شكّل الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا صدمة بدرجة ما للجميع، رغم أن الرئيس الأميركي جو بايدن وأعضاء إدارته كانوا يتوقعونه وتحدثوا عنه مرات عدة. فحتى هؤلاء الذين توقعوا الغزو لم يصدقوا أنه سيحدث. والآن وقد حدث الغزو، بدأت تتسع الفجوة بين تصور أميركا للعالم والواقع الفعلي بشدة، بحسب المعلق البريطاني كلايف كروك.
وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء، قال كروك نائب رئيس تحرير مجلة إيكونوميست البريطانية المرموقة، إن هذه الفجوة بين الواقع وتصورات أميركا للعالم، كافية لكي تجعل المرء يتساءل عما إذا كانت الولايات المتحدة المنقسمة تحارب من أجل القضايا الخطأ. ويرى كروك، كاتب العمود السابق في صحيفة «فايننشال تايمز»، أنه لو كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون أكثر ثقة وتماسكاً مع بعضهم، لتردد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في غزو أوكرانيا. لكن الولايات المتحدة لا تبدو اليوم منقسمة، وإنما مشتتة. فالحرب الأهلية الثقافية الناشبة في المجتمع الأميركي حالياً شتتت الانتباه الأميركي عن قضايا حيوية مثل التجارة والأمن القومي والسياسة الاقتصادية التي أصبحت ذات أهمية كبرى. في المقابل يمكن القول بدقة أكبر إن ما يأمله بوتين من هذه الحرب ليس واضحاً. وقد يكون فوجئ بقوة المقاومة الشعبية لهذا الغزو. وبقدر من الحظ يمكن اعتبار غزوه لأوكرانيا في وقت لاحق مجرد خطأ فادح، ورغم ذلك هناك أمر واحد واضح في اللحظة الراهنة وهو شكواه مما فعلته الولايات المتحدة والغرب مع بلاده تعد قوة دفع. فالرئيس الصيني شي جين بينغ الذي يقترب تدريجياً من بوتين يرى أن كرامته أيضاً على المحك عندما يتعامل مع الغرب المتآمر الذي يمارس القمع على الآخرين تاريخياً. والآن يمكن القول إن الرئيس الأميركي يقول لنفسه حالياً إن اثنتين من كبرى القوى النووية في العالم، وهما روسيا والصين، تنظران إلى أوروبا والولايات المتحدة ليس فقط باعتبارهما غير صديقين ولا حتى منافسين وإنما باعتبارهما عدوين حقيقيين أو محتملين. معنى هذا أنه وبعد ثلاثة عقود من انهيار الاتحاد السوفياتي وتبني الصين اقتصاد السوق بسمات الحكم الشمولي، فإن العالم أصبح مكاناً أشد خطورة. ومن المحتمل أن تزداد خطورة العالم خلال الأسابيع والشهور المقبلة، فالغرب الذي لم يكن يريد الحديث عن مستقبل أوكرانيا باعتبارها دولة غير منحازة لا لروسيا ولا للغرب. وقبل أسابيع قليلة مضت كانت السيادة تنتصر على المدافع، لكن مستقبل أوكرانيا الآن قد يخضع لروسيا، مع وجود قوات روسيا على طول الحدود الشرقية لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، في حين يفكر بوتين في خطواته التالية. في الوقت نفسه ستكون هذه التطورات مهمة بالنسبة للرئيس الصيني شي جين بينغ وهو يدرس الاهتمام والإنفاق العسكري لكل من الولايات المتحدة وحلفائها، وكذلك مستقبل تايوان. ويقول كروك إنه في ظل عالم أصبحت القوة الغاشمة فيه مهمة لإدارة شؤون الدول، تصبح الحكمة، هي الحديث المرن مع حمل عصا غليظة. فالحديث بلغة مرنة أمر مهم لأن محاولة إذلال الخصوم الذين يمتلكون قدرات عسكرية كبيرة، تجعلهم أكثر خطورة. في الوقت نفسه، فإن حمل العصا الغليظة من خلال ضمان امتلاك القدرة على مواجهة القوة بقوة أكبر تجعل هؤلاء الخصوم أقل خطورة. وليس من قبيل المبالغة القول إن الغرب بعد الحرب الباردة كان يتحدث بلغة شديدة القوة دون أن يمتلك العصا الغليظة وهو ما أسفر في النهاية عن غزو روسيا لأوكرانيا الآن. ومع ذلك يرى كلايف كروك أن القدرة الحالية المفاجئة على تصديق ما نعرفه عن العالم الآن، قد لا تدوم، وبالتالي نشعر بالدهشة عندما تهاجم الصين تايوان مثلاً، لكن إذا استمرت هذه الرؤية للعالم، فإنها تستدعي التعامل مع العلاقات الدولية بنهج مختلف. وتجب زيادة الاهتمام بقضايا الأمن القومي وتخصيص المزيد من الموارد لها في الولايات المتحدة التي كانت تأمل في تقليص هذه المخصصات من خلال التحرر من التزاماتها تجاه أوروبا، كما أن التحدي أكبر بالنسبة لأوروبا، فهي ستحتاج إلى التعامل مع أسئلة تواجهها لأول مرة في الذاكرة الحية للأجيال الحالية من الأوروبيين. والحقيقة أن التداعيات لا تنحصر في ضرورة زيادة الإنفاق العسكري ولا مناقشة مدى ملاءمة حلف الناتو لأهدافه. فالولايات المتحدة وحلفاؤها يحتاجون إلى التفكير في نتائج قابلة للتحقيق بالسؤال عن أهداف السياسة الخارجية التي لا يتم تناولها بلغة مرنة، وفي الوسائل المتاحة بالسؤال عن حجم القوة المطلوب امتلاكها.
كما ستحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى إعادة التفكير في العلاقات الاقتصادية العالمية، فألمانيا، وأوروبا كلها، ارتكبت خطأ كبيراً عندما اعتمدت بشدة على إمدادات الغاز الطبيعي الروسي. ومن وجهة نظر بوتين، فالأمر لم يكن مصادفة، فقد كان يرى أن هذا الاعتماد سيحد من قدرة الغرب على التصدي لطموحاته، وهو ما حدث على الأقل حتى الآن. في الوقت نفسه، فإن الغرب يعتمد على التصنيع الصيني ليس فقط في السلع الاستهلاكية إنما في مستلزمات إنتاج حيوية، وهو ما يعد تكراراً لخطأ الاعتماد على الغاز الروسي. فإذا كان الأمر بالنسبة للغرب مجرد اقتصاد وتجارة، فإنه ليس كذلك بالنسبة للصين التي تحقق رخاءها، وفي الوقت نفسه تخدم هدفها الجوسياسي الأكبر. ومعنى هذا كما يرى كروك هو أن الاعتماد على أعداء محتملين للحصول على خامات أو سلع أساسية خطأ، والبديل ليس تحقيق الاكتفاء الذاتي حتى لو كان ذلك ممكناً، وإنما البديل هو وجود تصور استراتيجي أكثر مرونة وزيادة التعاون الاقتصادي مع الحلفاء والأصدقاء.