بينما كرَّر الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الأمم المتحدة استعداده للتفاوض مع إسرائيل بعيداً عن صفقة القرن، لوَّحت تل أبيب بالتخلص منه، ويبدو أنها تعد البديل لعباس بالفعل.
وأنهى الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع زيارته الأمم المتحدة، ألقى خلالها خطاباً في مجلس الأمن لم يأتِ بجديد على صعيد المواقف السياسية الرافضة لصفقة القرن، لكنه أكد على موقفه السابق بالموافقة على التفاوض المباشر مع إسرائيل، وهو ما يعني عجز السلطة عن مواجهتها بالأدوات التي هددت بها سابقاً، كوقف التنسيق الأمني والتحلل من اتفاقات أوسلو.
أين التهديدات التي سبق أن أطلقها؟
خطاب عباس أثار انتقادات فلسطينية لأنه لم يرتقِ لمستوى الحدث، وأعاد كلاماً قديماً، أعقبه لقاء جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت، أكدا خلاله رفض الصفقة، كونها طرحت من طرف واحد دون الرجوع للطرف الفلسطيني، وأشاد الرجلان خلال المؤتمر بمفاوضاتهما بين عامي 2006-2008.
فيما أعرب عباس عن استعداده للبدء بمفاوضات مع الإسرائيليين، برعاية دولية، فقد أكد أولمرت أن عباس فعل كل شيء لتحقيق السلام، وهو الشريك الفلسطيني الوحيد للسلام، لأنه رجل سلام ويحارب “الإرهاب”.
قوبل لقاء عباس- أولمرت بانتقادات سياسية حادة في إسرائيل، فوصفه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بأنه “أكبر إهانة في تاريخ إسرائيل”، فيما اعتبره سفير إسرائيل بالأمم المتحدة داني دانون لقاء مخزياً.
على الصعيد الفلسطيني انتقد القيادي في فتح حاتم عبدالقادر خطاب عباس، ووصفه “بالتقليدي الذي لم يأتِ بجديد”، فيما اعتبرت حركة حماس أنه لا ينسجم مع تطلعات الشعب الفلسطيني، داعية عباس لترجمة مواقفه بخطوات على الأرض، تتمثل في سحب الاعتراف من إسرائيل، ووقف التنسيق الأمني.
وما يُقلل من تأثير اللقاء أن أولمرت لم يعد ذا منصب سياسي، بل هو مرتبط في الذهنية الإسرائيلية بشخصية السياسي الفاسد والسجين السابق وصاحب الملف الجنائي، فيما دعوات عباس المتواصلة لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل ليس لها رصيد ما دام نتنياهو موجوداً في الحكم، إلا إن كان يعول على مجيء الجنرال بيني غانتس.
لماذا يواصل طرح خيار التفاوض؟
واصل أبو يوسف، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير قال لـ “عربي بوست” إن “التحركات الفلسطينية بمجلس الأمن امتداد لمسار الرفض الفلسطيني لصفقة القرن، وخطاب الرئيس وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته القانونية في التحرك لتطبيق قرارات الشرعية الدولية”.
وأضاف أن “لقاء عباس- أولمرت يأتي ضمن التحركات الدبلوماسية الفلسطينية للحصول على أكبر قدر من الرفض السياسي للخطة الأمريكية، وأن انتقاد إسرائيل للقاء يؤكد على حقيقة نواياها برفض أي جهود فلسطينية تعيق تطبيق صفقة القرن”.
واضح أن تكرار عباس دعوته للحوار المباشر مع إسرائيل رغم إعلان الصفقة، وتحميل نتنياهو مسؤولية إفشال مسار التسوية يشير إلى احتمالين، الأول أن السلطة ما زالت تعول على تغير البيئة السياسية في إسرائيل والولايات المتحدة، بما يصب في مصلحتها بالعودة للمفاوضات، بتولي بيني غانتس رئاسة الحكومة بدلاً من نتنياهو في انتخابات مارس/آذار، أو فشل ترامب في الفوز بولاية جديدة في الانتخابات الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني.
وهناك الاحتمال الثاني المتمثل في حشد عباس لأكبر قدر من المواقف السياسية العربية والأوروبية والصين وروسيا الرافضة لصفقة القرن.
عبدالمجيد سويلم، المحلل السياسي الفلسطيني، قال لـ “عربي بوست” إن “الدبلوماسية الفلسطينية التي يتبناها عباس استطاعت أن تضع إسرائيل في موقف الانتقاد من قبل المجتمع الدولي، ونجح عباس في إظهار إسرائيل على أنها الطرف الذي يرفض القبول بمسار المفاوضات، وتحميلها مسؤولية مناهضة قرارات الأمم المتحدة عبر الإقدام على خطوات من طرف واحد بمساندة الولايات المتحدة الأمريكية”.
وإسرائيل ترد بالتلويح بخيار التخلص من عباس
بدا لافتاً في الردود الإسرائيلية على خطاب عباس بمجلس الأمن إطلاق داني دانون السفير الإسرائيلي بالأمم المتحدة تصريحاً بصيغة التهديد، بقوله إن غياب عباس عن المشهد السياسي سيُقرب فرص السلام، وهو ما اعتبرته فتح على لسان عضو لجنتها المركزية ووزير الشؤون المدنية حسين الشيخ تهديداً إسرائيلياً مباشراً بتصفية الرئيس جسدياً، كما حدث مع اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات في 2004.
هذا التهديد العلني من إسرائيل بإنهاء الحياة السياسية لعباس يفتح الباب أمام التساؤل حول من سيخلفه بمنصب الرئاسة، خصوصاً مع وصوله لسن الـ85، وخضوعه في الأشهر الأخيرة لمضاعفات صحية، اضطرته للغياب عن الساحة السياسية عدة أيام بسبب تراجع وضعه الصحي.
الأمريكيون والإسرائيليون يعدون لجيل فلسطيني جديد
جهاد حرب، الباحث الفلسطيني في قضايا الحكم والسياسة قال لـ “عربي بوست” إن “إسرائيل اتخذت قراراً باعتبار عباس خارج الحسابات السياسية، وتنظر إليه على أنه عقبة في تطبيق تطلعاتها السياسية، وهذه الرؤية الإسرائيلية تتطابق مع الرؤية الأمريكية التي تنص في صفقة القرن على صناعة جيل جديد من الشباب لتولي مواقع قيادية في السلطة الفلسطينية، ممن يؤمنون بأفكار مختلفة عما تبنتها السلطة الفلسطينية وحركة فتح”.
وأضاف أن “مثل هذه التهديدات الإسرائيلية قد تكون قابلة للتطبيق من الناحية النظرية، لكن القيادة الفلسطينية لا تقتصر على مؤسسات السلطة الفلسطينية، في ظل وجود منظمة التحرير التي تعد النواة التي انبثقت عنها هذه السلطة”.
في ظل عجز السلطة الفلسطينية عن إيجاد استراتيجية لمواجهة صفقة القرن، واستمرارها في التشبث بمسار التسوية، رغم رفض إسرائيل له، فإن ذلك يضع الجميع أمام احتمالات اقتراب غياب عباس عن المشهد السياسي عبر تصفيته سياسياً، أو من خلال فرض حصار إسرائيلي أمريكي اقتصادي ومالي سيجبر السلطة على القبول بالشروط الأمريكية، المتمثلة بإيجاد جيل فلسطيني جديد من الشباب لتولي رئاسة السلطة.
هل يلقى مصير عرفات؟ هذا هو البديل لعباس
عصمت منصور، الباحث في الشؤون الإسرائيلية قال لـ “عربي بوست” إن “الرؤية الإسرائيلية بشأن مستقبل بقاء عباس رئيساً للسلطة تأتي من قناعات أنه لم يعد يقدم أي جديد بشأن العملية السياسية، وثانياً أن السلطة الحالية لم تعد تمتلك أي سيادة حقيقية على الأرض، وأن وجودها يمثل عبئاً على إسرائيل، لأن غالبية الملفات المتعلقة بحياة الفلسطينيين تديرها إسرائيل عبر الإدارة المدنية والمنسق الإسرائيليين، وفيما يتعلق بأمور الحياة العادية للفلسطينيين، فيمكن حينها تشكيل مجالس مصغرة لإدارتها”.
وأضاف أن “النظرة الإسرائيلية بشأن المرشح المرتقب لخلافة عباس تخالف التوقعات الفلسطينية، حيث تنظر إسرائيل لرجال الأعمال الذين شاركوا في ورشة المنامة في يونيو/حزيران 2019 التي ناقشت الشق الاقتصادي من صفقة القرن، على أنهم المرشحون الأوفر حظاً من غيرهم لقيادة رئاسة السلطة الفلسطينية”.
وأكد أنه “بشأن التصفية الجسدية لعباس، فإنني أستبعد اللجوء لهذا الخيار، فظروف تصفية عرفات مختلفة عن الظروف الحالية، لكن الأقرب للحدوث هو فرض حصار سياسي ومالي على السلطة، تمهيداً لإجبارها على خلق قيادة جديدة من داخلها أو خارجها على المقاس الإسرائيلي، كي تقود المرحلة القادمة”.