إقبال القارئ العربي على الكتب المترجمة بشكل ساحق، ظاهرة لا ينكرها الناشرون؛ لكن لكل منهم تفسيره لها، ورؤيته لأبعادها وأسبابها، وإن كان أحد لا يرى فيها ظاهرة صحية. وإذا كان الخليجيون هم الأكثر شراء للمترجم من المؤلفات، فقد لحق بهم المصريون وقراء المغرب العربي والعراق، بحسب صاحبة «دار الآداب» رنا إدريس.
ولا يملك الناشر إلا أن يحقق رغبة الشراة، بتوفير أفضل ما يصدر باللغات الأجنبية، بانتظار أن تتغير الأمزجة. ويصل الأمر حد أن يصبح بيع الروايات المترجمة الوسيلة المتبقية لدعم الكتاب العربي الذي لا يجد له ما يكفي من القراء. وتشرح إدريس: «نحن بصدد إصدار 9 روايات عربية، حالياً، لن نستطيع أن نغطي خسائرها سوى من بيع الروايات المترجمة، مع أن هذه الأخيرة مكلفة، نسبة إلى الكتاب العربي، بسبب حاجتنا إلى دفع حقوق النشر وتكلفة الترجمة».
غير صحيح أن الكتب المترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، غير مدفوعة الحقوق. «هذا أمر كان يحصل في السابق. اليوم تغير الوضع»، بحسب ما يشرح لنا حسن ياغي، مؤسس «دار التنوير» في بيروت الذي يؤكد أن «زمن الفوضى في هذا المجال ولّى، والسوق ضُبطت. ثمة ضغط كبير الآن، والدور مضطرة لشراء حقوق نشر الكتاب الأجنبي، وهذا لصالح الكتاب والنشر؛ حيث يحدّ من الفوضى، ومن انتشار الترجمات السيئة التي كنا نراها». وعن التكاليف يقول: «حقوق نشر الكتاب الأجنبي ليست ذات تكلفة واحدة، منها ما يكلف ألف دولار، أو ألفين، ومنها ما يصل إلى 10 آلاف». ويشرح ياغي: «هناك كتب عادية، وأخرى مطلوبة، وغيرها شهيرة وذات مبيعات عالية، ومنها ما عليه منافسة كبيرة. وبالتالي على الناشر أن يدفع تكاليفها كي يحصل عليها. نحن في سوق عالمية، ومن مصلحة الناشر عدم سرقة الحقوق؛ لأن هذا يسهم في تراجع حركة التأليف. الكاتب يعمل سنوات طويلة على تأليف كتابه، ثم يأتي من يسرق جهده. هذا سبب أول في إضعاف حركة النشر».
الدور تتعامل مع جهات وبلدان مختلفة، ولكل منها أصولها وقواعدها وأسلوبها. رنا إدريس تنشر روايات مترجمة من لغات متعددة. النقل مكلف دائماً بالنسبة لها، تقول: «حين أحصل على عنوان مهم لرواية، أدفع مقدماً من 15 إلى 20 ألف دولار، ثم هناك حوالي 5 آلاف دولار تقريباً أتعاب المترجم، وبالطبع بعد ذلك هناك التصحيح وإعادة القراءة، والمراجعة، وهذا كله مدفوع ولا مهرب منه. لنقل إنني حصلت على حقوق ترجمة كتاب لموراكامي، لا بد من أن أدفع بين 10 و15 ألف دولار للدار، ثم لا بد من أن أدفع للمترجم، أضف إلى ذلك تكاليف التحرير والطبع والتدقيق ورسم الغلاف، وغيرها».
لكن بسام شبارو، رئيس مجلس إدارة «الدار العربية للعلوم ناشرون» يلفت النظر إلى أن بعض الدول تشجع الترجمة من لغاتها، وتدفع للدور التي تفعل ذلك، وهذا يسهل مهمة الناشر، ويوفر عليه جزءاً من التكاليف. فالحكومات التركية والروسية والكورية مثلاً، تساعد في تكلفة الترجمة. أما الاعتماد على البيع، فهو غير مجدٍ؛ لأنه في كل الأحوال قليل وغير كافٍ. يضيف شبارو: «أنا في المهنة منذ 35 سنة. كنا نطبع من الكتاب كمرحلة أولى 5 آلاف نسخة على سبيل التجربة، ثم نطبع غيرها وغيرها، أما اليوم فالتجربة تكون بألف نسخة لا أكثر، وبعض الدور تكتفي بـ500 نسخة. أمة من 350 مليون نسمة، لا نستطيع أن نطبع لها أكثر من هذا، وأحياناً هذه النسخ القليلة تتراكم ولا تنفد. ما بين الفيديو والموبيل ووسائل التواصل، شعبنا لا يقرأ ولا يستهلك الكتب، ولا يساعد على تحريك حركة الإنتاج».
هل رواج مبيع الكتاب المترجم في السوق العربية يعني أن الرواية العربية تراجعت وحلّت محلها روايات آتية من لغات أخرى؟ يجيب ياغي: «الرواية العربية لم تتراجع، ولم تتقدم. فهي لم تبلغ يوماً مبلغاً مهماً، ولم تفرز أسماء تنافس عالمياً، بالمعنى الحقيقي للكلمة». يضيف ياغي: «لا، بل أكثر من ذلك، التأليف في العالم العربي ضعف كثيراً؛ خصوصاً في المجال الفكري، بعد كتب نصر حامد أبو زيد، وعبد الله العروي، وغيرهما، وغياب محمد أركون. المستوى الأكاديمي انحدر، والتعليم عموماً، وكذلك النتاجات العملية. كما أن ثمة تغيراً في مزاج القراء الذين باتوا لا يحبذون الكتب الفكرية الصعبة، ويفضلون عليها الكتب الفلسفية السهلة والخفيفة، إضافة إلى الروايات المسلية».
الأرقام التي يعلن عنها الناشرون مؤرقة، في «الدار العربية للعلوم» حوالي نصف الكتب مترجم، والنصف الآخر لمؤلفين عرب. يقول شبارو: «من أصل 6 آلاف كتاب أصدرتها الدار، نصفها منقول من لغات أجنبية».
أما «دار الآداب» فمقابل 65 في المائة من الروايات المترجمة التي تنشر سنوياً، هناك 35 في المائة فقط من الروايات العربية. قبل عام 2010 كانت النسبة معكوسة، والرواية العربية هي الأساس عند القارئ؛ لكن الطلب تغير تدريجياً، وصارت الأمور تتسارع لتصل إلى ما هي عليه بحلول عام 2017. تقول إدريس: «أنا غالباً ما أستفيد من بيع الرواية المترجمة في معرض الكتاب، لأشرح للقارئ أن ثمة روايات عربية جميلة تستحق اهتمامه. أي أن الرواية المترجمة قد تتحول إلى مصيدة للتشجيع على قراءة المؤلف العربي. أقول للقارئ، مثلاً: لماذا لا تجرب قراءة الكاتبة الفلانية، إنها تكتب مثل إيزابيل الليندي، أو أنها تناولت مواضيع تشبه التي تكتب عنها أليف شافاك».
الوضع في «دار التنوير» أكثر دلالة، إذ أصبحت الكتب المترجمة تصل إلى نسبة ساحقة هي 70 في المائة من مجمل نتاجات الدار السنوية، ولا تحتل الكتب العربية سوى 30 في المائة من الإصدارات. وهذا رقم مخيف بالفعل. نسأل مؤسس الدار حسن ياغي: هل معنى هذا أن الكاتب العربي قد انقرض، أو في طريقه إلى الانقراض؟ يجيب: «نعم، قد يكون الكاتب العربي في طريقه إلى الانقراض. المجتمع لم يعد قادراً على أن يفرز كاتباً، ويقرأه، وينقده، ويروج له، ويعرّف به. حتى القراء يرون في (أمازون) مرجعيتهم لمعرفة الكتاب الأجود والأشهر، وليس أي مرجعية عربية. (أمازون) كموقع يفرض نفسه في العالم أجمع، وله مصداقية، ومراجعات وآراء القراء تنال ثقة المشترين. وهذا ما يبحث عنه القارئ، يريد مرجعاً يوليه ثقته».
رنا إدريس تعزو الصدود تجاه الكتاب العربي إلى عدة أسباب، منها: «عدم ثقة القراء بمستوى الكاتب العربي. وهذا ظلم لروائيين يُقرأون في العالم أجمع؛ لكن أبناء لغتهم لا يريدون قراءتهم، ولا يقدرون موهبتهم». وتعتبر إدريس أننا «نعيش مرحلة انعدام الثقة. لا ثقة لنا بحضارتنا، أو ثقافتنا أو كتّابنا. هناك انعدام ثقة باللغة العربية نفسها، بأنها قادرة على تأدية واجبها تجاه أبنائها. يضاف إلى ذلك انعدام النقد الجدي، في الصحف ووسائل الإعلام الذي يكون في العادة الوسيط بين القارئ والكاتب؛ خصوصاً بعد أن تحول بعض النقاد إلى مجرد مدّاحين ومداهنين». تأسف إدريس لأن الفرق شاسع بين جدية النقد الذي يمكن أن يركن إليه في «نيويوركر» مثلاً، وما نقرأه في بعض المطبوعات العربية. هذا كله يسهم في تراجع الكتب العربية، ويعزز رواج بعض الكتاب المحليين الصغار الذين ينشرون الشذرات التي يضعونها على «تويتر»، أو كتابات فيها رعب أو إثارة، تلعب على ميول القراء.
لا يريد بسام شبارو أن يقلل من خطر القرصنة على مجمل النتاج العربي، وعمل الناشرين عموماً. فإذا ما طلبنا على غوغل «كتب عربية»، سنرى عشرات آلاف الكتب العربية المعروضة للتنزيل مجاناً، وهذا ما لا تسمح به دول غير عربية، تفاوضت مع «غوغل» وقوننت النشر الإلكتروني، ووضعت حداً لهذه الممارسات. ويضيف شبارو: «في الحقيقة، نحن لا نعرف، في العمق، ما نبيع وما لا نبيع؛ لأن سوق التزوير أكبر من الناشرين، ومنشوراتنا مستباحة. فكتبنا تقرصن بسرعة، ونحن نهرع لنبيع عدداً من النسخ قد لا تصل إلى 3 أو 4 آلاف نسخة، قبل أن يصبح الكتاب منشوراً بالمجان، ويجده القارئ بالبحث على (غوغل). لهذا نقول إن الكتب العربية منتهَكة، وهو ما تحاول نقابة الناشرين العرب معالجته، ونرجو أن يوفَّقوا فعلاً إلى حلّ هذه المشكلة».
ومع ذلك، يصر شبارو على أنه لن يتجاهل كتاباً مهما باع 700 مليون نسخة، ولن يعفّ عن ترجمته ونشره باللغة العربية، فقط لأنه خائف من التزوير ومن غدر القرصان. فالمسيرة مستمرة.
«ليست القرصنة وحدها التي تؤرق الناشرين العرب. نحن جزء من حركة الكتابة والنشر في العالم، هذا صحيح» يقول حسن ياغي: «لكننا غير مؤثرين في هذه الحركة العالمية. ضعف النقد ذي المصداقية أدى بشكل مباشر إلى ضعف النشر، وضعف الثقة بالكتاب العربي من قبل القارئ. نحن جزء من سوق كبيرة، الحضور العربي فيها هزيل، وهزيل جداً».