قدمت بغداد أعظم عالم فيزياء في العصور الوسطى، وهو الرازي (854 م – 935 م)، الذي كان رائداً في الفيزياء، وفيلسوفاً، وكاتباً غزير الإنتاج، لا سيما في المجال الطبي الذي خاضه بجدارة. وكان «كتاب الأسرار» الذي قسم من خلاله المادة إلى أربع فئات (الحيوان والنبات والمعادن وما يتحدر منها)، خطوة بارزة تبتعد عن الخيمياء والشعوذة، وتقترب من العمليات المختبرية والاستنتاج الذي سيقود لاحقاً إلى التصنيف العلمي للمواد الكيميائية. ونظرته إلى الوقت على أنه مطلق ولا متناهٍ، وعدم ارتباط وجوده بالحركة والمادة، كانت مبتكرة إلى حدٍ بعيدٍ، وتم ربطها بنظريات نيوتن لاحقاً. وفي بعض ما كتب، يُظهر الرازي ازدراء لخصومه المحافظين، وكأنه يتنبأ بمأساة مستقبل بغداد المضطرب. ولا يمكن وصف الثقافة العلمية في بغداد العباسية الأولى وصفاً شاملاً من دون التحدث عن أبي يوسف يعقوب الكندي (800م – 873م)، وهو أول فلاسفة العرب، إلى جانب كونه عالم رياضيات وفيزياء وفلك، وموسيقياً، ومعلماً لابن الخليفة المعتصم، (833 – 42)، خلف المأمون. وهو الكندي مَن مسؤولاً عن إدخال الفلسفة الإغريقية في العالم الإسلامي، أكثر من أي عالم آخر في القرن التاسع. وفيما كان الشعراء مشاهير العصر العباسي ويتقاضون مبالغ كبيرة لقاء أعمالهم، استطاع كذلك الأدباء كتاب النثر الذي كان في بداياته، جذب اهتمام الخليفة. ولعل أهمهم فطنة كان الجاحظ، المعروف بـ«الحدقي» (776م – 868م)، المتحدر من وسطٍ متواضعٍ في البصرة. ومثل العديد من عقول جيله العريقة، انتقل إلى بغداد في أوائل القرن التاسع بهدف إظهار مواهبه في أعظم مدينة في الإمبراطورية الإسلامية. وكان الجاحظ «على الأرجح، أعظم أئمة الأدب العربي على الإطلاق»، أديباً يتمتع «بعبقرية فريدة».
وكان دؤوباً غزير الإنتاج، نشر 231 عنواناً، أشهرها «كتاب الحيوان» المؤلف من سبعة أجزاء، الذي اعتمد على أعمال أرسطو، ويعتبر البعض أنه كان يحتوي على نواة نظرية التطور الطبيعي الخاصة بداروين، قبل ألفية على صدورها. كان أديباً عظيماً جذبت كتاباته عقول الفقهاء في حينها، وكان واسع الفكر وجريئاً في أفكاره. وفي كتبه تناول موضوعات مثل تفوق الرجال السود على البيض، وسباق الحمام، والفقه الإسلامي، والبخل، ونظرة أرسطو إلى السمك. وكما يسعى الناشرون اليوم إلى تقديم أهم الهدايا لأشهر الكتاب، كان الوزراء والقضاة وأعرق رجال المجتمع في بغداد يبذلون كامل جهدهم ليدفعوا المبالغ الطائلة للجاحظ مقابل أن يذكرهم في إهداءات أعماله الوفيرة. إلى اللقاء…