كان جواز السفر اللبناني في مطارات العالم خلال حربنا الماضية شيئاً مثل الطاعون والهواء الأصفر وكورونا، التي لم تعرف بعد. فأنت قادم من بلد يقتتل فيها الناس على الهوية، ويقيمون فيما بينهم الحواجز والسواتر الترابية، وينكر فيه الصديق صديقه، ويطرد الجار جاره.
لذلك طفق اللبنانيون في ديار العالم يطلبون الأمن والسلامة وأي جنسية يتحنن بها أي بلد. كانت بريطانيا ملجأنا ولندن حظنا. وبعد انتهاء فترة الإقامة اللازمة تقدمنا بطلب إلى الملكة، وبعد قليل صار لنا جواز سفر يحمل غلافه صورة تاجها. وبرغم انحسار الإمبراطورية، ظل للتاج هيبة ووقار. وما إن يلمحه ضابط المطارات والقطارات والبحار، حتى يؤشر لك بكل مودة، تفضل يا مواطن «صاحبة الجلالة».
لم يعد أحد يختم على جوازك تاريخ الدخول والخروج. ولا يسألك لماذا أنت قادم ومتى حضرتكم تغادرون إلى الربوع بالسلامة. ولم تتردد موظفة شرطية في مطار روما مرة بالقول وهي تتأمل الجواز: نيالك! أو يا بختك، فقلت على ماذا يا سنيورة، فغضبت غضبة مضرية قائلة: «على ماذا يا مغفل؟ على لندن».
امرأة من روما، وتحسدك على لندن؟ حامل الجواز نفسه كان قبل سنوات يثير الهلع في مطار فيومتشينو عندما تشاهد الموظفة صورة الأرزة على الغلاف، وتقرع أجراس الإنذار السرية تحت مكتبها بما معناه: جواز أزرق عليه أرزة، كيف نتصرف. بلغونا.
نعمة كان الجواز البريطاني. لا رعب في المطارات، ولا طوابير بلا نهاية لطلب التأشيرات، ولا تدقيق في روابط إلا الاسم بين عطا الله وآية الله. لكن النِعَم لا تدوم. ولا أدري ماذا خطر للإنجليز لأن يَخرجوا من الوحدة الأوروبية إلى «بريكست» ويخرجونا معهم. ويا مولانا، حقاً، «يا للهول». أمس، للمرة الأولى منذ عام 1989 تاريخ انضمامنا إلى الكومنولث، وصلتُ إلى فرنسا ووقفت في طابور جميع الجوازات. وبكل أدب، ولكن بكل حزم أخذت شرطية المطار ختمها وطبعت لي تاريخ الوصول. وفسرت لي ما معناه، أن أنتم حاملو هذا النوع من وثائق السفر أوروبي أكثر من ثلاثة أشهر، ومبروك عليكم بريكست.
شعرت بانقباض. فأنا في حاجة إلى البقاء مدة أطول في فرنسا خلال الصيف. وفكرت أنني سوف أثير المسألة مع الملكة عندما أكتب لها مهنئاً بيوبيلها الماسي. لكنني تنبهت إلى أن المعني في هذا الأمر ليس الملكة، وإنما هو المسيو ماكرون، وهو الرجل الذي يجب أن أكتب إليه. إلا أنني أعرف جوابه سلفاً: الأفضل أن تعود إلى بوريس جونسون، وتسأله: هل كانت المسألة تستحق بريكست؟ من المؤسف أن يصير المرء غريباً مرتين في فرنسا. مرة كلبناني ومرة بريكست. بالإضافة إلى الغربة الكبرى في بلد المنشأ!
ممدوح المهيني:كيسنجر… سارق الكتب!
النقطة الثالثة التي أود الرد عليها في مقال الأستاذ سمير عطا الله هو قوله إن كتب كيسنجر فذلكات وإنها تُكتب من قِبَل مساعديه. تصريح قوي يسلب منه كل إرثه الفكري ويجعل منه مجرد لص مؤلفات. فهل هذا صحيح؟
هذا بالتأكيد ليس رأي الرئيس نيكسون الذي أُعجب بعقل كيسنجر قبل أن يعرفه. الواقع أن كيسنجر كان يمقت نيكسون ولا يراه مناسباً للرئاسة كما كانت تعتقد الدوائر الثقافية والسياسية المتعجرفة في نيويورك وواشنطن حينها. وحسب كاتب مذكراته، فإن كيسنجر اخترع مرة زيارة لليابان حتى يتجنب الالتقاء مع نيكسون. ويضيف ساخراً: «أن تختلق الأعذار لتجنب مقابلة شخص فهذا أمر طبيعي. ولكن أن تخترع رحلة إلى اليابان، فهذا يعني أنك تمقته بشدة». هذا النفور لم يستمر طويلاً، بعد الانجذاب الفكري بين الرجلين في لقاء جمعهما بعد ذلك في نيويورك. نيكسون المولع بالقراءة كان قد قرأ أغلب ما كتبه كيسنجر وأهمه كتابه «السلاح النووي والسياسة الخارجية». يجيب الكتاب الذي دفع اسم كيسنجر في الواجهة عن سؤال مهم وهو: «كيف لأمة أن تدافع عن مصالحها في العصر النووي من دون أن تدمر نفسها أو الحضارة التي تعيش فيها؟ هل هناك حل لمعضلة الحروب النووية بين القوى الكبرى، حل وسط بين الدمار الكامل أو الاستسلام؟، نُشر الكتاب في الخمسينات ولا يزال مهماً بسبب المخاوف المتكررة من اندلاع مواجهات نووية لا يمكن السيطرة عليها. ويطرح الكتاب مزيجاً من التفكير السياسي والعسكري لمعالجة هذه المعضلة ويستعرض عقيدة الحرب المحدودة.
كان شاباً في الأربعينات حينما نشر هذا الكتاب. لنتقدم في الوقت حتى اللحظة الراهنة وهو الآن يقترب من الـ100، فقد نشر قبل سنوات قليلة واحداً من أهم الكتب بعنوان «النظام العالمي». الكتاب الذي يُبحر في الأصول التاريخية لتشكل النظام الدولي الحالي الذي يرسم صورة الواقع السياسي الحالي. الكتاب خليط من البصيرة والمعرفة والحكمة التاريخية، وينطلق من معاهدة ويستالفيا التي شكّلت الهياكل الأساسية للنظام الدولي الذي نعرفه اليوم. في الكتاب يشير إلى نقطة مهمة وهو أن المعاهدة تجاهلت روسيا القيصرية حينها، لقد أُقصيت من البداية، وهذا ربما يفسّر المرارات التاريخية التي تعتمل بداخل بوتين ودوافعه العميقة لهدم النظام الأوروبي الغربي القديم واستبدال آخر به. من الصعب أن تقرأ هذا الكتاب الموسوعي من دون أن تتأمل المفارقة بأن يظل هذا العقل اللامع حبيس جسد كهل أرهقته أمراض الشيخوخة.
وبين الكتابين الأول والأخير، ألّف كيسنجر كمّاً كبيراً من الكتب اللافتة التي يجمع فيها التاريخ القديم وتاريخه السياسي وتجربته ورؤيته الفكرية مكتوبة بلغة رفيعة متدفقة، حتى وإن كانت الأفكار الثقيلة ممتدة على عدد كبير من الصفحات. وقد قال مرة ساخراً من مؤلفاته الطويلة: «أحد النقاد في صحيفة إنجليزية كتب في نقده لكتاب صخم لي: لا أعرف إذا كان كيسنجر كاتباً جيداً ولكن بالتأكيد الذي ينتهي من قراءة هذا الكتاب الثقيل قارئ جيد».
في كتابه عن «الصين» يعتمد كيسنجر على معرفته الشخصية وتجربته الذاتية مع الصينيين، واطلاعه على تاريخهم، والهدف من الكتاب هو شرح الصين للقراء وللمسؤولين الغربيين حتى يفهموا طبيعتها الحذرة، وثقافتها المعقدة واختلافها عن أميركا. يغوص في الفصول الأولى باستعراض التاريخ الصيني حتى العصر الحديث. ويعتمد على مذكراته الشخصية خلال لقاءاته مع ماو والمسؤولين الصينيين في كتابة ما يصعب على المساعدين أن يكتبوه بدلاً عنه، كما يُتَّهَم.
ذات الأمر ينطبق على كتابه «الدبلوماسية» حيث يتطرق فيه كيسنجر إلى لقاءات بالزعماء (ديغول وماو ونيكسون، وريغان وغورباتشوف وغيرهم) والمفاوضات السياسية، ويمارس عادته في العودة 300 عام للوراء ليشرح كيف لعبت الدبلوماسية وتوازن القوى الدور الأكبر في شكل العالم الذي نعيش فيه.
قائمة طويلة من الكتب والمؤلفات والمحاضرات والمقالات تكشف عن الثقافة السياسية والتاريخية الواسعة التي يتملكها. السؤال إذن: من أين أتت تهمة الفذلكات وأنه يسرق جهود غيره؟ التفسير الوحيد يُفهم في سياق الهجوم عليه واغتيال الشخصية، فهو ليس فقط مجرم حرب عديم القلب، بل سارق كتب ومدّعي معرفة. رجل كاذب منتحل بلا مبادئ طامح فقط للقوة. بالطبع كل هذه الاتهامات التي يتم الترويج لها لم يَثبت منها شيء. في عالم المؤامرات كل شيء جائز. شيء يشبه عالم الأحلام، حيث يغيب منطق الأشياء وتمتزج الحقائق بالخرافات. ولديَّ تفسير آخر وهو أن الهجوم على كيسنجر أتى أيضاً في السياق الأوسع للهجوم على رئيسه نيكسون الذي تعرض، رغم دوره الجذري في التاريخ الحديث، لحملات شكّلت طبقات كبيرة من الأوهام أخفت حقيقة الرجل الذي بدأ مؤخراً يستعيد المكانة التي يستحقها في التاريخ. المهم في النقاش مع الأستاذ القدير سمير عطا الله ليس كيسنجر ولكن الفكرة نفسها. هذا ينطبق في وقتنا الراهن على شخصيات سياسية كبيرة ومفصلية تحاط بضباب كثيف من الدعايات المضللة لتحطيم صورتها.
يصف أحد المعلقين الكاتب والمتحدث كيسنجر، في الوقت نفسه، بقوله: «إنه يكتب ويتكلم بطريقة تشبه انهمار المطر. إيقاع واحد وصوت واحد وأفكار مثل القطرات الهابطة من السماء. عندما تقاطعه، يختفي الإيقاع فجأة وعندما يعود للحديث أو الكتابة يعود المطر للانهمار من جديد».