يخشى المرء ألا تغمر عدالة التقييم جميع من يستحق. في رمضان، نجوم يبلغون التألق الكبير، وآخرون متفردون بدرجة مختلفة. نفرد مساحة لمن يشكل حضورهم علامة فارقة، علماً بأن اللائحة قد تحتضن المزيد. وبضمير مرتاح، يصح اعتبار فايز قزق نجم رمضان الأول في الدراما السورية لهذا الموسم، بما يفعله في شخصية «حكم الصياد» في مسلسل «كسر عضم». التحامه بالدور مذهل. وأداء ممتاز آخر لكرم الشعراني بشخصية «هيثم» في المسلسل نفسه. يد «الحكم» اليمنى بعقله المدبّر ودهاء الذئاب، يحمل الدور إلى مراتب اللامعين.
سلاف فواخرجي بشخصية «جنان العالم» في «مع وقف التنفيذ»، من الشخصيات النسائية المصابة بالأداء العالي. متقلّبة، متناقضة، تُفاجئ في بعض المواقف. كزميلها في المسلسل عباس النوري بشخصية «فوزان فضل الله». دور يدعكه كمعجونة بين يديه. انتهازي طريف. وجهه على صلة وطيدة بدناءة نفسه. على عكس انقباض وجه خالد شباط، مؤدّي دور «مصطفى» في «الكندوش 2». يرتجف كأوراق مُبعثرة تهددها الأقدام بالدوس قبل أن تواجه مصيرها. إمساكه الشخصية يُحسب له.
يقتضي الإنصاف المرور على أسماء كبيرة تحترف الدور. كشكران مرتجى، وفادي صبيح، بشخصيتي «سكر» و«هاشم» في «مع وقف التنفيذ». زوجان هما في الأصل أنسباء، لم يجمعهما الحب حين كان «هاشم» في طيشه. يمر الوقت فيدرك معدن الزوجة ونُبل روحها، قبل أن يقع الطلاق الأخير. مرتجى بارعة في دور امرأة تبحث عن «السترة»، حظّها عاثر. تُرقّع حين تتمادى الثقوب في الاتساع، ولا تنال بالمقابل كلمة، شكراً. هي صنف من البشر لا تضحك له الحياة بسهولة. وصبيح كبير المحترفين، ينسى أنه أمام كاميرا. يدفعه «هاشم» إلى إخراج تقلبات النفس البشرية تحت ضغط الظرف القاهر. رجل «الماستر سين» في المسلسل.
صدارة قائمة المتفوقين لفايز قزق بثلاث شخصيات، تتقاطع اثنتان بالنوع، وتختلف الثالثة، «الحكم» اختزالية عالية الجودة للضمير الميت والتوحش الإنساني. نافذ طماع، مجرم بالوضوح والتخفي، و«تصرف يا هيثم». يطارد أهدافه ولو كلّفته أنهاراً من الجثث. وهو إذ قدّم دور «أديب» الفاسد أيضاً في «مع وقف التنفيذ»، تعمّد تعقيد لعبة الفوارق بين الشخصيتين، بالشكل والنطق وحدّة السلوك، تاركاً لشخصية «أبو الآس» في «الكندوش 2» مداعبة التألق.
إذا كان «الحكم» صوت الاستبداد وصورة المربض بالكراسي، فإنّ مساعده «هيثم» نموذج الوغد الوفي. كرم الشعراني مُبكّل على قياس الشخصية، بالشكل والضحكة الماكرة والسيجارة الإلكترونية. لا يزيح ميليمتراً عنها. يخطّط لخنق رائحة كريهة تفوح من «معلمه». حلوله فورية، «وما لا يُشترى بالمال، يُشترى بالكثير من المال». الدور بصمة الموسم، علماً بأن الشعراني يطل بشخصية «عزمي نسوان» في «جوقة عزيزة». لا قواسم مشتركة بين الشخصيتين سوى أن الممثل المجتهد يؤدّيهما «للآخر».
في «مع وقف التنفيذ»، و«على قيد الحب»، و«كسر عضم»، أكثر من شخصية تستحق مُشاهداً يصفّق بحرارة. من الأشطر بين الشطّار، بما يجمع اختلاف الدور ولمعة الأداء، سلاف فواخرجي بشخصية «جنان العالم» (مع وقف التنفيذ). امرأة لعوب، تباغت الأحلام وتنالها بالنهش و«العضّ». مغناطيس جاذب للتناقضات، تطل بالحجاب حين كانت تحت جناح والدها الشيخ، ومن ثم تتسلّق الأكتاف لتصبح عضو مجلس الشعب السوري، تمرر صفقاتها وتُسيّر مصالحها، فتصفع وتُصفَع. شدّ زوجها «أديب» (قزق) على يدها، وهو يفوقها نذالة، إلى أن قُتل برصاصة كان يخطط لقتلها بها. لم يشعر بذنب حيال تصفية مَن يفضح تجاوزاته، لتصبح هي امرأة متألمة مع تساقط الضحايا. مشاهدها الصامتة أمام الغسالة، بعض أجمل لقطات المسلسل.
يحرص عباس النوري بشخصية «فافا» الجدلية في المسلسل نفسه على خفة ظل ممزوجة باحتيال مفضوح. يحدّد المال «مبادئ» حياته. أبوّته موضع شك، و«فلسفة» العيش بالنسبة إليه خاضعة لمبدأ «الغاية تبرر الوسيلة». يشكل مع حلا رجب بشخصية ابنته «أوصاف» حالة خاصة، بتحالفها معه وانقلابها ضده. يدور عليه الزمن فيمرّره كرغيف خبز في عجّانة. يسترزق بالطرق الملتوية ولا يعرف الشبع. يمنح النوري الدور «قرصة» طرافة، فلا يغدو مكروهاً كما يُقابَل أب هو «قواد مستتر»، يزوج ابنتيه ويطلقهما طمعاً بعريس يدفع المزيد. أستاذ.
لافتون الشباب السوريون هذه السنة، بينهم خالد شباط بشخصية «مصطفى» في «الكندوش 2». كيف يكون الابن لقمة في فم أم متسلّطة تلتهم شخصيته وتبتلع نقاط قوته؟ «مصطفى» يجيب. تفسح له القديرة سامية الجزائري بدور والدته «أم مصطفى» طريقاً يعبرها بخطى واثقة. هو عصارة شاب مدعوس عليه، لا كلمة له ولا كينونة. تجعله الأم المسيطرة يهتزّ كطفل منبوذ، وشباط يتقن الانكماش أمامها، لا تفلت المواقف منه ويتعامل بيقظة مع فخ المبالغة. مشهد المصارحة العائلية قبل سقوط «أم مصطفى» ذروة الجمال الدرامي. أداؤه شخصية «أسامة» في «على قيد الحب» يؤكد أن المستقبل أمامه. كراكتير مختلف كلياً، ومن المشاكسة والتخريب إلى التوبة الصادمة. بالدورين، يتحرك ضمن مساحة بارزة بثقة مَن يثبت موهبته.
يخرج نجوم «حارة القبة 2» من التقييم لتعذّر المشاهدة. وقبل الختام، إشادة مستحقة بنادين تحسين بيك بشخصية «شمس» في «كسر عضم». ابتسامتها الدافئة فيما الصقيع داخلي، ازدواجية تتقنها ممثلة حقيقة. وهو تألّق يطال ولاء عزام بشخصية «يارا» في المسلسل نفسه، رغم دورها الصغير. آلامها المسكوت عنها والتخلّي الكبير، يرميان المراهقة في أفواه الكواسر.
أسامة الروماني بشخصية «حسان» في «على قيد الحب»، عودة عذبة لاسم كبير (يودّي دور رجل المافيا «أبو سام» في «كسر عضم»). سلوم حداد المتقلّب في المسلسل نفسه، المشكوك بسلوكه، والمطروحة علامات الاستفهام حول كرمه و«آدميته»، شخصية فارقة بدأت تُفضح على حقيقتها. ليبقى الجمال لصوت غسان مسعود وتقلّبات دوره في «مع وقف التنفيذ». خارج التصنيف.
الدراما السورية في صندوق لا يعرف الواقعية! … كل ما قدمته الأعمال يخالف الواقع ويشوهه فأين المرآة التي نريد؟ .. تسليط الضوء على السلبيات لمعالجتها أم تشويه الجميل؟
| إسماعيل مروة
بعيداً عن أي فكر رقابي، فالرقابة أمر مرفوض للغاية، وقريباً من أن يكون الأدب والدراما مرآة للمجتمع يدور حديثي، والمفترض أن يكون ما نراه مرآة للمجتمع نرى من خلاله عيوبنا وحسناتنا في الوقت نفسه، نعالج أمراً ما، ونعزز آخر، ولكن هل يصلح أن يكون الإبداع شبيهاً بمرآة السيارات يعطي أحجاماً مضخمة وغير حقيقية؟ أتحدث عن الدراما وضرورة أن تسلط الأضواء على السلبيات ليتم تلافيها، ولتتم معالجتها في حال وجودها.. سبق أن رأينا سخرية من شخصيات المدرسين الكاريكاتورية، والتي قدمها مبدعون يدينون لمعلمين، أساؤوا لمعلميهم وهم لا يرقون إليهم، ولا يعيشون ألمهم وحالاتهم..!
وكل ذلك مرّ في حين لا يقبل أمر يتناول أشياء لا ترقى للمعلم ودوره، والسبب أنه قد يوجد مثل هؤلاء المعلمين الدراويش..
انقلاب جذري وصمت!
لكن ما تعرضه الدراما هذا الموسم يختلف اختلافاً جذرياً، وهنا أضع ما تقدمه الدراما، خاصة ما يخص قطاعي واختصاصي بين أيدي السيد وزير التعليم العالي والسيد رئيس جامعة دمشق، وفرع جامعة دمشق للحزب لخطورة ما يتم عرضه، وأعجب العجب أنه لم يتم تحريك ساكن حتى اليوم، والأمور أخطر مما نتخيل، فهي أولاً تقدم المؤسسة التعليمية الرائدة والأولى والتي مرّ على تأسيسها مئة وثلاث سنوات الجامعة السورية المؤسسة عام 1919 تقدم على صورة مشينة ومسيئة لسورية والتعليم والجامعة، فحين تتحدث الدراما بهذه المباشرة، فإن صمتنا يقرّ بوجود هذه القضايا وأكثر، وإلا فمن المفترض أن يجري تحقيق عالي المستوى من رئاسة الوزراء إلى أصغر موظف في هذه المؤسسة، لمعرفة هذا الكم من الفساد.
ليس صحيحاً ما يعرض
أنا ابن المؤسسة ولم أرَ ما تتحدث عنه الدراما، والحالات الفردية تعالج ولا يقاس عليها، وحتى الحالات الفردية ليست بهذه الوقاحة التي تقدم من خلال الدراما، فإن وجد أستاذ مرتشٍ، ليس من حق واحد تشويه المؤسسة بتمامها، وعلى الجهات المعنية محاسبته وفصله، وقد حصل ذلك، وإن في حالات قليلة. أما أن تظهر الجامعة بهذا الشكل الفاسد، فهذا أمر مرفوض لأنه يخالف الواقع، وكل من دخل الجامعة يعلم أنها مقدسة، وعلى رئيسها أن يدافع عنها أمام تشويهها، وليس من حقه أن يبقى صامتاً، والحلقات تمرّ، وجامعته العريقة دون أدنى شك يفترى عليها ويساء إلى سمعتها! فأين الاعتراض الذي يبدأ من رئاسة الوزراء إلى الجامعة الذي يطالب بتحقيق واضح وصريح؟! فإذا كانت هذه القضايا موجودة، فليحاسب المخطئون، وإن لم تكن موجودة، فليس من حق أي صناعة درامية أو سينمائية أو روائية أن تشوه صورة المؤسسات.
المؤسسات والدولة
هنا أنا أتحدث عن المؤسسات، ولا يعنيني أي رأي أمني أو سياسي، فذاك له أهله الذين يناقشونه ويسمحون به أو يصادرونه، مهما كانت مكانة الشخص، ومهما درّت هذه الصناعة، فإنه ليس من حقها أن تحوّل البيوت إلى مواخير، والمدينة الجامعية، التي تؤوي مئات الآلاف من الطلبة السوريين والعرب، وتساعدهم على إتمام دراستهم ليست كما تصفها أعمال درامية عديدة، وآخرها في موسم هذا العام! قبل أن نتقاتل على العمل وأبوته ومن هو كاتبه، فلنبحث عن مقولة أي عمل، ولنتصارع في ترميم مجتمعاتنا لا في قتلها والافتراء عليها، ولو كانت الصورة موجودة لهان الأمر، ولا حاجة لمناقشته، وبالطبع لا أناقش القضايا الفنية المتفوقة لمخرجين كبار، ولكنني أقف عند الفكر والغايات والمصداقية.
إساءة وقلة أدب
لاشك في أن الصنعة الدرامية في سورية وصلت مرحلة متقدمة، ولكن هذه الصناعة ما تزال تفتقد المقومات في النص والفكر، ولا وجود يكفي للأقلام القادرة على تقديم نصوص مهمة متماسكة، ولا ورشات ولا ما شابه، وهذا ما دفع إلى الارتجال في كثير من الأحيان، وجميعنا يعلم أن الجمهور، وخاصة في ظل هذا الانقسام السياسي العالمي وليس المحلي فقط، يسعد بشتم المؤسسات مهما كان نوعها، ويعد الشتيمة جرأة، ويدافع عنها بأنها حرية رأي، وهذا رأي مغالط، فالشتم تنفيس ولا يحل المشكلة، وهذا ما يفسّر انحياز المشاهد لكل ما يسيء للدولة والسلطة في المتابعة.. وجيلنا يعرف أن التغريبة الفلسطينية لم تأخذ حقها من العرض لأنها تتناول الاحتلال لفلسطين، وتمت محاربتها على مستوى الدول، ولولا ظروف دولية ما رآها أحد.. وإخوة التراب العمل الملحمي الكبير حورب على مستوى دول، فأين مراجعة الدولة لنفسها اليوم، وأين الموافقات؟
وأين وزارة الإعلام أمام الإساءة الواضحة والمتعمدة لسورية والدولة السورية؟ وإن كنت لا تحب الحكومة فهذا شأنك، ولكن حب سورية أمر آخر! واذكر أنني في جلسة مع السيناريست مروان قاووق قال بأنه كتب مسلسل بيئة عن السعودية، لكنه كتبه وفق معايير المجتمع السعودي، فماذا قدمنا نحن أمام مجتمع يبحث عن التعافي لا عن تعميق الجراح؟!
سوقية وانحدار
ترد على ألسنة النجوم الذين أدوا أدوارهم ببراعة ألفاظ سوقية بحق المجتمع والمؤسسات خاصة الأكاديمية، تناولت المحامين والأطباء والمدرسين، هناك مدرسون سيئون وأطباء ومحامون سيئون، ولكن أن يستخدم البطل الذي نحبه ونجعله تريند تعبيراً مسفاً (أدب عربي من غير ما تقرف) فهذا أمر مرفوض، ودراسة اللغة العربية أو سواها دراسة مهمة وبالرضا، ونأتي نحن لنسوغ لطالب كسول ومهمل أن يشتم تخصصاً ما فهذا أمر مرفوض، والسؤال كيف حصل على الموافقة والنص عندما تم تصويره في الجامعة وفي كلية الآداب ألم يراجعه أحد؟ لو أردنا استضافة شاعر أو قاص، فإن النص تتم قراءته، فكيف لم يطلع المعنيون على السيناريو الخاص بهم؟ أم إن المهم فقط هو ما يمسّ قضايا سياسية؟!
إضافة إلى أن الشريحة الموجودة كلها مستهترة ومتقززة من المؤسسة التعليمية، والأعمال لم تعرض لنا لطلاب كثر ليس لديهم مأوى بسبب الحرب، ويداومون في الجامعة من الثامنة صباحاً ليجدوا جواً للدراسة؟ صدقاً وعبر سنوات طويلة لم ألتق بمثل هذه النماذج، ولم يقترب أحد منهم فأين التقاهم المؤلفون؟
صورة قاتمة وغير موجودة
إن ما عرضته الدراما وحصد مشاهدة كبيرة في السنوات الأخيرة، وهذا العام خاصة ليس صحيحاً، فلنطلب من المؤلفين أن يدلونا على النماذج! في القمامة يحيا السوريون، وهذا غير صحيح، والذي لم يغادر سورية يعلم أن السوريين أكثر أهل الأرض تضامناً، والحوالات من أهل وأبناء وأصدقاء تدل على أن حياة السوري رغم الحصار الداخلي والخارجي تحتفظ بالحد الأدنى من القبول، فلماذا لم تتم الإضاءة على هذه النماذج التي تؤكد تماسك المجتمع السوري إلى حد ما، بغض النظر عن المنفصلين عن الواقع وعنه من طبقة المسؤولين والأغنياء، أو من المعارضة التي ترفل بالحرير وتصرّ على إدانة السوريين وسورية؟ أذكر أنني كنت في لجنة لتقويم النصوص، فجاء نص فيه مثل هذه القضايا، وقلت يومها بالحرف لمدير المؤسسة: «إن أعداء سورية وليس المعارضة وحدها يمكن أن تموّل مثل هذا العمل وتعطي أكثر مقابل إنتاجه، لأنه ما من شخص نظيف في سورية فيه» لم ينجز العمل مع تحمس كثيرين من الأعضاء له، وكانت خصومة من مؤلفه! أذكر هذا المقال لأقول: لو كنت غير راض عن مسؤول أو طبقة أو شريحة، فليس من حقي أن أبرز هذه السوداوية من قتل لا يتوقف، وبسهولة مطلقة، ومن دعارة وأفلام دعارة، وبيع للأعضاء البشرية، بل الإساءة في عمل للدين وعقود الزواج من أجل المال! وهذه القضايا موجودة لكنها لا تشكل ظاهرة تجعلك تتربص خلف الشاشة وتظن أن المجتمع خارج غرفتك على هذا الشكل من السواد القاتم الذي لا يحمل أي بارقة، وكل ما يتحكم به سلطة وامرأة ومال وجنس!
إهانات متعمدة
لا ينكر أحد وجود أب يتاجر ببناته، ومعاهد الجانحات والأحداث تعطينا النماذج، لكنها نماذج مرضية، ولاشك في وجود مسؤولين فاسدين لا يعرفون الرحمة، لكنها حالات فردية في ظل بقاء الدولة ومؤسساتها رغم الحرب العاتية، إذ لم يأت عمل يتحدث عن استمرار الدولة ومؤسساتها رغم كل الظروف، ولو إلى درجة لا نرضى عنها ولا تناسب المواطن، فالعامل بقي عاملاً والأستاذ بقي أستاذاً والرواتب– على هزالتها- بقيت تصرف ولم تنقطع في أقسى الظروف! أين الضابط الشريف الذي دفع دمه؟ ولا يكفي نموذج هزيل! أين المدرسون الذين كانوا يذهبون إلى الجامعة- من غير ما تقرف- ولو مشياً على الأقدام؟ أين الأطباء الذين اغتيلوا وهم يمارسون أعمالهم؟ بل إن ما تحمله الدراما، وإن بدأت الأعمال في خواتيمها تكوّع لتحظى وتعبر عن أن ما جرى تصرفات شخصية! لكنها تكوّع بعد أن ألغت دور الدولة ومؤسساتها، مع أن ضعف الأداء يقرّبه الجميع، والفساد موجود وبدرجات عليا، إلا أن هذا التصالح المتأخر مع الدولة يأتي بعد أن عملت الأعمال عملها وحوّلت الدولة ومؤسساتها إلى دوائر قتل ودعارة وتجارة أعضاء واغتصاب لن تمحى من الذاكرة؟!
إنها جرعة مسمومة تجاه سورية ودمشق تحديداً ليس لها ما يسوّغها، ولكنها مدروسة بعناية مطلقة فحذار!
الجذب بالشتم
بعد عقد وزيادة من الحرب في سورية وعليها، وتقاذف الاتهامات بين جهات عدة أين تفاصيل ما جرى؟ أين الحرب العقيدية الدينية وتفاصيلها ما دمنا تحدثنا عنها خلال عشر سنوات طويلة؟ أين الإيديولوجية الدينية المشرّحة بعمق للارتجال؟ أم إن جهات ما لا تسمح وتقبل بصورة الدولة المنهارة والفاشلة؟ أين الأحزاب السياسية القومية والعلمانية وإخفاقها في تحقيق شيء سوى مصالحها ومصالح المنتفعين منها؟ أين مخططات سرقة سورية وتاريخها وآثارها وخالد الأسعد؟ أين شهداء سورية من المدنيين والعسكريين من دون شعارات دعائية؟ أين حكايات البسطاء الذين حافظوا على بلدهم وأنفسهم ولم ينهاروا أمام ما يجري؟ أين الفقير ومعاناته وتمسكه بمبادئه؟ أين التكافل الاجتماعي غير الديني وغير الرسمي وغير المؤدلج؟ أين تعليم الأطفال وجهود التربية في المحافظة على العملية التعليمية رغم الحرب؟ أين طباعة الكتاب المدرسي وتوزيعه الذي كان في الحرب أفضل مما قبل؟ أين الكادر الطبي الذي بقي في سورية وقام بجهود جبارة؟ أين الوطنيون من أصحاب رؤوس الأموال الأصيلة غير المستحدثة الذين لم يغادروا؟ أين الأمن والأمان الذي ما يزال في أفضل حالاته خاصة في مناطق الدولة ومؤسساتها؟ في قسم اللغة العربية المقرف للكاتب عندي أكثر من عشرين طالبة قدّمن الشهداء والثانوية ووجدن العلم ملاذاً، ولو أراد الكاتب يمكن أن يجتمع بهن في أي محاضرة ألا يستحققن التنويه؟!
أين الكتّاب الذين ينتقدون في جلساتهم الخاصة فقط، ويعقدون تصالحات وتحالفات من الحديث عما قبل الحرب واليوم؟ عن القرضاوي وأحبابه ما قبل وما بعد؟ أين من كتب عن المئات وليس الألوف من المسؤولين والمشايخ الذين خرجتهم الدولة ومعاهدها، واليوم يتصدرون الشاشات ورجال المال والأعمال؟ نحن أمام أمرين: إما أن هؤلاء لا يعرفون سوى النماذج التي يقدمونها، أو أنهم لا يريدون مواجهة ذواتهم، ويحرصون على مصالحهم التي تتنافى مع سورية ومصلحتها!؟
تحدث عن المرتشي ولكن لا تغفل العشرات المضحين، والمرتشي بقي والمضحون دفعوا الأثمان! تحدث عن أستاذ يساوم فتاة، ولكن أنصف العشرات الذين يرون عكس ذلك، وأنصف اللواتي درسن لأنهن رأين العلم ملاذاً، وينجحن- بلا قرف- دون دفع أثمان وباجتهادهن..!
تحدث عن فاسد في مدينة الطلاب، ولكن لا تحولها إلى ماخور يدفع الناس إلى الابتعاد عن تعليم بناتهن وإرسالهن إلى مدينة كل ما فيها أمان، وما هو غير الأمان خيار فردي!
التوثيق والغالب
عدد من الأعمال ردت على الصورة الجميلة للبيئة الشامية التي رسمها الراحل بسام الملا، وردوا بأعمال موثقة- حسب رأيهم- فمرة رفعوا شعارات الإخاء الديني ومرة ركزوا على شوارع محددة موجودة في كل بلدان العالم، وصارت الصورة المقابلة لتخلف البيئة هي صورة بيوت الدعارة وفتيات الليل، وكل واحد يحمل لافتة كتب عليها (توثيق التاريخ) وأقل ما يقال عنها مجافاة الواقع العام، وتعويم المدينة (دمشق) على بركة آسنة.. لا مانع من أن تكون خطاً درامياً، وقد رأيناها عند الصناع الحقيقيين للدراما، لكن أن تكون الحياة الدمشقية عائمة على بركة من الجنس والرقص والغناء والتفاهة فهذا أمر فيه نظر، وفيه مال ومكاسب لصناع الدراما.. وأظن أنه آن الأوان لمزيد من الدرس، وأظن أنه كان نموذجاً في (حمام القيشاني) حيث عرضت كل النماذج ولم يخضع العمل لأمراض المال والشهرة.. وكان من إنتاج عام!!
الواقع والأمنيات
ربما كان ما أسأل عنه صعباً ليس لعدم وجوده أو ندرته، وإنما لضعف الكتاب وعدم مقدرتهم على الغوص في التفاصيل الفكرية، فهذا يحتاج إلى جهود ضخمة، وليس إلى شعارات ما فعل بعضهم كان منفراً، فالدراما ليست منشوراً مع الدولة أو ضدها، وليتنا نجد تلك الأعمال التي تضع أمامها مهمة شاقة وإبداعية، فتسلط الضوء على كل شيء، أما النموذج الأسهل، وهو اختيار نموذج من المسؤولين غير محدد، ومجموعة من المجرمين، ومجموعة من الداعرات، فهذه توليفة سهلة، ويمكن أن يصنع أي غرّ مبتدئ فانتازيا اجتماعية، لكن ليس من حقه أن يحدد مكانها ويسيء إلى إنسان لو تعرض أي إنسان في أي مكان في العالم لما تعرض له لانتهى منذ زمن بعيد!
لو تحاورنا مع الكتّاب فإننا لن نجد عند أكثرهم ما يدافعون به عن أنفسهم وعن نصوصهم! فهي نصوص كتبت للترويج، وسوّقت على أنها قاسية وضد الدولة وقد لا يُسمح بها، ونحن نكاية بسورية سمحنا وسابقنا إلى العرض.. أليس الأمر بحاجة إلى جلسة حوار ونقاش، ووضع رواسم إبداعية لا رقابية لأن الرواسم الرقابية دفعتهم إلى هذا التجاوز؟!