الحقيقة غالبا ما تكون مرة وتحتاج لكثير من الكلمات، وهي بذلك لا تتناسب مع العناوين الرئيسية، وبما أن رهانات الحرب على أوكرانيا كبيرة فلا ينبغي أن نتعامى عن أي جانب من جوانبها، ويجب ألا يترك الحبل على الغارب للأخبار المزيفة، سواء كان مصدرها روسيا أو أوكرانيا.
ما سبق يلخص ما جاء بمقال للكاتب الأميركي ديفيد فولودزكو، والذي قال في بدايته إن ثمة من يقول إن الكلمة الإنجليزية (Disinformation) (معلومات مضللة) هي في الأصل من الكلمة الروسية (Dezinformatsiya).
وهو ما يتماشى -حسب مقال الكاتب في موقع “ديلي بيست” (Daily Beast) الإخباري الأميركي- مع كون روسيا حاليا هي أحد أكبر مصادر المعلومات المضللة، وحربها على أوكرانيا غدت الآن أحد أكبر مصادر الدعاية والأخبار المزيفة والأكاذيب.
ولإعادة صياغة مقولة قديمة -يقول الكاتب- يبدو الآن أن هناك 3 روايات لكل مظهر من مظاهر هذه الحرب: رواية روسية، وأخرى أوكرانية، والرواية الحقيقية.
وهنا أكد الكاتب أن ذلك غدا سهلا الآن بسبب وجود بيئة وسائط رقمية بارعة بشكل مذهل، ليس في نشر الحقيقة، وإنما ببساطة في نشر أي شيء، مما يجعل الرواية الحقيقية للأحداث أكثر أهمية من أي وقت مضى، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار حجم الرهانات والمخاطر في هذه الحرب بالذات.
ولتوضيح ما ذهب إليه، يقول الكاتب إنه كان في الفترة الأخيرة على الحدود الأوكرانية، وإنه خصص ما كان لديه من وقت فراغ ضئيل في قراءة التغطية الغربية للأحداث، مع محاولة الحفاظ على نظرة شمولية لها، لكنه لاحظ أن الكثير من التقارير لم تكن مطابقة لما كان يراه على الأرض أو ما كان يسمعه من الخبراء أو من الأوكرانيين والبولنديين.
واستنتج الكاتب من ذلك أن الكثيرين بالغوا خلال تغطياتهم الإخبارية في تبسيط جوانب الحرب لهدف ما أو لكي تناسب روايات معينة.
وسرد بعض الأمثلة، فذكر مثلا أن قول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه يريد تطهير أوكرانيا من القوميين والنازيين كما لو كان البلد رهينا في يد هؤلاء، وكما لو كانوا هم من يمنعون أوكرانيا من الاتحاد مع روسيا.
أو ربما يعتقد بوتين -حسب الكاتب- أن مواطني أوكرانيا هم كذلك جزء من المشكلة “فهم كلهم نازيون يرون في زعيم النازية أدولف هتلر مثلهم الأعلى”.
وفي الجانب الآخر، هناك من ينفون جملة وتفصيلا وجود مشكلة نازية في أوكرانيا، ويعتبرون ذلك مجرد كذبة لتبرير مهاجمتها.
والحقيقة هي أن كلا الطرفين مخطئ وفقا للكاتب، فالواقع أن أوكرانيا لديها مشكلة نازية، ولا يقتصر ذلك على الهجمات المعادية للسامية وإنما تنتشر في البلد مستويات مقلقة من العنف ضد الغجر والآسيويين والسود والمسلمين والتتار وغيرهم من الأقليات، مشيرا إلى أن وزارة الخارجية الأميركية كانت قد كشفت في تقرير لها عام 2005 أن أوكرانيا توجد فيها مجموعات هي الأشد معاداة للسامية في أوروبا الشرقية.
في المقابل، ذكر الكاتب أن هجمات البيض المتطرفين تقع بالفعل في أوكرانيا، لكنها على نطاق محدود، إذ لم تسجل الشرطة الأوكرانية خلال عام 2020 سوى 203 هجمات، كما أن الحزب الذي ينتمي إليه هؤلاء المتطرفون لم يحصل خلال انتخابات 2019 سوى على 2% من أصوات الناخبين، ناهيك عن كون الرئيس الأوكراني نفسه يهودي.
وهناك أيضا تلك الرواية المنتشرة التي تتهم الدول الغربية بأنها تهتم أكثر بأوكرانيا لأن الضحايا من البيض، وفي كثير من الأحيان تتم المقارنة بأزمة اللاجئين السوريين.
وهنا يقول الكاتب إنه لا شك في أن العنصرية تلعب دورا هنا، وهو ما عكسته العديد من الأمثلة لمراسلين يصفون مهاجمة روسيا لأوكرانيا بأنها غزو لهذه الأمة “المتحضرة نسبيا” مقارنة بأجزاء أخرى من العالم، ومنهم من أعرب عن أسفه لأن من يقتلون هم أوروبيون ذوو عيون زرقاء.
ولكن -يضيف الكاتب- هناك ما هو أكثر من ذلك، فينبغي للمرء أن يعذر الدول الأوروبية إن هي أعطت مزيدا من الاهتمام للحرب في أوروبا الشرقية، كما أنه من المنطقي أيضا أن تكون الدول في كل مكان أكثر استثمارا في حرب قد تؤدي إلى خراب اقتصادي عالمي أو صراع نووي أو حرب عالمية ثالثة مقارنة بالحروب الأخيرة الأخرى التي لا يبدو أنها تنطوي على مثل هذه المخاطر.
أما إذا تعلق الأمر بالتعاطف مع اللاجئين فإن الكاتب يوضح أن الناس يميلون أكثر للشعور بالأسف تجاه النساء والأطفال الفارين من الحرب مقارنة بالرجال.
ويضيف أن 71% من اللاجئين السوريين كانوا رجالا، فيما لم يكن يوجد بين اللاجئين الأوكرانيين رجال تقريبا، اللهم إلا من كانوا فوق سن الـ60 أو معاقين، أي أن أغلبية اللاجئين الأوكرانيين من النساء والأطفال، بل إن نصفهم من الأطفال، ولذلك يُنظر إليهم على أنهم أقل تهديدا، وهو ما يفسر جزئيا سبب ترحيب المجتمعات الأخرى بهم.
واختتم الكاتب بالفكرة القائلة إن الأوكرانيين يكرهون الروس، أو موالون لروسيا، أو روس في واقع أمرهم، وهو ما قال إنه يحتاج تمحيصا هو الآخر، وأشار إلى أنه سأل عددا من الأوكرانيين فقالوا إنهم يكرهون بوتين، أما الروس فلا يكرهونهم، وهو ما أرجعه الكاتب إلى كون الأوكراني هو في جزء منه روسي، وهو ما يعود جزئيا إلى عقود من الهندسة السكانية المتعمدة من قبل روسيا.