لم يختلف تعامل السلطة اللبنانية مع ملف النفط والغاز عن تعاطيها مع الملفات الشائكة والمصيرية الأخرى في البلاد. أساءت السلطة إدراة الموارد النفطية التي عُوّل عليها للنهوض من الأزمة، وتلكّأت في إيجاد حلول والتعامل بديناميكية مع الحدث. وها هو لبنان يدخل في نفق خسارة جديدة.
في خطوةٍ كانت مُتوقّعة، لم تفاجىء أحداً، دخلت سفينة “إنرجين باوير – Energean Power” إلى حقل كاريش النفطي، وبدأت عملها بالتنقيب عن الغاز واستخراجه. “إنرجين” دخلت إلى المنطقة البحرية المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل وتبلغ 860 كيلومتراً مربعاً، بحسب الخرائط المودعة من جانب الطرفين لدى الأمم المتحدة، وهي منطقة غنية بالنفط والغاز.
السفينة تتحضّر للإبحار منذ فترةٍ طويلة، حتى أن إنشاءها وتصميمها استغرقا وقتاً طويلاً كونها أضخم سفينة تنقيب، إلا أن المفارقة كانت دهشة السلطة اللبنانية والمعنيين عند انتشار خبر وصولها إلى المنطقة المتنازع عليها. فلبنان يخوض مفاوضات مع إسرائيل منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2020، برعاية الأمم المتحدة وبوساطة أميركية، وعُقدت 5 جولات من التفاوض، آخرها كان في أيار/مايو 2021. إلا أن السلطة، لا سيما رئيس الجمهورية ميشال عون، أظهرت تلكؤاً واضحاً بعدم التوقيع على المرسوم رقم 6433 الضامن حق لبنان بالخط 29.
فور دخول “إنرجين” إلى الحقل النفطي، سارع المعنيون بالاستنكار وتراشق المسؤوليات، إذ قال رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إن “محاولات العدو الاسرائيلي افتعال أزمة جديدة، من خلال التعدي على ثروة لبنان المائية وفرض أمر واقع في منطقة متنازع عليها، ويتمسك لبنان بحقوقه فيها، أمر في منتهى الخطورة، ومن شأنه إحداث توترات لا أحد يمكنه التكهن بتداعياتها”، معتبراً أن تنقيب الإسرائيليين يشكّل “استفزازاً للبنان”، لا تخاذلاً من الطرف اللبناني وسوء إدارة لموارده.
من ناحيته اعتبر وزير الدفاع الوطني اللبناني موريس سليم، أنّ “التحركات التي تقوم بها اسرائيل في المنطقة المتنازع عليها في الجنوب اللبناني، تشكّل تحدياً واستفزازاً للبنان، وخرقاً فاضحاً للاستقرار الذي تنعم به المنطقة الجنوبية”.
بدت تصريحات المسؤولين وكأنها “يقظة” من بعد فوات ميعاد قطار. فوفق المتخصصة في شؤون الطاقة لوري هايتيان، فإن حقل “كاريش” هو المنطقة النفطية شبه الوحيدة المؤكّد وجود نفط فيها. وعليه، فإن إسرائيل لم تخرق الخط 29 بهدف الاستكشاف والتنقيب، وإنما بغاية استخراج النفط. كما تؤكد هايتيان أن إسرائيل ستتمكن من استخراج الغاز خلال 3 أشهر. وبحسب المخطط الأولي، ستكون لإسرائيل 3 حقول للغاز الطبيعي منفصلة، موصولة بالسوق المحلية بواسطة 3 أنظمة إنتاج منفصلة ومستقلة، الأمر الذي يضمن للسوق الإسرائيلية استقلالها في مجال الطاقة، لا سيما أن العقود باتت جاهزة وهي تستعد لمدّ الدول الأوروبية بالنفط.
كل ذلك يأتي فيما قد يخسر لبنان كل موارده النفطية بسبب سوء إدارته للملف، إذا ما لم يوقّع رئيس الجمهورية فوراً على المرسوم رقم 6433، وفق هايتيان.
“حزب الله” يبحث عن شرعية لشنّ حربه؟
في الساعات الأولى بعد انتشار خبر دخول السفينة إلى حقل “كاريش” النفطي، غاب “حزب الله” كلياً عن المشهد وأبدى صمتاً خلق تخوّفاً من حربٍ وشيكة.
نائب أمين عام الحزب نعيم قاسم، وفي مقابلة مع وكالة “رويترز”، بدّد احتمالات الحرب. إذ شدّد على أن “حزب الله” مستعد لاتخاذ إجراءات “بما في ذلك القوة”، ضد عمليات التنقيب الإسرائيلية عن الغاز، في المناطق البحرية المتنازع عليها، بمجرد أن تعلن الحكومة اللبنانية انتهاك إسرائيل حدود لبنان البحرية. بمعنى آخر، فإن الحزب مستعد لاستخدام القوة إذا ما اعتبرت الدولة اللبنانية أن حقل “كاريش” حق لبناني، أما إذا لم تعلن ذلك، فسيرضخ للأمر الواقع.
الهدوء الذي أظهره “حزب الله” والخضوع للدولة اللبنانية ولقراراتها لم يظهره في أي ملفٍ آخر. وهو لا يُفسّر إلا برغبة الحزب بكسب الوقت لحماية نفسه من خلال الاختباء خلف ظلّ الدولة. ولكن لماذا؟
وفق مصادر متابعة لملف النفط والغاز، فإن هذا الملف يُعتبر آخر الأوراق الاستراتيجية لـ”حزب الله” وسلاحه. إذ إن ترسيم الحدود البحرية، سيليه ترسيم الحدود البريّة، والتي بطبيعة الحال لا تضم مزارع شبعا، وبالتالي تسقط حجة أساسية للحزب لتمسّكه بسلاحه.
إسرائيل اعتبرت أن “حزب الله” لن يضرب سفينة الإنتاج، وفق ما ورد في الصحف الإسرائيلية. كما تحوّل الإعلام الاسرائيلي نحو تقديم عروض لشراكة مع لبنان في ملف استخراج الغاز وتصديره، وهو عرض سابق رفضه لبنان.
تؤكّد المعطيات دور إيران البارز في قضية النفط اللبنانية. إذ إن الوقت الذي يرغب “حزب الله” بكسبه، هو أيضاً بهدف انتظار بوادر تفاهم أو اتفاق إيراني – أميركي بشأن الاتفاق النووي أو بيع النفط من دون عقوبات. في حال تمّ الاتفاق، لن يكون الحزب مضطراً إلى شنّ حرب أو أي شكل من أشكال التصعيد العسكري، أما إذا انسدّت المفاوضات، فإن إيران قد تلجأ إلى التصعيد والحزب كذلك، عبر استهداف سفينة “إنرجين”. علماً أن استهدافها قد لا يكون بهدف إشعال الجبهة، وإنما بهدف استدراج العروض للعودة إلى طاولة المفاوضات.
وكتب طارق اسماعيل – كاتب لبناني:حقل كاريش : ماذا لو لم يرد” حزب الله”؟
السفينة “إينرجان باور” في عرض البحر، والمهمة لا شك عدوانية، وهي التنقيب عن الغازواستخراجه من حقل كاريش.
في العام 2006، وفي اليوم الرابع من حرب تموز بين “حزب الله” وإسرائيل، وفي تلازم زمني مقصود، كان صوت الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله يُعلن إحراق البارجة الإسرائيلية”ساعر5″ في عرض البحر، وهي التي كانت تعتدي على المدنيين اللبنانيين.
في الحدثين المذكورين ما يُفضي إلى توافر وقائع متشابهة، لكنه يفتقر أيضاً إلى غيرها، وربما أهمها. عرض البحر، اعتداء إسرائيلي على لبنان، ووسيلة الإعتداء، وهذه مجتمعة توفر العناصر التي تشكل أوجه الشبه، فيما تبرز الحرب كأبرز الوقائع المفضية إلى عدم تكامل مشهديتي الحدثين، والتي تسمح غالباً لأطرافها بالتحرر من الضوابط التي تفرضها حالات السلم، أو ما هو بين بين، وهذه حال “حزب الله” أمام الحدث الراهن.
لماذا “حزب الله”؟، في الوقت الذي يفترض بدولتنا أن تكون أمام هذا الإختبار العسير الذي يقع فيه لبنان حالياً؟
والسؤال على رجاحته يأتي عاماً، ويتشارك في طرحه جمهور الحزب مع مناوئيه. لكن تأتِّيه يندرج في مسارين متوازيين ومتضادين، أحدهما مأخوذ بخطاب الانتصارات الدائمة، وهو حال المناصرين للحزب، فيما الآخر، وبدافع الخصومة، مسكون في راهنه بحالة من التندر في قدرة “حزب الله” على دفع العدوان. وأغلب الظن أن الجمهورين المتضادين يلتقيان فقط على مُسلَّمة واحدة يُفضي إليها السؤال المذكور، وهو تفاوت القدرة بين “حزب الله” والدولة اللبنانية لصالح الأول، حتى عند أشد المطالبين بحيازة الثانية حق رد الاعتداء.
منذ تمنُّع رئيس الجمهورية ميشال عون عن توقيع تعديل المرسوم 6433، والذي يضمن للبنان أقله الحق في اعتبار المنطقة البحرية التي باشرت فيها إسرائيل التنقيب، منطقة متنازع عليها، أطلَّ أمين عام “حزب الله” على اللبنانيين بأكثر من خطاب خلا مضمونه من الحديث عن التمنع الرئاسي، إلى أن اقتربت الانتخابات النيابية الأخيرة.
في العاشر من أيار-مايو، وقبل الاستحقاق الانتخابي بستة أيام، شكَّل موضوع النزاع البحري جنوباً بين لبنان وإسرائيل متن مهرجان جماهيري اقامه “حزب الله”، وتحدث فيه أمينه العام. ولإن كان استحضار الغاز أتى في شق من الخطاب كرافعة للأزمة المالية والاقتصادية، ففي الشق الآخر منه حضرت “مقاومة” الحزب كرادع للاعتداء الإسرائيلي، ثم، وهذا الأهم، كتزخيم لمشاركة جمهوره في الاستحقاق، و بالدَّالة الأكثر تماساً مع وجدان هذا الجمهور.
والحال، ها نحن أمام اعتداء إسرائيلي في زمن اللاحرب، وأمام جمهورين مشطورين بحزب كثَّف في وعي اللبنانيين أن علة وجوده هي المقاومة. لكن الجمهورين في راهنهما، وأمام الحدث البحري، يتنابذان تلك العلة تندُّراً أو حماساً، وبين الغريزتين هناك متسع لحرَج مشترك.
على ضفاف الحدث، يجد المتندرون لا شك ما يُسعف تندرهم وهم يرصدون حال الحزب في موقعه من الإعتداء. ها هم أمام حزب في موقف ملتبس بين الفعل ورد الفعل، بين الرغبة ومعوقاتها، أوبين المتاح والمستحيل. لكن هؤلاء المتندرين مثقلين أيضاً بأنفسهم المتأرجحة بين الرغبة والخوف المقيمين في سؤال آخر، ماذا لو ردَّ “حزب الله” على الإعتداء؟. أغلب الظن هنا أن المتندر سيكون ضحية تندره أولاً، والأهم أنه وهو الممتنع عن إضفاء شرعيته على سلاح الحزب، سيجد نفسه امام انفصام بين ما يطلبه تندراً، وبين نبذه لمآلات طلب يعرف كوارثه مسبقاً.
لكن المتندرين ليسوا وحدهم مُثقلين بهكذا تجاذب نفسي. هذه أيضاً حال “حزب الله” وجمهوره، حال من يخضع يومياً للوعود وظروفها، تحقيقاً أو امتناعاً.