صدر حديثاً عن سلسلة «فلسفة» في «دار الحوار للنشر والتوزيع» كتاب «ابن رشد… نقد الفلاسفة في مسائل الطبيعة» من تأليف سامي إبراهيم الجبوري.
وجاء في تقديم الناشر:
«من الكثير الذي يتميز به ابن رشد نُعدد عقلانية فكره، وإيمانه بموسوعية المعرفة، والروح العلمية النقدية الاجتهادية، واتساع أفقه المعرفي، وانفتاحه على الحقيقة أينما تبدت، كذلك توكيده على تحقيق المدنية التي تقتضي ألا يميز الإنسان بدينه، أو مذهبه، بل بكفاءته وقوته العقلية، ودعوته إلى الفكر الحر الجريء المفتوح. تأسيساً على ما تقدم؛ يأتي هذا الكتاب ابتداءً بمسائل السماع الطبيعي التي أثارت خلافات كبيرة بين ابن رشد والفلاسفة، ومنها الخلاف مع الإسكندر، وابن سينا، في مسألة مبادئ العلم الطبيعي، والخلاف مع الفارابي وابن سينا في مسألة تناهي الحركة والزمان.
وسوف تتضح معرفة ابن رشد بالظواهر الطبيعية ومقاربتها بالظواهر الجوية عبر دراسته لمسائل السماء والعالم. ويتواصل الاختلاف مع ابن باجه وجالينوس، وفي مسائل النفس والحواس واللمس، وفي مسائل المعاد والاتصال التي يخالف فيها متكلمي الإسلام في المشرق والمغرب.
كما ضم هذا الكتاب مسائل السماء والعالم، التي كانت محور اهتمام ابن رشد، ومسائل عدة شكلت المحور الرئيسي لكتاب (الآثار العلوية). ومن خلالها ستتضح لنا معرفة ابن رشد بالظواهر الطبيعية ومقارنتها بالظواهر الجوية، إضافة إلى مسائل النفس التي اختلف فيها ابن رشد مع بعض الشراح والفلاسفة، فهو يفرق بين القوة الناطقة والقوى الأخرى، وصولاً إلى القوة الوهمية التي اختلف فيها مع ابن سينا، وكذلك في مسائل الحواس، حيث رأى أن ابن سينا يرتكب أخطاء أخرى، مما يدفعه إلى التردد بين حدوث العقل الهيولاني من جهة؛ وأزليته من جهة أخرى. وفي مسألة الزروع، يعلن ابن رشد أن الحرارة الغريزية ليست هي النفس كما ظن جالينوس، وإنما هي أحد أفعال النفس. وينقد فكرة الإسكندر وثامسطيوس في مسألة الإبصار؛ إذ إن عملية الإبصار عنده تقتضي ألا يكون الضوء جسماً. ونلاحظ اتفاق ابن رشد مع ثامسطيوس بعض الشيء في مسألة اللمس، واختلافه مع جالينوس».
«فساد الأمكنة»… جعلت من الصحراء فضاءً روائياً
تحتل رواية «فساد الأمكنة» للكاتب المصري صبري موسى مكانة خاصة في مسيرة الأدب المصري الحديث، إذ تعد أول عمل فني تدور أحداثه بالكامل في الصحراء بعد عقود طويلة ظلت فيها السردية الأدبية المصرية رهينة الثنائية التقليدية، الريف والمدينة، من دون انفتاح على بيئات وعوالم مكانية أخرى كحياة الصيادين والحياة الساحلية فضلاً عن البدو وقبائل الصحراء. وتتناول الرواية فكرة الصراع الأبدي بين الإنسان بجشعه والطبيعة بنقائها، وذلك عبر شركات التعدين والسياح المستهترين وكيف يصطدم هؤلاء بالسكان الأصليين من البدو والقبائل التي لا تزال على فطرتها.
من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة «وظائف المكان وجمالياته في رواية فساد الأمكنة» للباحث الأكاديمي د. جمال الجزيري الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وكانت الرواية المذكرة أن الرواية صدرت في طبعتها الأولى بداية سبعينات القرن العشرين. إنها «رواية مكانية» بامتياز بدءاً من عنوانها ثم متنها الذي يبرز المكان بوصفه شخصية درامية فاعلة ومشكلة لأحداث النص. وحسب المؤلف، فإن صبري موسى (1932 – 2018) هو كاتب مكان في المقام الأول، فمعظم أعماله تتناول المكان بوصفه شخصية مؤثرة في حياة الشخصيات، وكان موسى قد نشر أيضاً عدة كتب عن رحلاته في صحراء مصر الغربية والشرقية.
تبرز «فساد الأمكنة» حضور «جبل الدرهيب» والصحراء الشرقية والحدود مع السودان، وكلها مناطق كانت شبه مجهولة بالنسبة للقارئ المصري، لأن النصوص الأدبية آنذاك كانت محصورة في إطار المدن والقرى وتكاد لا تخرج عن نطاق الوادي. ويمكن أن نبصر في الأسماء المكانية دلالات إضافية غير الدلالات الجغرافية، فإذا حذفنا على سبيل المثال حرف الدال من «الدرهيب» صار «الرهيب»، أي ما يوحى بالرهبة والجلال والعظمة. وحين حصل مؤلف الرواية على منحة وزارة الثقافة في الفترة من نوفمبر (تشرين الثاني) 1966 إلى نوفمبر 1967 للإقامة في الصحراء وفي «الدرهيب» تحديداً، جاءت أول جملة وصفية لهذا الجبل بالشكل التالي: «يحتضن – الجبل – بذراعيه الضخمتين الهلاليتين شبه وادٍ غير ذي زرع»، وهو وصف يعضد العلاقة بين السماء والأرض، والعلاقة الطبيعية بين الأرض والإنسان شاغل المكان، وليس المنتفعون الذين سيأتون إلى المكان لنهب موارده واغتصاب فطرته سواء عبر شركات التعدين أو السياح الذين سيخدشون صمته وجلاله بلهوهم ومحركات سياراتهم التي لا تكاد تهدأ ليلاً أو نهاراً.
تصف الرواية الجبل بأنه يعود إلى «آلاف السنين من تأثيرات الرياح وعوامل التعرية»، ويرى الباحث أنها إشارة تحقق هدفين في سياق النص، فهذا المكان قديم جداً قدم الأرض ذاتها، كما أن تأثير آلاف السنين لا يتعدى إحداث نتوءات صخرية وتجاويف، في حين أن سنوات معدودة من حياة الاستعماريين والاستغلاليين والطامعين في هذا الجبل فجرت فيه من خلال المواد المتفجرة سراديب وحفراً بطول آلاف الأمتار، وهو الأمر الذي يبرز تعارضاً أو تبايناً بين أثر الطبيعة الهين على مدار آلاف السنين وأثر الإنسان المدمر على مدار سنوات معدودة.
وتصف الرواية شخصية بطل العمل (الراهب نيكولا) بأنه «لا وطن له»، وهو وصف يقوم على المفارقة لأن نيكولا ليس معدوم الجذور ولا الهوية المكانية، فأصله من بلدة في القوقاز واستقر في تركيا حيث يعمل أبوه، وفي إيطاليا حيث عمل هو لبعض الوقت وتزوج وأنجب ابنته. وجاء إلى جبل «الدرهيب» في البداية بغرض التعدين والبحث عن المعادن النفيسة ومادة «التلك»، ثم سحره المكان وأساطيره وطبيعة القبائل المستوطنة فيه والتي يعود أصلها إلى منطقة القوقاز. وبذلك تصير عبارة «لا وطن له» تأكيداً لفكرة قيام نيكولا بتعذيب نفسه يومياً، لأنه يريد أن يتطهر وحتى أن يصير صخرة ومعلماً من معالم المكان، كما استطاع جده الأكبر «كوكا لونكا» أن يتحول إلى صخرة من قبل ويحقق أسطورته الخاصة.
يستعمل موسى «الفراغ» في الرواية بمعنى المكان الذي تنظر إليه العين نظرة بانورامية إجمالية أو شمولية، فلا تنظر إلى المكان في حد ذاته، وإنما تبحث عن شيء محدد فيه. يقول الراوي عن محاولات البحث عن نيكولا بعد اختفائه واختفاء حفيده الرضيع: «وأخذ بعضهم يتلمس بعينيه نيكولا في ذلك الفراغ الصحراوي المترامي البعد من هذا الارتفاع المناسب، وهز بعضهم رأسه وهو يلوح تجاه بحر الرمال الخطير والمخيف، مؤكداً أن نيكولا هناك الآن». في هذا السياق، يظهر أفراد قبائل البشارية، وهم السكان الأصليون للمكان، الذين يرفضون هؤلاء «الغرباء»، رفضاً رومانتيكياً، فيدير البشاري رأسه تجاه الفضاء إذا رأى واحداً منهم، ما اضطر هؤلاء الغرباء من مسؤولي شركات التعدين والسياحة إلى استقدام «الغرباء» الذين يتناثرون عبر فضاء النص؛ وهم المستثمرون المصريون الذي ينتمون للمكان على سبيل المجاز المرسل، والأجانب المغامرون الذي جاءوا للتنقيب عن المعادن النفيسة وكل ما يمكنهم من أن يكوّنوا ثروة عظيمة وتحميهم سلطات الاحتلال الإنجليزي التي يتممون إليها حقيقة أو على سبيل المجاز أيضاً. وكلا الفريقين اللذين تجمعهما المصلحة الواحدة ينظر إلى المكان على أنه نكرة بلا صاحب وبلا جماعات أو قبائل تعيش فيه منذ مئات وربما آلاف السنين، وبالتالي يعتبرونه عديم الانتماء ويقومون بالاستيلاء عليه بتفويض من السلطات التي تنظر إلى أهل المكان الأصليين على أنهم مجرد هامش من هوامش الدولة لا قيمة له ولا حق له في المكان أو في انتساب المكان إليه.
وكثيراً ما يستخدم المكان بمعنى الموضع المتنازع عليه بين البشر وغيرهم من الكائنات، كما في هذا المشهد «لقد أزعج موتور السيارة تلك الثعابين فأرهفت رؤوسها تتسمع وسكنت حركتها حيناً ما، فانحدر السائق في سرعة وأخذ يدور بالعربة يساراً، ثم يرتد ويدور يميناً، كأنه يطارد الثعابين بالعجلات فبدأت تتقلص وتتلوى على نفسها وتتدفع مبتعدة عن المكان، حتى خلا السفح منها كأنما ابتلعها الجبل». هنا تنظر الثعابين للمكان باعتباره ملكية خاصة أو على الأقل امتداداً لمكانها، فلقد كانت تتخذ قاع البئر المهجورة ملاذاً واعتدت على من كان يريد أن يخرجها منه، قتلت «أيسا» ورفيقيه اللذين نزلا البئر لتطهيرها ثم خرجت منها بعد أن تعفنت جثثهم.
من بين الأساطير المؤسسة للمكان في الفضاء الروائي أسطورة «كوكا لوانكا» التي يسبق وجودها زمن أحداث الرواية، يقول الراوي: «من بين هذه الصخور الحادة والمدببة شديدة القسوة والجفوة كان الماء العذب يسيل زلالاً على المساقط الجنوبية والغربية للجبل ثم ينساب في وادي عيذاب ليروي تلك الغابة الكثيفة التي لم يقدر على اختراقها إنسان للآن، حيث تعتقد قبائل البجاة أنها مغلقة على روح جدهم الأكبر القديم كوكا لوانكا ذلك الذي أمضى عمره في كهف عميق داخل الجبل الأبيض يصلي ويتعبد حتى تحول جسمه بفعل الزمن وكثرة العبادة إلى صخرة من صخوره، بينما انطلقت روحه تحفر القمم وتفجر منها ينابيع الماء لتنشئ لها غابة في الوادي تحتويها».
ومع اقتراب الرواية من نهايتها، تتراجع معظم الشخصيات وتغادر فضاء النص لسب أو لآخر، ويبقى «الدرهيب» باعتباره الشخصية الأساسية التي تحتل مكانة كبرى في العمل. ويبدي الجبل نوعاً من الانسجام والتناغم مع شخصية أخرى تتسم بالفطرة النقية والبراءة هى «إيليا الصغرى» ابنة نيكولا التي ترمز إلى الطبيعة الجميلة والبسيطة والسليمة المزهوة بنفسها والتي لا تبخل على أحبابها بالحب والعطاء، كما أنها الشخصية الوحيدة التي حققت أسطورتها الكونية دون أن تكون واعية بها. أما أهل المكان من البدو فتفرض عليهم الصحراء تحديات متواصلة عليهم مواجهتها بقوة حتى يكونوا أهلاً للعيش هنا عن جدارة واستحقاق، فالصحراء تقسو عليهم لتختبرهم وتخرج أفضل ما فيهم، لكنها أحياناً تمزج بين القسوة والحنو، فتنير بصائرهم وتبعث فيهم حياة دائمة تجعلهم قادرين على تحمل الحزن والفقد.