كان درويش أكثر تحفظاً من رنا قباني فهي لم تتردد في الكشف عن المطبات الصعبة التي دفعت الطرفين إلى الانفصال
قل أن ترددت في تناول الحياة العاطفية والزوجية لأحد من الكتاب، كما هو الحال مع محمود درويش. ليس فقط لقلة المصادر المدونة التي تناولت علاقة درويش بالمرأة، بالقدر الكافي من الوثوقية والعمق، بل لأن شاعر «ورد أقل» لم يشأ من جهته أن يسرب إلى الخارج، باستثناء قلة من أصدقائه الأقربين، سوى النزر القليل من مغامراته العاطفية مع نساء حياته «الكثر». ربما بسبب تحفظ سلوكي مرتبط بنشأته الريفية، أو خجل مقيم في أعماقه، كما وصفه صديقه الأثير غانم زريقات، وربما رغبة منه في مواراة شؤونه الحميمة خلف سياج شائك، لكي يوفر لأسطورته الشخصية ما يلزمها من الغموض والكتمان. أما السبب الآخر للتردد، فيتمثل بحاجة الفلسطينيين والعرب، إلى مجموعة من الرموز الأيقونية التي تحتاج إليها الأمة المأزومة للانعتاق من واقعها السوداوي وصورتها «الأرضية» القاتمة. والأرجح أن مثل هذه العملية التحويلية لا تستقيم إلا من خلال إلباس الرموز المعنية لباس المقدس نفسه، وإحاطتها بالتالي بهالة ميتا – جسدية لا يجوز انتهاكها والمس بها. على أن هذه ظاهرة الأيقونة تلك لم تقتصر على درويش وحده، بل هي تطال رموزاً أخرى مماثلة من طراز أسمهان وأم كلثوم وفيروز وغسان كنفاني، وآخرين غيرهم، حيث كانت الأعمال الفنية والأدبية المتصلة بسيرهم الشخصية، محلاً للرفض والتوجس والاستنكار.
والواقع أن محمود درويش كان على امتداد حياته موضع إعجاب الكثير من النساء، لا بسبب شاعريته المرهفة والعالية فحسب، بل لما كان يمتلكه من وسامة وذكاء حاد وكاريزما شخصية لافتة. ومع ذلك فلم يكن محمود من النوع الاستعراضي في علاقته بالنساء، ولم يذكر في قصائده عنهن أي واحدة بالاسم، خلافاً لما هو حال الكثير من شعراء العالم ومبدعيه. ومع أن البعض يعتقدون أن قصائد الحب التي كتبها صاحب «سرير الغريبة» لم تكن تتمحور حول امرأة بعينها، بل هي طريقته المواربة في التعبير عن حبه لفلسطين، فإن الشاعر ينفي ذلك بشكل قاطع، مؤكداً، في حواره مع عبده وازن، أن المرأة ليست مجرد أداة للكناية والترميز الوطني والنضالي، بل يحق لها أن تمتلك كينونتها القائمة بذاتها، ثم يضيف: «كل ما أكتبه في الحب أو سواه، ناجم عن تجارب حية، حتى لو أخذت الكتابة مجرى آخر يخرج عن سياق حادثة الحب».
ومع أن ريتا التي ذكرها محمود بالاسم في غير قصيدة له، كانت استثناء القاعدة، فقد تبين لاحقاً أن هذا الاسم ليس حقيقياً، وأن ملهمة الشاعر في مطالع صباه، لم تكن سوى الفتاة اليهودية تامار بن عامي، التي ربطته بها علاقة عاطفية قصيرة، قبل أن تجبرهما حرب حزيران عام 1967على العودة إلى معسكريهما المتصارعين بشكل لا هوادة فيه. ورغم أن شاعر فلسطين الأبرز لم يكن يرغب في إسقاط القضايا السياسية والوطنية الكبرى على علاقته المرأة، فإن هذه العلاقة قد تجاوزت بُعدها العاطفي الثنائي لتتلمس رمزيتها الدالة في المنطقة الملتبسة بين الأسطورة والتاريخ، ولتصبح مع تبادل الأدوار، نسخة أخرى معاصرة عن العلاقة الصعبة بين شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية. وحتى لو لم تكن ريتا الحقيقية هي تامار، بل الكاتبة اليسارية تانيا ريهارت كما يذهب البعض، أو الشاعرة الإسرائيلية داليا ريبكوفيتش، كما يذهب البعض الآخر، فإن ذلك لا يلغي «الواقعة» العاطفية التي أقر الشاعر نفسه بحدوثها. ولا أستبعد من جهتي أن تكون ريتا – القصيدة مزيجاً من هؤلاء جميعهن، خصوصاً أن درويش قد أشار في غير موضع إلى مثل هذا التداخل، تماماً كما كان شأن بابلو نيرودا، الذي يكن له محمود إعجاباً كبيراً، مع نساء قصائده.
إلا أن نظرة متفحصة إلى علاقات درويش العاطفية، لا بد أن تقودنا إلى الاستنتاج بأن علاقته بالكاتبة والباحثة السورية رنا قباني، هي بينها الأبرز والأعمق والأكثر اتصالاً بقلبه وعقله. أما واقعة لقائهما الغريبة فقد كشفت قباني بنفسها عن تفاصيلها المؤثرة عبر سلسلة من المقالات التي نشرت في إحدى الصحف العربية قبل سنوات. فقد التقى الطرفان عن طريق الصدفة، حين كانت رنا بعد على مقاعد الدراسة في واشنطن، وقررت بعد إلحاح من صديقة لها حضور الأمسية التي دعي الشاعر لإحيائها في جامعة جورج تاون. ورغم إعجاب قباني الفائق بشعر درويش فقد قررت أن تجلس في الصفوف الخلفية للقاعة، لأن الصفوف الأمامية تكون في العادة محط أنظار المشاهير من السياسيين والفنانين والكتاب المخضرمين، فيما الفتاة اليافعة التي تأنف من الرسميات، وتنتعل صندلاً مخملياً بكعب عالٍ وتطلي أصابع قدميها بالأسود، كانت تجد في المقاعد الخلفية ضالتها المناسبة. ولم يكن يدور في خلد ابنة السفير المثقف صباح قباني، شقيق الشاعر نزار، أن المفكر السياسي كلوفيس مقصود حين جرها من يدها إلى الصف الأول من القاعة وقدمها لدرويش، بدا وكأنه يقود حياتها نحو مصير آخر ووجهة مختلفة.
«هل تتزوجينني؟»، قال الشاعر الثلاثيني للفتاة الدمشقية الياسمينية ذات التسعة عشر ربيعاً، متخطياً فارق السن والظروف الاجتماعية من جهة، وخوفه المرَضي من قيود المؤسسة الزوجية من جهة أخرى. وبقدر ما كان السؤال صادماً لرنا، كان الجواب بالموافقة مفاجئاً لمحمود، الذي أقدر أنه كان في أعماقه يرغب في أن تكون الصبية الحسناء منجم إلهامه الشعري، لا امرأة الواقع «المسفوح» على مذبح الرتابة والتفاصيل اليومية النثرية. وقبل أن يتاح لكل من الطرفين أن يعود إلى عقله، وإلى تحليله المنطقي لمجريات الأمور، راحت الأحداث تجري بسرعة قياسية، بدءاً من التشريع العاجل للزواج، مروراً بالمحطة الباريسية واللقاء بعز الدين القلق، ووصولاً إلى المنزل الزوجي الواقع في الطابق الثامن من أحد مباني بيروت، الذي كان عليها أن تحمل حقيبتها الثقيلة، وتصعد إليه بسبب انقطاع الكهرباء سيراً على القدمين. وفي ظل انقطاع المياه وغياب التدفئة وتحول العاصمة اللبنانية إلى مدينة للأشباح، كان الجانب الرومانسي من العلاقة يخلي مكانه لمشاعر أخرى أكثر تعقيداً وأقل وردية من ذي قبل.
ومع أن العلاقة بين الزوجين الطافحين بالأحلام، بدت على مستوى السطوح الظاهرة مثالية ومتناغمة ومترعة بالأمل، وسط شقاء بيروت الرازحة تحت وطأة حربها الأهلية المدمرة، إلا أن الأعماق كانت تستبطن مآلات للأمور مغايرة تماماً. لا لأن نيران الافتتان تحتاج لكي تظل قيد الاشتعال إلى حطب المسافة ووقود الشغف فحسب، بل لأن المسرح الضيق للعلاقة، أتاح للفروق الشخصية الواسعة التي حجبها وهج المغامرة الجريئة، أن تكشف عن نفسها دون مواربة أو تمويه. وإذا كان محمود أكثر تحفظاً من رنا قباني في الكتابة عن تلك التجربة، فهي لم تتردد في الكشف عن المطبات الصعبة التي دفعت الطرفين إلى الانفصال بعد تسعة أشهر من الزواج، قبل أن يعطيا نفسيهما فرصة ثانية استمرت لسنتين اثنتين، ثم آلت بعد ذلك إلى انفصال بائن.
تقر رنا قباني في غير مناسبة، أن ظروف نشأتها المدينية والعائلية التي وفرت لها أسباب اليسر المادي والتحصيل الثقافي والمعرفي المتنوع والتحرر النسبي من التقاليد، تختلف اختلافاً بيناً عن نشأة درويش الفقيرة والشائكة التي أتاحت له أن يتكيف، بخلافها، مع كل أنماط الحياة وأكثرها شظفاً وقسوة. ومع أنها كانت تتشاطر مع محمود شغفه بالقراءة والاطلاع، مع ولع خاص بالرواية والشعر والدراسات التاريخية والدينية والفكرية، فهي لم تخفِ عجزها عن التأقلم مع واقعها الجديد المكتنه بالقلق والخوف والتواضع المادي، الذي يفتقر إلى الخصوصية والأمان وهدوء النفس.
أما العامل الآخر الذي أسهم في تقويض العلاقة ومنعها من الاستمرار فيتمثل على الأرجح في إقبال رنا على الزواج في عمر صغير، وقبل أن تمتلك النضج والخبرة الحياتية الكافية للوصول بهذه المغامرة نحو خواتيمها السعيدة. ومن يتابع مسيرة قباني اللاحقة لا بد أن يلاحظ مدى النضج والخبرة الحياتية، اللذين لم يكونا ليتوفرا لها في مقتبل العمر. لكن درويش من جهته، لم يبذل الجهد الكافي لاستيعاب وضع زوجته الصعب والإشكالي، بل كان هو الآخر مسكوناً بمخاوف من نوع آخر تتعلق ببساط الحرية الذي بدأت تسحبه من تحت رجليه الموجبات الباهظة للمؤسسة الزوجية. وقد نقل عنه أحد أصدقائه الأقربين أنه لدى شروع زوجته في تعليق ملابسها في خزانة ثيابه، انتبه فجأة إلى تناقص الهواء من حوله، وإلى انكماش المساحة المخصصة لمزاولة طقوسه اليومية الصغيرة، فلم يجد ما يعبر به عن خوفه من المجهول، سوى الذهاب إلى مكان خلفي والاستغراق في نشيج مكتوم.
«كانت علاقتي بمحمود بركانية وعاصفة»، تقول رنا في أحد حواراتها المتلفزة. إلا أنها إذ تقر من ناحيتها بأن للعلاقة وجوهها الإيجابية المتمثلة بالمتعة الفائقة التي وفرتها لها الأسفار العديدة مع زوجها الشاعر، وإسهام محمود في تعميق وعيها السياسي والنضالي، تعترف في الوقت نفسه بحصتها من المآل المأزقي لعلاقتهما المتداعية، فتقول «الكاتب إنسان مريض ومضطرب، وهو ما أنا عليه أيضاً. وقد اخترت من اخترت لأنه يشبهني، إذ يصعب زواجي من صيرفي على سبيل المثال». وإذ تؤكد قباني أن محمود قد خصها بغير نص شعري من نصوص تلك الفترة، ومن بينها «قصيدة الرمل»، تنوه في الوقت بأناقة زوجها الباذخة وسخائه الاستثنائي، وبأنها اعتادت بشكل يومي على تلقي وروده وهداياه. إلا أن كل ذلك لم يمنعها من الاعتراف بأن درويش لم يخلص في قرارته إلا لقصيدته، وبأنه «لم يُخلق ليكون أباً وزوجاً ورب أسرة. إنه شاعر رائع ولكنه زوج فاشل».
إلا أن وضْع ما قالته رنا عن محمود في موضع التجني على الشاعر، هو افتئات على الحقيقة التي يعرفها الجميع، والتي كان درويش يجاهر بها أمام أصدقائه الأقربين دون أي شعور بالتحفظ أو الحرج. لا بل إن درويش لم يتردد، أثناء لقاء جمعني به وبممدوح عدوان في القاهرة، في التحدث عن الزواج بوصفه المحاولة المثلى لاغتيال الإبداع. على أن ما لفتنا يومها كان موقفه الأكثر سلبية من الإنجاب، الذي اعتبره محمود أخطر على الكاتب من الزواج نفسه، لأن بوسع الرجل أن يطلق امرأته متى شاء، ولكن ليس بوسعه التخلص من أطفاله. وحيث تحدث مستطرداً عن إكراه زوجته الحامل رنا قباني على التخلص من الجنين، كان يلح على التوضيح بأنه لم يفعل ذلك بتأثير من أنانيته العالية أو بسبب كرهه للأطفال، بل لأنه أوهن من أن يتعايش، ولو في الخيال، مع ما يمكن أن يواجهه طفله المرتقب من احتمالات الألم أو المرض أو الموت المبكر.
لم يكن بالأمر المفاجئ تبعاً لذلك أن يجد الزوجان المتشابهان في التكوين المزاجي، والمختلفان في طريقة العيش وأنماط السلوك والرؤية إلى الأشياء أمام خيار الانفصال، الذي لم يتأخرا عن تنفيذه قبل أن ينهيا العام الأول من حياتهما المشتركة. كما لم تفلح الفرصة الثانية التي منحاها لنفسيهما، والتي استمرت لسنتين إضافيتين، في تضييق ما بينهما من فروق وتباينات. ولهذا كان انفصالهما نهائياً هذه المرة، حيث اختارت رنا أن تكمل دراستها في أوكسفورد، لترتبط بعد سنوات بالصحافي البريطاني المعروف باتريك سيل، الذي ما لبثت أن انفصلت عنه بفعل قراءتهما المتغايرة للثورة السورية. ولم يكن نصيب محمود من زواجه الثاني بالكاتبة والمترجمة المصرية حياة الهيني، بأفضل من نصيبه من زواجه الأول، رغم أنه سقط في الحالتين بسرعة قياسية، وبما يمكن أن نسميه «ضربة الجمال المفرط». وإذا لم نكن قادرين على التأكيد أو النفي أن درويش قد خص زوجته الثانية بقصيدته الشهيرة «يطير الحمام»، ما دام يجانب على عادته ذكر نسائه بأسمائهن، فإن المؤكد بالقطع هو عجز الشاعر الملول عن الركون لفترة طويلة إلى قيود المؤسسات وتبعاتها، سواء كانت هذه الأخيرة سياسية أو اجتماعية أو زوجية. وهو ما يؤكده قول الشاعر بعد انفصاله السريع وبلا ضجيج عن زوجته المصرية: «انفصلنا بسلام. لم أتزوج مرة ثالثة ولن أتزوج. إنني مدمن على الوحدة، ولم أشأ أبداً أن يكون لي أولاد. قد أكون خائفاً من المسؤولية، والشعر هو محور حياتي، فما يساعد شعري أفعله، وما يضره أتجنبه».