ترتفع أصوات في العالم العربيّ تستهجن الاهتمام بالحرب الروسيّة الأوكرانيّة الراهنة، وتحديداً بمأساة أوكرانيا. الحجّة أنّ لدينا، نحن العرب، مآسينا في فلسطين والعراق واليمن (وغالباً ما لا تُذكر سوريّا ولبنان إذ يصعب اتّهام أميركا وإسرائيل وبلدان الخليج بمآسيهما).
إذاً، وبكثير من اللطم الممزوج بالإدانة الأخلاقيّة، لماذا الاكتراث بمأساة بعيدة؟
لوهلة أولى، نضع جانباً اختلافات التقدير السياسيّ والانقسام حول الحرب الحاليّة. فالأخيرة تعنينا بذاتها لمجرّد كونها حدثاً يحدث في عالمنا، لكنّها تعنينا خصوصاً كونها حدثاً يحدث في أوروبا. فحربا 1914 و1939 اللتان اندلعتا في تلك القارّة، وبين أبنائها، صارتا حربين «عالميّتين» كما نعلم جيّداً. ومَن هم متشائمون بيننا يتحدّثون اليوم عن «حرب عالميّة ثالثة» قد ينتهي إليها هذا النزاع الدائر في أوكرانيا، أي في أوروبا. أمّا أولئك الذين يفوقونهم تشاؤماً، وربّما حكمةً ومعرفةً، فبدأوا ينبّهوننا إلى أنّ الحرب المحتملة قد تأخذ شكلاً نوويّاً!
فأوروبا لا تزال مركز العالم، وإن انتزعت آسيا والصين في العقدين الأخيرين بعضاً من هذه المركزيّة. أمّا نحن فتأثّرُنا بما يحصل فيها يفوق تأثّر سوانا من مناطق وشعوب: الحرب العالميّة الأولى صنعت معظم دولنا. انهيار السلطنة العثمانيّة كان وثيق الصلة بتلك الحرب. الحرب العالميّة الثانية صنعت معظم استقلالات بلداننا. معركة العلمين، على حدود مصر مع ليبيا، كانت إحدى معاركها الأساسيّة والحاسمة. قيام إسرائيل نفسها ما كان ليكون ممكناً لولا المحرقة النازيّة ليهود أوروبا… تعداد الأمثلة التي تدلّ على تأثّرنا بأحداث تلك القارّة وبحروبها لا تتّسع له المجلّدات، وإن كانت لا تلغي، بطبيعة الحال، أنّ ما يحصل عندنا يؤثّر أيضاً في أوروبا: يكفي تذكّر النتائج التي ترتّبت على ارتفاع أسعار النفط في أواسط السبعينات، أو الصلة الوثيقة بين موجات اللجوء والهجرة وبين الانبعاث الشعبويّ… هذا من غير أن نذكّر بتواريخ أقدم عهداً، كالحروب الصليبيّة والنزاع على أسبانيا والمواجهات العثمانيّة – الأوروبيّة، وقبلها جميعاً توسّط العرب والمسلمين بين ثقافة الإغريق وبلوغها إلى أوروبا.
كلّ ذلك يُفترض أنّه من البديهيّات التي لا تعاملها الأفكار الأبرشيّة والانعزاليّة بوصفها بديهيّات.
والحال أنّ الوجهة هذه لا تعدو كونها تتويجاً لمسار تاريخيّ مديد بدأ بتقريب أمكنة العالم وتوحيد أزمنته التي صارت خطّيّةً بعدما كانت دوريّةً، بحيث أعطي الفعلُ الإنسانيّ وظيفة كانت حكراً على تقلّب الفصول ودوران الأفلاك. هكذا، وفي سياق عمليّة كهذه، حلّ التغيّر محلّ الثبات، وغيرُ المتوقّع محلّ المتوقّع.
لاحقاً، مع الثورة العلميّة ومع الرأسماليّة الصناعيّة التي وحّدت العالم، بالغزو طبعاً، ولكنْ أيضاً بسكك الحديد والقنوات المائيّة والمدارس وسواها، حصلت النقلة النوعيّة الكبرى في تصوّر الكون واحداً والزمن واحداً. لقد ضُغط الزمن كما ضُغط المكان، بالقطار والسيّارة والطائرة والتليفون والراديو والتلفزيون، قبل أن تضيف الثورة المعلوماتيّة والعولمة الاقتصاديّة مساهماتهما، من الفاكس إلى الإنترنت، ومن الكابلات البحريّة إلى الأقمار الصناعيّة. وفي هذا كلّه أدّت التجارة دورها النوعيّ تبادلاً وصياغةً لحياة البشر وأذواقهم ومتطلّباتهم…
ضدّ هذا كلّه شكّلت السياسة، بأعرض معانيها، حلبة الصراع التي تعترض طريق العالم إلى وحدته. والصراع هذا، وإن حرّكه قدر ليس قليلاً من التفاوت ومن العنف اللذين ينطوي عليهما مسار الوحدة، فقد وظّفه القوميّون والشعبويّون، في الغرب كما في الشرق، لا لوقف حركة الوحدة مع الآخر فحسب، بل أيضاً لوقف المعرفة بهذا الآخر، دع جانباً التعاطف معه في مآسيه.
إنّ نظريّة «مآسي أوروبا لا تعنينا» وجدت امتحانها الأكبر في تجاهلنا أموراً كالمحرقة اليهوديّة بحجج من نوع أنّنا لم نرتكبها، وأنّنا، نحن العرب، مَن دفع ثمنها. وهي حجج قد تفسّر جزئياً ذاك التجاهل لكنّها لا تبرّره إطلاقاً. أمّا الامتحانات التي توالت، وكنّا نرسب فيها، الواحد تلو الآخر، فكانت كثيرة جدّاً، يجمع بينها عنوان مشترك: النظر إلى الكون من ثقب «قضايانا»، وهي تارةً «مركزيّة» وطوراً «بوصلة».
وهذا لئن ضيّق نظرتنا إلى العالم، فالأخطرُ أنّه عاد على قضايانا نفسها بالهزائم والإخفاقات. ذاك أنّ نظريّة «مآسيهم لا تعنينا» تتواطأ فعليّاً مع الذين يتسبّبون بتلك المآسي، أكانوا الفاشيّة مرّة، والشيوعيّة السوفياتيّة مرّة أخرى، والروسيّة البوتينيّة اليوم. وهؤلاء لم يربحوا، ولن يربحوا، لأسباب في عدادها أنّ العالم لا يعنيهم. هكذا يقودنا عدم الاكتراث إلى شراكة من نوع آخر، شراكةٍ في هزائم أولئك المهزومين بعد مشاركتهم نظريّةَ إدارة الظهر إلى العالم.
سمير عطا الله:البث Live… جميع الأقنية
العام 1929 حقق البريطانيون سبقاً علمياً على الأميركيين ومن قلب نيويورك أيضاً: أول نقل تلفزيوني مباشر على عدسة «البي. بي.سي» تلقف الأميركيون الاختراع المذهل كالمعتاد، وأخذوا، منذ 1951، يصرفون المليارات على تطويره. أولاً في التغطية الداخلية، ومن ثم رأينا «السي. إن. إن» تحمل إلى غرفة كل فندق في العالم، كل ما يحدث طوال اليوم في أنحاء العالم. وبعدها صار لكل البلدان وكل الأحداث وكل الحروب قنوات تنقلها Live لحظة بلحظة.
مقلقة صور هذا العالم، Live، في الماضي كانت صور قصف البيوت وحرقها تنقل لاحقاً بعد اختيارها و«تحريرها». فلا ترى جثة طفل ملقاة على الأرض، أو امرأة عمياء تعدو هرباً متكئة على ذراعي رجلين مذعورين هما أيضاً، لكنهما قادران على رؤية درب الهروب. أو طفل على الحدود البولندية يلعب ضاحكاً لأنه لا يدرك لماذا هو هنا بين الآلاف من الناس، أو آلافاً من البشر يسيرون في طرقات لا تعرفها إلى أماكن لا تعرفها ولا تعرف من رماها، ولماذا، إلى الثلوج والجوع وقطع مئات الأميال مشياً، أو مشهد مدينة جميلة متحضرة يدوي فيها صوت الغارات وصوت اليائسين والبائسين، أو مشهد مجموعة هاربة من بيوتها المحترقة تُقصف فجأة على طريق الفزع وهي لَما تُبعد بعد عن منازلها المحترقة.
مخيف ومحزن هذا العالم عندما تراه Live لأنك ستسمع فلاديمير بوتين، يعلن أنه يفعل هذا من أجل تخليص أوكرانيا من النازية وهمجياتها. ذلك هو الهدف النبيل من دك المدن والقرى وطرق الهرب. لا نازية بعد اليوم. وليفهم ملايين اللاجئين أولاً وأخيراً.
لكن قبل ذلك هناك بعض الخطوات الديمقراطية الأساسية: إسقاط الحكومة القائمة، إلغاء الرئيس، توقيع الضحية في الموافقة على استسلامها واحتقار نفسها وتمجيد احتلالها.
كل هذا Live. من لا يصدق هذا الموقف ليس عليه إلا أن يدير قناته المفضلة. الصورة نفسها على كل القنوات. المحللون يحاولون قراءة أفكار بوتين، الحلف الأطلسي يفيق من النوم ويفرك عينيه. وعلى حدود رومانيا، أفقر بلدان العالم، فلاحة فقيرة ذات اختصاص: توزيع ألواح الشوكولا من سلتها على أطفال اللاجئين وحدهم. وعلى الحدود الأخرى، الدولة الأكثر فقراً، مولدوفا، تستقبل وتطبخ وتخبز. وLive يسأل لاجئ معه عائلته: هل نحن على حدود بولندا؟ فيقول له الشرطي، أنت على حدود مولدوفا، فيعود ويسأل، كم تبعد بولندا من هنا؟ يقول الشرطي وهو يدير وجهه حزناً: 250 كيلومتراً. Live.
هل تنام، يسأل لاجئ الآخر؟ أنام؟ أنا في كابوس يدوم 24 ساعة. لكن أحداً لا يعرف كم يوماً سوف يدوم، كم شهراً، كم سنة. المحللون والسياسيون والناطقون الرسميون ليس لديهم أي شيء من التفاؤل يعطونه للناس. يقاطعهم، في البث المباشر، صوت صفارات الإنذار في أنحاء كييف الغارقة في العتم. كم تقدم العالم. كل هذا Live أمامك لحظة بلحظة. مع الأسف، السلام متأخر جداً. الرجل منشغل في تدبير أمنه الاستراتيجي.