قد يكون عهد المأمون، الذي امتد على عشرين سنة من عام 813 إلى عام 833، قد استهل بالدماء الأخوية، إلا أنه في نهاية خلافته، ترك إرثاً من الإنجازات الفكرية العظيمة لم توازها أي خلافة عباسية. ووضع المأمون الأسس للأبحاث العلمية من خلال رعايته العلماء بسخاءٍ كبيرٍ: فهو جذب أعظم الباحثين المعاصرين إلى بغداد برواتب عالية ومناصب مرموقة ليجروا أبحاثهم في تلك المدينة المهمة من العالم.
ومنحت أحدث تكنولوجيات الورق، التي وصلت إلى بغداد من الصين في أواخر القرن الثامن، فرص ازدهار جيلٍ جديدٍ من الخطاطين والمترجمين المتمتعين برواتب عالية، والصارفين اهتمامهم إلى دراسة الحقوق الرومانية والطب اليوناني، والرياضيات، والفلسفة، والجغرافيا، والتصوف الهندي، والثقافة الفارسية، وعلم الخرائط، وعلم الفلك، وشعر الجاهلية. وفي خلافة المأمون، أصبح بيت الحكمة المعزز والمزخرف، القلب النابض للنشاط الفكري العباسي، ومركز الأرشفة العباسية الملكية، وأكاديمية تعليمية، ومكتبة، وخلية للتفكير، ومكتب ترجمة، معززاً بفريق عملٍ محترفٍ مشكلٍ من علماء ونساخ ومجلدي كتب. وفي أواسط القرن التاسع، بات البيت أكبر مخزون للكتب في العالم، «نبتت من زرعه كل إجازات العصر الذهبي للعلوم العربية، من أوزبكستان في الشرق إلى إسبانيا في الغرب».
وانتشرت ترددات بغداد الفكرية في أنحاء آسيا كلها، وكان عصر بروز الكتب الجديدة والمكتبات وغرف القراءة ومتاجر الكتب وفيضٍ من الدراسات. وفي عام 828 أوكل المأمون مرصداً فلكياً كان الأول في العالم الإسلامي، ليتحقق من الملاحظات التي كان قد دونها عالم الفلك والجغرافي بطليموس في القرن الثاني، تحديداً في كتابه الشهير «المجسطي». وكان هذا العمل إنجازاً طويل الأمد في التصميم والتوصيل، وكان «أول مشروعٍ علمي واسع النطاق وممول من الدولة في العالم».
وطلب المأمون من كل من الإخوة بني موسى: محمد وأحمد وحسن، الذين كانوا علماء في الرياضيات والفلك والهندسة، أن يقيموا دقة القياسات القديمة لمحيط الأرض. فأخذوا يثبتون الحبال ويمدونها أرضاً لأميالٍ وأميالٍ طوال سهل سنجار، شمال غربي بغداد، ومن ثم كرروا العملية في الصحراء حول الكوفة من أجل التحقق من أرقامهم، وبعد أن أخذوا مقاسات ارتفاع النجم القطبي، قدروا مقاس محيط الأرض بأربعٍ وعشرين ألف ميلٍ، وهو رقمٌ يتناسب والقياس القديم العالمي (وكان الرقم تحديداً 24.902 ميل). وكان الإخوة بنو موسى أصحاب نفوذٍ وقوة، ومولوا مهمات إلى بيزنطيا بهدف إعادة مخطوطات جديدة من أجل ترجمتها عن يد باحثين تعاقدوا معهم ودفعوا لهم رواتب جذابة للغاية، تكاد تضاهي رواتب كبار القواد. وكان محمد بن موسى الخوارزمي (توفي سنة 850 م) بارزاً بين الباحثين والعلماء في بيت الحكمة، وعالماً في الرياضيات والفلك، مؤلف كتاب «المختصر في حساب الجبر والمقابلة»، الرائد، الذي أهداه إلى المأمون، مثل العديد من الدراسات العظيمة التي كُتبت في حينها. وغالباً ما يُذكر الرجل كلما استخدمت كلمة «الجبر» التي نبعت من عمله البارز، الذي كان أيضا سبباً لانتقال الأرقام العربية إلى الغرب في العصور الوسطى. وتضمن كتابٌ مهمٌ آخر من تأليفه، وهو «كتاب الجمع والتفريق في الحساب الهندي»، للمرة الأولى، نظام الترقيم العشري المؤلف من تسعة أرقام والصفر، «الرقم العاشر الذي يتخذ شكلاً دائرياً»، ما فتح المجال أمام اكتشاف الكسور العشرية واستخدامها لاحقاً في الرياضيات.
مدن الإسلام: جميع القلوب
قال اليعقوبي: «المدينة العظمى، التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها سعة وكبراً وعمارة وكثرة مياه وصحة وهواء… آثرها جميع أهل الآفاق على أوطانهم فليس من أهل البلد إلا ولهم فيها محلة أو متجر ومتصرف، فاجتمع بها ما ليس في مدينة بالدنيا».
بناها الخليفة المنصور على دجلة عام 762. وحملت في البداية اسمه، «مدينة المنصور»، لكن أهلها فضلوا عليه اسم «مدينة السلام» أو «دار السلام». وأصبحت في «قلب الإسلام»، كما قال المقدسي: «جميع القلوب تنتمي إليها، وجميع الحروب ضدها، وكل يد ترفع للدفاع عنها».
لكن مدينة السلام كانت أيضاً مدينة الحروب والشقاء بعد أمجاد طويلة. ومدينة الحجاج الذي رأى الرؤوس يانعة وحان قطافها. وبسبب جمالها وعظمتها ولدت حولها الأساطير. وروى الرواة من الحقائق والمخيلات كما في عصر الخليفة هارون الرشيد الذي أرفق بحكايات السندباد، وألف ليلة وليلة، سوف يتضح من السلسلة أنني أغفلت، إلا مضطراً، حديث النزاعات والكوارث والمجازر. وهي كثيرة. لكن الأكثر عدداً منها حقب الخير والكرم والعفو والخصائل الطيبة. وهذا خيار وليس خطأ أو تحويراً في التاريخ.
وفي غضون سنتين على وفاة هارون الرشيد في عام 809، وقعت بغداد في حربٍ شديدةٍ وطاحنة بين نجليه ووريثيه، الأمين والمأمون. وكان هذا النزاع الذي دمّر معظم المدينة ووضع نهاية لازدهار قلب بغداد السياسيّ والاجتماعيّ من انفجارٍ عنيفٍ واسع النطاق، وسلسلة من المعارك الدامية التي حملت طابعاً جنونياً أحياناً، راحت تتكرر في تاريخ مدينة السلام.
وفي أثناء الحرب الأهليّة في الأعوام من 811 إلى 813، وقعت المدينة أولاً تحت حصار المأمون الذي أمطرها بالحجارة والقنابل والصواريخ، وفتح نار مدافعه المنصوبة في أرجاء المدينة، ما دفع بالأمين إلى الانسحاب للمدينة الدائرية ليقف وقفته الأخيرة فيها، لكن الهجوم كان شرساً لغاية أنه اضطرّ إلى ترك قصر الخلد الخاص بالمنصور، ولم يشأ أن يذهب قبل أن يحرق ذاك المبنى الذي كان يحبّه البغداديون.
وبحسب الشاعر الخُريمي، أصبحت بغداد التي كانت «جنة على الأرض» و«منبعاً للسعادة» بقصورها المبهرة وحدائقها الرائعة وعازفي موسيقاها، «فارغة كأمعاء حيوانٍ برّي»، قاحلة، أشبه بجحيم محترق تولول في شوارعه أرامل الحرب وتنقضّ الكلاب على جثثه الهامدة. حتى إن النهر الذي يُشبّه بمرآةٍ لامعة، أو سلسلة من اللآلئ المعروضة على الصدر، فَقَد جماله، ولم يعد سوى مكان تُرمى فيه جثث الرجال والنساء والأولاد. وتلقَّت أجزاءٌ كبيرة من بغداد أضراراً جسيمة. وبعد أن طوقته قوات أخيه، حاول الأمين الهرب عبر النهر، لكنّ أعداءه ألقوا القبض عليه ولقيَ حتفه بطريقة أصبحت من بعدها مألوفة مكررة في تاريخ بغداد المضطرب والطويل: انهال الجنود عليه وقطعوا رأسه وجسده.