سيظل عشاق السينما للأبد يذكرون عام 2019 كواحد من الأعوام شديدة التفرد، إذ ضم عدداً كبيراً من الأفلام الجميلة من عديد من الدول، كأن صناع السينما اتفقوا على أن يُبقوا دُررهم لعرضها في هذا العام. تأتي جوائز الأوسكار في بداية العام لتكلل إنجازات العام السابق.
الآن لنضع في الحسبان أمرين: الأول أن جوائز الأوسكار صارت في السنوات الأخيرة تحديداً تواجه اتهامات بأنها مسيَّسة، والثاني أن هذه الجوائز تركز بشكل رئيسي على الأفلام الناطقة بالإنجليزية، وبوجه خاصٍ الأمريكية، مع وجود جائزة مخصصة للأفلام غير الناطقة بالإنجليزية.
لنتذكر هذا، لأنه سيتغير تماماً في جوائز عام 2020.
الفيلم صاحب الألقاب القياسية
في مفاجأة كبيرة حصل الفيلم الكوري الجنوبي «Parasite» (الطفيلي)، من إخراج بونج جون هو، على جائزة أفضل فيلم، بالإضافة إلى جوائز أفضل مخرج وأفضل سيناريو وبالطبع أفضل فيلم دولي، ليحقق كثيراً من الأرقام القياسية التي لم يتوقعها حتى مُخرج الفيلم نفسه، الذي قال في أثناء تسلُّمه الجائزة الثالثة «أفضل مخرج»: «ظننت أن الأمر انتهى بالنسبة لي بعد جائزة أفضل سيناريو».
بهذه الجوائز الأربع يصبح «الطفيلي» أول فيلم غير أمريكي أو إنجليزي يحصل على جائزة أفضل فيلم، وأول فيلم كوري يفوز بجائزة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية أو أفضل فيلم دولي كما صار مسماها بداية من هذه النسخة. كما أنه أول فيلم يجمع بين الجائزتين، بعد أن ترشحت عدة أفلام للجائزتين، آخرها «Roma» (روما) العام الماضي، لكن نيلهما معاً كان أمراً عصيّاً.
في حقيقة الأمر، ومنذ عرضه للمرة الأولى في مهرجان «كان» السينمائي حيث حصد جائزة السعفة الذهبية، وفيلم «Parasite» يتصدر قوائم أفضل أفلام 2019 لدى عديد من النقاد، ورغم هذا استبعد الغالبية فوز الفيلم بأوسكار أفضل فيلم، وهذا لسببين :الأول لصعوبة أن يفوز بالجائزة فيلم غير أمريكي كما ذكرنا، لأن أعضاء الأكاديمية عادةً ما يصوتون للفيلم الأمريكي، والثاني لأن المنافسة هذا العام شرسة بالفعل، والخصم الأبرز كان فيلم «1917» من إخراج سام ميندز، والذي اكتسح عن استحقاقٍ أغلب الجوائز الأخرى، مثل الكرة الذهبية «Golden Globes» وغيرها، ولهذا شكَّل فوزه مفاجأة.
إذا انتقلنا إلى جائزة أفضل مُخرج، فسنجد الأمر ليس بالصعوبة نفسها؛ بل في واقع الأمر إنَّ فرص المخرجين غير الأمريكيين في الحصول على جائزة الإخراج أوفر من فرص نظرائهم الأمريكيين، فمنذ عام 2011 وحتى العام الحالي حصل مخرج أمريكي واحد فقط على الجائزة، وهو داميان شازيل، الذي حصدها عن فيلمه «La La Land» (لا لا لاند)، في حين ذهبت في 9 مرات أخرى -بحساب العام الحالي- إلى مخرج غير أمريكي. لكن هذا لا يعني بالطبع أن الجائزة كانت محسومة لبونج جون هو، إذ مرة أخرى نجد أن المنافسة كانت صعبة، فهو مرشح أمام مارتن سكورسيزي عن «The Irishman» (الأيرلندي)، وكوينتن تارانتينو عن «Once Upon a Time …in Hollywood» (حدث ذات مرة في هوليوود)، وسام ميندز -المرشح الذي كان أوفر حظاً- عن «1917»، وتود فيلبس عن «Joker» (جوكر)، وربما يضيف هذا مزيداً من الأَلَق إلى أوسكار الإخراج التي حصل عليها جون هو، إذ هي من المرات النادرة في تاريخ الأوسكار التي تكون المنافسة فيها بين 5 أسماء تستحق جميعها الفوز بالفعل.
رحبوا بالسينما الكورية
عكس المفاجأة في الجائزتين السابقتين، كان فوز «الطفيلي» بجائزة أفضل فيلم دولي أمراً متوقعاً، لكن الطريف هنا أنها المرة الأولى التي تصل فيها كوريا الجنوبية إلى القائمة النهائية بهذه الفئة. في حين كانت جائزة السيناريو في المنتصف من التوقعات، فلا هي مستبعدة تماماً ولا هي متوقعة تماماً.
تعد هذه الجائزة تكليلاً واضحاً للسينما الكورية التي تشهد نهضة رائعة مع جيل شديد التفرد من المخرجين، حتى بات لا يخلو أي مهرجان كبير من أفلام كوريا الجنوبية، بل حصد بعضها جوائز رئيسية مثل الفيلم الشهير «Oldboy» (أولدبوي) للمخرج بارك شان ووك، الذي حصل على جائزة لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان «كان» عام 2003. مع «الطفيلي» تجاوز الأمر النجاح على مستوى النقاد ووصل إلى نجاح جماهيري لافت، إذ حقق داخل أمريكا وحدها 35 مليون دولار، متجاوزاً بهذا أفلاماً أخرى مستقلة أمريكية مثل «Jojo Rabbit» (الأرنب جوجو)، في حين حقق حول العالم إيرادات بلغت 165 مليوناً.
بالنظر إلى تاريخ السينما الأمريكية سنجد أن السينما الآسيوية كانت دائماً مصدر إلهام لها، كثير من الأفلام الأمريكية المهمة كانت مقتبسة من أفلام آسيوية، مثل «The Magnificent Seven» (العظماء السبعة) المقتبس عن «Seven Samurai» (الساموراي السبعة) للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا، ولكن ليس هذا هو وجه التعاون الوحيد، إذ استقطبت السينما الأمريكية أيضاً عدداً من المخرجين الآسيويين لصناعة أفلام أمريكية، مثل التايواني آنج لي، وحتى بونج جون هو نفسه قدَّم «Okja» (أوكجا) وهو إنتاج أمريكي-كوري مشترك. لكن الأمر سيختلف بعد فوز «الطفيلي» بصورة أكبر.
في كلمة سابقة له قال جون هو: «بمجرد تخطِّيك حاجز الترجمة الصغيرة، ستجد نفسك منفتحاً على مزيد من الأفلام الرائعة»، يبدو أن الجمهور الأمريكي عمِل بنصيحته، وهو ما يعني انتشاراً أكبر للسينما الكورية في الفترة القادمة.
الخاسر الأكبر
مثلما تصدرت نتفليكس قائمة الشركات التي حصلت أفلامها على ترشيحات بـ24 ترشيحاً، تصدرت أيضاً قائمة الخاسرين، إذ خرجت بجائزتين فقط، هما: أفضل ممثلة مساعدة والتي ذهبت إلى لورا ديرن عن دورها في «Marriage Story» (قصة زواج)، وبالمناسبة هي واحدة من الفئات القليلة هذا العام التي لم تشهد منافسة قوية أو حتى تألقاً لافتاً للفائزة. بينما الجائزة الثانية كانت أفضل فيلم تسجيلي طويل والتي ذهبت إلى «American Factory» (المصنع الأمريكي). توزعت ترشيحات نتفليكس بشكل رئيسي على 3 أفلام هي: «الأيرلندي» و «Marriage Story» (قصة زواج) و «The Two Popes» (البابوان)، أبرزها الأول بالطبع، والذي ترشح وحده لـ10 جوائز، أغلبها في فئات رئيسية، مثل الإخراج والمونتاج والسيناريو المقتبس، بالإضافة إلى أفضل فيلم، لم يحصد منها أي شيء.
ليس كل المتوقع سيئاً
بعيداً عما ذكرناه في السطور السابقة، تتميز هذه النسخة من الأوسكار بأن كثيراً من جوائزها كانت متوقعة، فجوائز التمثيل الأربع كانت نسخة طبق الأصل تقريباً في أغلب حفلات توزيع الجوائز، وجائزة الموسيقى التصويرية التي ذهبت إلى هيلدر جوانادوتير عن فيلم «Joker» (جوكر) أيضاً كانت متوقعة، وكذلك أوسكار أفضل مونتاج التي ذهبت إلى فيلم «Ford v Ferrari» (فورد ضد فيراري)، والأمر نفسه ينطبق على جائزة التصوير التي ذهبت إلى روجر ديكنز عن عمله الرائع في «1917».
ربما شكَّل فوز «Toy Story 4» بجائزة أفضل فيلم حركة، المفاجأة الوحيدة التي لم تكن سارَّة تماماً، إذ كان فيلم «Missing Link» (الرابط المفقود) هو الأقرب بعد فوزه بالكرة الذهبية، بالإضافة إلى أن وجود فيلمي «Klaus» (كلاوس) و «I Lost My Body» (لقد فقدت جسدي) في الترشيحات قلل من حظوظ فيلم بيكسار، لكنه نجح بالنهاية في الحصول على الجائزة، لتضاف جائزة أخرى إلى بيكسار وديزني التي تسيطر على جوائز أفلام الحركة الطويلة منذ عام 2013.
لكن على غير العادة، لم يزعجنا وجود جوائز متوقعة، إذ إن أغلب هذه الجوائز ذهبت إلى الأفضل بالفعل، ولم تكن هناك مفاجآت غير سارَّة، فلم يتغير المظروف في نهاية الحفل أو تذهب إحدى الجوائز إلى فيلم خارج التوقعات مثل جائزة المونتاج في العام الماضي، والتي ذهبت لفيلم لم يكن يستحق مجرد الترشح في هذه الفئة وهو «Bohemian Rhapsody» (الافتتان البوهيمي).
قد يرى البعض في فوز «الطفيلي» أيضاً جانباً سياسياً، إذ قد يكون البعض صوَّتوا للفيلم غير الأمريكي، فقط لمنح الجائزة لفيلم غير أمريكي أو غير ناطق بالإنجليزية للمرة الأولى، وإن كانت هذه القاعدة يصعب تطبيقها على هذا الفيلم، إذ إنه يستحق الفوز بالفعل. جاءت جوائز الأوسكار هذا العام بفائزين أفضل من التوقعات، ومثلما كان عام 2019 عاماً فارقاً، ستصبح جوائز الأوسكار لهذا العام علامة فارقة أيضاً.