في عام 1946، وضع جوزيه ساراماغو كتابه الأول: «الأرملة»، الذي صدر بعنوان آخر اختاره الناشر هو «الأرض الآثمة» لاعتباره أن العنوان الأصلي ليس تجارياً، واشترط لنشره عدم توقيع أي عقد مع الكاتب الذي لم يتقاضَ فلساً واحداً عنه «لكنه شعر بسعادة غامرة لنشر أول كتاب له»، كما تقول أرملته الإسبانية بيلار دل ريّو رئيسة المؤسسة التي تحمل اسمه ومترجمة جميع أعماله، التي قررت إعادة نشره تحت العنوان الأول في إطار التحضيرات للاحتفال بمئوية مولد ساراماغو هذه السنة.
تدور أحداث «الأرملة» حول الضغوط الاجتماعية التي تعرّضت لها امرأة من أقارب الكاتب، عندما كانت تحاول إعادة ترتيب حياتها بعد وفاة زوجها. وقد كتبها ساراماغو عندما كان يعمل موظفاً إدارياً في مستشفيات لشبونة المدنية، وحملها إلى دار نشر مغمورة متخصصة بنشر بواكير الكتّاب الناشئين. لكن رغم التأثر الشديد لصدور كتابه الأول وإبلاغ عائلته وأصدقائه بانفتاح أبواب الأدب البرتغالي أمامه، مرّت الرواية مرور الكرام، واستمرّت منسيّة طوال سنوات عديدة.
وتقول دل ريّو إنها عثرت منذ عامين، بمحض الصدفة، على نسخة كان يملكها ساراماغو من الطبعة الأولى للكتاب خلال هدم أحد المنازل التي سكناها في لشبونة قبل الانتقال للإقامة بشكل نهائي في جزيرة لانزاروتي من أرخبيل الكناري الإسباني. وتضيف مستغربة: «كان الكتاب الوحيد الموجود في ذلك المنزل، ولا نعرف لماذا كان محفوظاً بعناية وملفوفاً بأوراق ناعمة بعيداً عن الأعين. لكنها صدفة جميلة وشاعريّة».
لكن مع بلوغ ساراماغو الشهرة العالمية، وحصوله على جائزة نوبل في عام 1998، بدأ المختصون يهتمون بمعرفة المزيد عن باكورة أعمال صاحب «مبحث في العمى» و«الانجيل بحسب يسوع المسيح»، خاصة أن الكاتب كان رفض عدة مرات إعادة نشره، لأنه كان يُعتبر أن «لا علاقة له بأسلوب ساراماغو»، كما تقول أرملته، إلى أن تمكّن صديقه ومفوّض الاحتفالات بمئويته كارلوس ريّس من إقناعه بإصداره في طبعة ثانية لمساعدة الباحثين في أعماله. ويعترف ريّس بأن كتاب «الأرملة» يختلف كثيراً عن أعمال ساراماغو اللاحقة التي يجمع بينها رابط مشترك من حيث الأسلوب والمواضيع التي تعالجها، لكنه مصدر أساسي للكشف عن حقبة أساسية في حياة الكاتب، طالما أكد أنها كانت حاسمة في تكوين شخصيته الإنسانية والأدبية، وهي الحقبة التي أمضاها إلى جانب جدِّه وجدّته في القرية.
كان ساراماغو يردّد أنه لم يعرف في حياته رجلاً أكثر حكمة من جدّه لأمه، الذي «رغم أنه كان يجهل القراءة والكتابة، كان قادراً على تحريك عجلة الكون بمجرد أن يتفوّه بعبارتين وهو جالس في ظل شجرة التين الوارفة»، كما ذكر في خطاب تسلمه جائزة نوبل أمام الأكاديمية السويدية.
في ذلك الخطاب، حكى ساراماغو كيف أن جدّته «التي كانت ذات جمال غير عادي، عندما دنت من عتبة الموت ابتسمت، وقالت: (العالم جميل جداً، وأنا أشعر بالأسى لأنني سأموت). قالت إنها تشعر بالأسى، وليس بالخوف»، وكيف أن جدّه عندما شعر بقرب ساعته الأخيرة خرج إلى الحقل أمام منزله وراح يعانق الأشجار واحدة تلو الأخرى ويودّعها باكياً ويقبّلها، لأنه كان يعرف أنه لن يعود قادراً على رؤيتها بعد ذلك اليوم».
تلك الحقبة كانت مفصلية في حياة ساراماغو الذي قال عنها إنه عندما بدأ يصفها ويكتب عن جدّه وجدّته وأقربائه وأصدقائه في القرية التي عاش فيها حافياً حتى الرابعة عشرة من عمره «أدركتُ أني بتحويلي أولئك الأشخاص العاديين إلى شخصيات أدبية كنت أسعى إلى عدم نسيانهم وإبقائهم أحياءً من خلال تلك الصور التي كان يرسمها قلم الذاكرة بألوان نضرة وأضواء تنسدل على حياة عاشوها في الظل ومن غير أفق».
هذه الطبعة الجديدة من «الأرملة» هي الكتاب الأول في «مكتبة ساراماغو»، التي قوامها إصدارات خاصة لجميع أعمال الكاتب بمناسبة مرور مائة عام على مولده، ضمن سلسلة من الاحتفالات في البرتغال والبرازيل وإسبانيا والمكسيك والولايات المتحدة وبلغاريا. ومن المقرر أن تصدر في أبريل (نيسان) المقبل طبعة خاصة من كتاب «رحلة إلى البرتغال» تتضمّن صوراً تنشر للمرة الأولى التقطها ساراماغو لأماكن كان يحب التردد إليها. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) تنتقل الاحتفالات إلى بلدة تيّاس من أعمال جزيرة لانزاروتي التي أمضى الكاتب فيها سنواته الأخيرة، ثم إلى مسقط رأسه في البرتغال حيث ستُزرع مائة شجرة زيتون تحمل كل واحدة منها اسم شخصية من رواياته. وتجدر الإشارة أن شجرة الزيتون كان لها موقع خاص عند ساراماغو، لأنها كانت تشكّل عنصراً أساسياً من مشاهد طفولته، ورفاته ترقد اليوم تحت زيتونة عتيقة كما كان طلب في وصيته.
كان ساراماغو كاتباً مِئخاراً؛ نشر كتابه الأول عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره، لكن كتابه الثاني لم يصدر قبل بلوغه التاسعة والثلاثين، وبعد أن مارس مهناً متعددة من بينها الصحافة. وعندما حصل على جائزة «نوبل» جاء في بيان الأكاديمية السويدية عند إعلانها النبأ أنها قررت تكريمه «لأن أعماله كشفت المواطن الملتبسة في واقع غامض وعصي، روّضه بالاستعارات والسخرية والخيال».
وضع ساراماغو ما يزيد على عشرين رواية وخمس مسرحيّات وعدداً كبيراً من البحوث والقصص القصيرة. وقد أثارت بعض أعماله، مثل «مذكرة الدير» و«قايين»، وخاصة «الإنجيل بحسب يسوع المسيح»، جدلاً واسعاً، وعرّضته لانتقادات شديدة من الأوساط الدينية والمحافِظة، حتى إن الحكومة البرتغالية، بضغط من «الفاتيكان»، منعت ترشيح الرواية لإحدى الجوائز الأوروبية المهمة. وعندما سألته صحافية عن ردة فعله على تلك الواقعة، أجاب: «مثلما لدي هرمون يُنبت الشعر في ذقني، لديّ هرمون آخر يجبرني، بسلطة قدر بيولوجي أعجز عن مقاومتها، أن أكون شيوعياً».