصر الدفاع الصاروخي في رومانيا وبولندا. لا شيء آخر يشكل تهديداً كبيراً، على الأقل عسكرياً، بل يعد تهديداً جيوسياسياً وجغرافياً وثقافياً.
ويبقى السؤال الآن: ماذا سيحدث؟
في 10 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1962 وضع مدير وكالة الاستخبارات المركزية جون ألكسندر ماكون، تقريراً على مكتب الرئيس جون كيندي يتضمن معلومات وصوراً جوية لمنصات إطلاق صواريخ سوفياتية في جزيرة كوبا. وضم التقرير معلومات ميدانية عن وجود خبراء سوفيات مقيمين في معسكرات خارج العاصمة هافانا وبالقرب من مواقع المنصات. اتصل الرئيس كيندي بمستشاره الأقرب والأول، وهو شقيقه روبرت، وتداول معه الأمر، وكان اتفاق بين الرجلين على أن صواريخ سوفياتية على بُعد 600 كيلومتر من شواطئ فلوريدا تشكّل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة ووجودها، وهو أمر لا يمكن القبول به في الحديقة الخلفية. في 16 أكتوبر، وبعد اجتماع الرئيس بمجلس الأمن القومي أصدر بيانه الشهير الموجّه إلى الرئيس السوفياتي نيكيتا خروشوف، والذي أنذره بضرورة إزالة المنصات وإلا فإنه سيأمر قواته المسلحة بتدميرها حتى لو أدى ذلك إلى نشوب حرب عالمية ثالثة. وقتها ولثلاثة عشر يوماً حبس العالم أنفاسه وحيكت تصورات للحرب النووية ونهاية الحياة البشرية. بعدها تراجع السوفيات وتم تفكيك المنصات وتنفس العالم الصعداء.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية عام 1991 استقلت عدة جمهوريات ومنها أوكرانيا في أغسطس (آب) 1991 وتم وضع دستور للبلاد رُسمت فيه الحدود وأُعلنت أوكرانيا دولة ديمقراطية رأسمالية. وبدا واضحاً منذ بداية الاستقلال أن هناك تشابك مصالح بين أوكرانيا وروسيا، ما جعل الاستقلال الكامل أمراً صعباً. فهناك القاعدة البحرية الروسية في مدينه سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم، وهي قاعدة وحيدة للروس على البحر الأسود والتخلي عنها يُفقد روسيا الكثير من قوة أسطولها البحري ومقدرته على الوصول إلى المياه الدافئة. ومن ناحيه أخرى هناك مجموعات سكانية روسية كبيرة في القرم ومنطقتها على الحدود الروسية – الأوكرانية في دونيتسك ولوغانسك تحديداً (اعترف بهما بوتين مساء الاثنين كدولتين مستقلتين) ترفض البقاء ضمن أوكرانيا وتطالب بالانضمام إلى روسيا الأم، مما يعطي الذريعة لتدخل عسكري يحمي تلك المجموعات ويدعم استقلالها عن أوكرانيا لتكون خط دفاع متقدماً لروسيا. وأخيراً وليس آخراً هناك الغاز الروسي الذي يمر 80% منه عبر أوكرانيا إلى أوروبا ويشكل ثلاثة أرباع دخل شركة الغاز الروسية الرئيسية «غازبروم». ومن هنا ترى القيادة الروسية أن نزعة الأوكرانيين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وسعيهم لعضوية حلف الناتو بعد القضم الروسي لشبه جزيرة القرم، يعرّض مصالحها للخطر الحقيقي والوجودي. وقد ابتدأ التصعيد العسكري منذ شهر سبتمبر (أيلول) 2014 حين قام حلف الناتو بمناورات عسكرية مع الجيش الأوكراني و1500 جندي من 15 دولة عضواً في الحلف، وقامت روسيا بمناورات أخرى مواجهة مع بيلاروسيا ودول الأمن الجماعي التي شكلت سابقاً الاتحاد السوفياتي. وقد حشدت روسيا خلال الأسابيع القليلة الماضية ما يزيد على 130 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا مع مدافع ودبابات ومستشفيات ميدانية، ورفض الرئيس بوتين محاولات التهدئة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتس، ووصف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون المشهد بأنه الأخطر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وهددت الولايات المتحدة بأن اجتياح روسيا لأوكرانيا سيعرّضها لرد قاسٍ جداً وعقوبات مؤلمة. وفي كل هذه المعمعة ساد صمت مدوٍّ للعملاق الصيني الذي يتفرج على التخبط وينتظر الفرص لاقتناصها.
في تحليل لمركز دراسات بريطاني مقرب من دوائر القرار ذكر أن ما يسعى إليه بوتين هو السيطرة الكاملة على الشاطئ الشرقي لأوكرانيا لتحويلها إلى دولة شبه مقفلة أمام الملاحة البحرية بمنفذ وحيد ربما في أوديسا، وهو بذلك يفرض انصياع كييف لإرادته وحماية مصالحه وبالأخص تلك المتعلقة بمرور الغاز إلى أوروبا والتي تشكل مصدراً مهماً لدخل بلاده.
وتؤكد تلك المصادر عدم إمكانية حصول مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا وتحالف أوروبي – أميركي، وتقلل من قدرة الجيش الأوكراني على الردع بسبب حجم الجيش الروسي الأقوى عدداً وعتاداً. إلا أن هناك حرباً اقتصادية ستنشأ يمكن أن تصيب ارتداداتها العالم أجمع. فالعقوبات المالية التي ستفرضها أوروبا والولايات المتحدة وتجميد أرصدة روسية في النظام المالي الدولي ستردّ عليه روسيا بتخفيض إنتاج الغاز الذي سيرتفع ثمنه بسرعة جنونية لن تستطيع لجمها زيادة في إنتاج الغاز القطري.
وسيصيب هذا مصانع الإنتاج في أوروبا وبخاصة في ألمانيا وسيتضرر كل بيت في الدول الأوروبية كافة من ارتفاع أسعار الطاقة مما يفاقم ارتفاع معدلات التضخم التي بدأت بالظهور قبل أزمة أوكرانيا. كما يمكن أن تلجأ روسيا إلى وقف تصدير القمح إلى أوروبا مما يُفقدها 20% من استهلاكها لهذا المصدر المهم للغذاء، على الأقل لحين التعويض من مصادر أخرى. وفي رأي أحد الاقتصاديين في مركز الدراسات البريطاني أن التعافي الاقتصادي الأوروبي بعد جائحة «كورونا» يمكن ألا يبصر النور في المديين المتوسط والبعيد إذا ما حصل سيناريو الحرب الاقتصادية، وهذا لن يكون حصراً في أوروبا، فالانكماش الاقتصادي سيؤثر على الصين التي تصدّر مباشرةً إلى الاتحاد الأوروبي، وقد فاقت قيمة الصادرات 680 مليار دولار في نهاية 2021، وهذه ستتأثر حكماً وبشكل كبير من تدني القدرة الشرائية للأوروبيين.
ومن ناحية أخرى سيتضرر الاقتصاد الروسي بشكل كبير من عزله مالياً وتجميد الأرصدة، وسيكون من الصعب على القيصر بوتين أن يصمد طويلاً في امتداده العسكري على أكثر من جبهة وهو محاصر مالياً. فهو في أوكرانيا وسوريا وفي كازاخستان ودول الأمن الجماعي التي تعتمد بشكل رئيسي على قوة تدخل الجيش الروسي إذا ما حصل خلل أو اهتزاز لأنظمة دول هذا الاتحاد كما حصل في كازاخستان في بداية هذه السنة.
بين أزمة الصواريخ الكوبية واليوم تغير العالم طبعاً…
إلا أن السعي للسيطرة ومد النفوذ والمحافظة على المصالح لم يتوقف، ربما لأنه المجرى الدائم للدول عبر التاريخ. وكما حصل في أزمة الصواريخ حين تراجع خروشوف تحت تهديد الرئيس كيندي، من الممكن أن يتم نزع فتيل أزمة أوكرانيا بضمان عدم انضمامها إلى حلف الناتو مع تفاهم على حماية المصالح الروسية مقابل احترام سيادة أوكرانيا. فأوروبا لا ترغب في حرب اقتصادية ستجلب الكثير من المتاعب، لا بل الكوارث، للشعوب، كما أن الولايات المتحدة لا تريد أن تدفع روسيا إلى أحضان مارد آسيوي اسمه الصين هو المنافس الحقيقي لها على مركز الدولة الأقوى. أما روسيا فجلّ ما تطمح إليه ببساطة هو عدم اللعب بالحديقة الخلفية في أوكرانيا وستُنهي الأزمة إذا ما ضمنت عدم تمكين كييف من الانضمام إلى الناتو.
عندما وافق نيكيتا خروشوف على تفكيك الصواريخ في كوبا كان لديه شرط بقي طي الكتمان لوقت طويل، وهو نزع الصواريخ الأميركية في تركيا والذي وافق عليه الرئيس كيندي شرط بقاء الأمر سراً حفاظاً على السمعة وماء الوجه. إنها لعبة الأثمان وتبادل المصالح في الأزمات، وهذا هو محور ما يجري في أوكرانيا اليوم والذي سنعرفه بعد وقت طويل