مدن الإسلام: جادة الودعاء
ارتبط تاريخ المدن، سواء ما طوّع منها أو ما أنشئ، بالقوة والانتصار. حتى الحالات الثقافية التاريخية، مثل بغداد المأمون، أو القاهرة المتغيرة، نمت وازدهرت في ظل القوة أو إلى جانبها. أصيلة حكاية من ألطف حكايات المدن الثقافية، مشرقاً ومغرباً. في الهدوء والسلم والاطمئنان، خطر لمحمد بن عيسى أن يحوّل مدينته العتيقة مهرجاناً ثقافياً دائماً ومتحفاً مفتوحاً. وقبل هذه الخاطرة الجميلة، جارتها الكبرى، طاغية ثقافياً على كل ما عداها من مدن المغرب، خصوصاً أن عدداً من مشاهير الأدباء والفنانين العالميين اختاروا السكن الدائم فيها، بعدما كانت باريس مسكنهم من قبل. أو بالأحرى مهربهم. فقد جاء كتّاب أميركا «الغاضبون» إلى باريس اعتراضاً على التخلف الثقافي الذي تغرق فيه بلادهم.
قامت أصيلة كأول مركز ثقافي متكرس، على يد الرجل الذي كان يناديه الحسن الثاني، «سي بن عيسى»، ويناديه الأصدقاء «سي محمد» ويطالبهم هو بمناداته «محمد» تأكيداً للمودة. كان بن عيسى سفيراً في واشنطن في الفترة التي كان الأمير بندر بن سلطان سفيراً للسعودية. ومساهمة منه في إقامة المشروع الحضاري الجديد تبرّع ببناء المكتبة الرقمية الكبرى في وسط المدينة.
منذ أربعين عاماً تجتذب أصيلة كبار الأدباء والمفكرين العرب. وصار لهؤلاء شوارع تحمل أسماءهم وذكرى مشاركاتهم في هذا الملتقى النادر، إلى جانب أسماء أبطال الاستقلال. إليك اللائحة: بلند الحيدري، الطيب صالح، محمود درويش، أحمد عبد السلام البقالي. هل تدري ماذا يجمع بين هؤلاء السادة؟ إنهم أكثر خلق الله وداعة. وإنهم أكثر العرب براً بالعروبة. وأكثر من تليق بهم أوشحة المغرب والمشرق وأفريقيا العربية. ولكن أين الاسم المصري؟ أطال الله في الأعمار الطيبة والقامات التي لا يناقش أحد في هالتها التاريخية وحجمها الإنساني.
تعطي أصيلة حجارتها للأسماء العابقة بعطر الأدب العربي وليس للسياسيين. ومن لم يعرف الطيب صالح وبلند الحيدري ومحمود درويش وأحمد البقالي، لا يعرف معنى النفس العملاقة والقلب السامي. ذات مرة اعترض الدكتور البقالي على مقال لي. وكان اعتراضه درساً في التاريخ وفي العلم وخصوصاً في الأدب. في جميع وجوهه ومعانيه.
دخل الرومان والبرتغاليون والأندلسيون فاتحين على أصيلة. وغيروا في أسمائها وأدوارها. وظل أجمل أسمائها اسمها الأصيل. وأجمل نعوتها نعت الثقافة. وأحرص رعاتها سي بن عيسى.
حكاية مدينتين
من أجل التمييز الجغرافي بين مدينتين تحملان الاسم نفسه في إيالة (واحدة) سمى العثمانيون الأولى طرابلس الغرب، والأخرى طرابلس الشام. كلتاهما تقعان على المتوسط. كلتاهما شهدتا مراحل عدة من تاريخ المنطقة. الاثنتان شديدتا المحافظة. توأم قليل الحظوظ.
السنوات الأخيرة دخلت طرابلس ليبيا، في فوضى ما بعد القذافي. ودخلت طرابلس لبنان في إهمال عهد عون وما قبله وقبل قبله. الآتي أسوأ. الإهمال اللبناني طبيعي، عفوي، من شيم الفساد والوقاحة الرسمية. الإهمال في عاصمة ليبيا، كان متعمداً، مقصوداً، انتقامياً. الأخ القائد كان يكره العاصمة التاريخية ويحب الخيمة المزركشة. خيمة ملونة جعلها قاعدة الحكم، وراح يتنقل بها في البلدان. وراح يبني لها في ليبيا «ضرة» بعد أخرى. من سرت إلى مصراتة. أي شيء إلا طرابلس وجمالها وهندستها وتاريخها الطويل. خيمة ولها ألوان وقائد وله ألوانه. ربيع متنقل ما بين الخيمة والبزة العسكرية وقبعة مارشالات الجو وأمراء البحر.
غريبة أوجه الشبه. المهاجرون البؤساء يغرقون في طرابلس ليبيا وطرابلس لبنان. الأولى حوّلها القذافي إلى مركز لتهريب الأفارقة كي يطمر بهم أوروبا، كما شوهد مرة يقول على تلفزيونات العالم. وكذلك شوهد رئيس وزراء إيطاليا يقبل يده على تلفزيونات العالم، كي يكف عن تصدير المساكين إلى بلاده. ومضى إلى أبعد من ذلك عندما انحط إلى مهنة سمسرة النساء، وأقام للأخ القائد حفلاً جمع فيه 300 عارضة أزياء لقاء 350 يورو للواحدة. هكذا علناً في حدثين لم تعرفهما العلاقات الدولية إلا في الستر والسر.
تعيش طرابلس التي هنا وطرابلس التي هناك قعر التدهور السياسي والاجتماعي وأزمة الحكم. نتيجة طبيعية لنصف قرن من الفاءات (بدل اللاءات) الثلاث: فاء الفساد، وفاء الفسق، وفاء الفضيحة. وغبن الغرور والغوغاء والغاب. خمسون عاماً من ذلك تؤدي إلى خمسين قعراً من ذاك. خمسون غريقاً في مدينة الصيادين والملاين والربابنة و«ريّاس» البحر.
الدولة اللبنانية أدت واجبها: أمرت بتحقيق سريع وبالتوسع في التحقيق أيضاً. الأوامر نفسها يوم تفجير المرفأ. قتلى البحر وموتى البر صفاقة طبقة فاسدة صدئة، بلا ذوق أو أخلاق، أو حياء. وفي 15 مايو(أيار) سوف يذهب اللبنانيون إلى الاقتراع. وسوف ينتخبونهم أنفسهم. ولا أدري من اختار 15 مايو (أيار) موعداً. إنه يوم وعد بلفور ونكبة فلسطين. ولبنان ليس بعيداً عن بلفوره.
ثمة من عرفوا هذه المدينة وهي بعد في مؤشر الفقر. أعمالها نادرة، ومالها قليل، ولا رجاء إلا في البحر، فيه وفي غوصه وأعماقه وضيق الأنفاس ولزاجة الملح، يمضي الرجال الأشهر الطويلة لكي يعودوا إلى الديرة ومعهم لؤلؤ المواسم وجواهر الأعماق.
وفي رمضان كان أهل الديرة يبقون فيها يصلّون ويعبدون ويسعون في التقرّب من زارع الأعماق وموزع الأرزاق. وإذا ما حل موعد الإفطار، تداعى الجمع إلى سفرة راشد بن سعيد، المفروشة على الأرض، وتربعوا جميعاً حول ما تيسّر من مشاركة، صفاً واحداً وقلباً واحداً وتكبيراً واحداً.
تطوّرت دبي في دنيا التطور من سماحة الأب إلى ريادة الابن. وأصبحت مواسمها الدائمة في بواسق المباني لا في أعماق البحر، وارتفعت أبراجها وصارت الديرة دورة العمران الفسيح. وكل رمضان يتذكّر محمد بن راشد أولئك الذين لم تكن لهم المقدرة على أن يفطروا إلا في رفقة والده. لكن التطور شمل كل شيء. وإلى مائدة صانع دبي المتألقة بين مدن الإسلام، يفطر 11 ألف معوز حول العالم. ومع نهاية الشهر الفضيل، تكون أفضال الله قد بلغت مليار إفطار في نحو 50 بلداً.
البلدة المنسية ذات يوم بين قحط الصحراء وعذاب البحر، أصبحت، على طريقتها النادرة، إحدى أشهر وأهم وأيسر مدن الإسلام. وعندما تفتح مكتبة محمد بن راشد أبوابها، سوف توفّر لزائريها بعض أعظم الآثار والمخطوطات الإسلامية في التاريخ. وتلك الإمارة التي كانت تشكو ندرة الأعمال وغياب الأشغال، هي الآن إحدى أكبر الورش العمرانية في التاريخ. أبراج ضاربة في السماء، وأساطيل تجارية في البحر، ونحو ستة ملايين نسمة يتشاركون الأمن شبه المطلق، والكفاية شبه الكاملة.
كل شيء يلد شيئاً في دبي. لا شيء يذهب سدى. قبل أسبوعين انتهى «إكسبو 2020» بعدما زاره 15 مليون شخص. وسوف يتحول إلى مدينة دائمة يأتي الناس إلى سكناها لا إلى زيارتها. بعدما بدأت «الإقامة الذهبية» مشروعاً أدبياً كهدية للبارزين في العالم من دولة الإمارات، أصبحت الآن مشروعاً سكانياً اقتصادياً قائماً بذاته.
في كتابه «إمبراطوريات إسلامية» الصادر 2020 يضع المؤرخ البريطاني جاستن ماروزي، دبي، إلى جانب 14مدينة إسلامية أخرى، مثل القدس، وطرابلس الغرب، وغرناطة. ويتساءل المرء، بصورة عفوية، على أي أساس؟ ثم يأتي رمضان وتقول لك الأمم المتحدة، إن مؤسسة محمد بن راشد قدمت مليار إفطار لغير القادرين على نعمة الإفطار بعد فريضة الصوم.