هل يبقى المشرق العربيّ، الممتدّ من العراق شرقاً إلى مصر غرباً، منطقة قابلة للحياة؟
العنوان الهَلعيّ (alarmist) هذا ليس مقصوداً به إثارة الهلع. المقصود، في المقابل، محاولة فهم للطور المعتم والمسدود الذي تمرّ به المنطقة المذكورة. إنّه، في الحدّ الأدنى، طور ينبغي أن يكون مُقلقاً بالمعنى الوجوديّ للتعبير.
هناك اليوم، ما بين أسباب وعوارض، تسعة عوامل على الأقلّ تشير علينا بذلك:
أوّلاً، الهويّات الطائفيّة والإثنيّة تندفع إلى سويّة اللامعقول. نحن اليوم مجرّد سنّة وشيعة، وعرب وأكراد، ومسلمين ومسيحيّين… وما من تعريف آخر تقريباً. الهويّات هذه، وهي بطبيعتها مضادّة لهويّات أخرى، تندفع إلى اعتناق أكثر الأفكار تخلّفاً ورجعيّة وأصوليّة. يحصل هذا بإيقاع شبه يوميّ.
ثانياً، العلاج بالاقتصاد وبالمصالح المشتركة لا يكفّ عن إعلان فشله مرّة بعد مرّة. الثروة النفطيّة في العراق سبب لتناحر موسميّ بين المركز البغداديّ والطرف الكرديّ في الشمال. أفدح من ذلك أنّ احتمال الثروة النفطيّة في لبنان، والتي يحتاج إليها اللبنانيّون بإلحاح يصعب وصفه، سببٌ محتمل لحرب جديدة مع إسرائيل. إنّ ما جرّبته أمم أخرى من تحويل الثروة أساساً لتوطيد وحدة وطنيّة في الداخل، أو لتقارب وربّما سلام بين طرفين متنازعين، لا يصحّ عندنا. عندنا، العصبيّات وأدلجتها تطردان المصالح وتشقّان للتدمير الذاتيّ دروباً عريضة.
ثالثاً، محاولة تغيير الأوضاع البائسة في المنطقة، بل في عموم العالم العربيّ، فشلت كلّها. الثورات جميعها هُزمت (قرابة عشر ثورات في الموجتين الأولى والثانية). لم يعد مقنعاً أن نردّ على دعاة «الاستثناء العربيّ» بأنّهم «عنصريّون» ونمضي في سبيلنا. صار المطلوب، فيما نحن نرفض هذا المفهوم، أن نفكّر أكثر، وأن نأتي بتصوّرات أغنى وأقلّ كليشيهيّة وتكراراً.
الذين لم تنجح شعوب المنطقة في تغييرهم ليسوا فقط نظاماً بطّاشاً، ومدعوماً بالإيرانيّين والروس، كنظام بشّار الأسد في سوريّا. اللبنانيّون لم يستطيعوا أن يغيّروا حاكماً للبنك المركزيّ أشرف على أكبر كارثة عرفها بلدهم في تاريخه. ثلاثة وزراء سابقون للطاقة، لا يرقى الشكّ إلى مسؤوليّتهم عن مأساة الكهرباء، انتُخبوا كلّهم نوّاباً في البرلمان. وزيران سابقان مطلوبان للمساءلة في تفجير مرفأ بيروت شبه النوويّ انتُخبا أيضاً. حصل هذا كلّه بفضل العصبيّة الطائفيّة المتورّمة.
التغيير الوحيد الذي يبدو متاحاً لمنطقتنا هو الحروب الأهليّة.
رابعاً، صار المشرق العربيّ المصدر الأوّل بلا قياس للّجوء والنزوح والهجرة. أوكرانيا، بالطبع، هي التي تتصدّر الأرقام راهناً بسبب حربها، لكنّ الظاهرة عندنا أسبق وأمتن وأشدّ ديمومة وأقلّ ترجيحاً للعودة إلى البلدان الأصليّة.
الرسالة هنا لا يعوزها التأويل: إنّنا منطقة غير قابلة للعيش. مغادرتها، بالنسبة إلى كتل سكّانيّة متكاثرة، شرطٌ للحياة والبقاء، ناهيك ببناء المستقبل. المتعلّمون وأصحاب الكفاءات، وكذلك أصحاب المشاريع القادرون على توفير فرص العمل، في عداد من رحلوا ويرحلون.
خامساً، إذا كان موت سوريّا موتاً للرابط الماديّ بين أطراف المشرق العربيّ، فموت لبنان موت للنموذج الذي من دون تأثيراته لن يكون سوى العفن والانكفاء عن العالم. موت لبنان إعلان عن موت يصيب درجة متقدّمة من الحرّيّة بمعايير المنطقة العربيّة.
سادساً، بِتنا أقرب إلى رقعة حربيّة بين إيران وإسرائيل -إيران التي تتمدّد وتوسّع نفوذها على حساب عرب المشرق ودولهم، وإسرائيل التي لن تُحجم، في مكافحتها التمدّد الإيرانيّ، عن تحويلنا أرضاً محروقة.
سابعاً، في العالم الجديد الذي افتتحته الحرب الروسيّة على أوكرانيا، سوف يزداد هامش حقوق الإنسان انكماشاً وضموراً. هذا ما سوف يضاعف التعفّن الذي يعيشه المشرق في ظلّ الاستبداد والمنازعات الأهليّة. الحالة الحربيّة والعوامل الجيوسياسيّة والاقتصاديّة ستكون لها، حتّى إشعار طويل آخر، اليد الطولى.
ثامناً، لا بأس بأن تنهار دول وأوطان شرط أن تكون هناك اقتراحات أو تصوّرات لدول وأوطان بديلة. هذا ليس وارداً لدينا، لا سيّما أنّ ضعف اكتراث الخارج بمنطقتنا يقلّل فرص انعقاد مؤتمر دوليّ مُلحّ لهذا الغرض. ما يزيد البؤس بؤساً أنّ الثقافة السياسيّة السائدة عربيّاً لا تزال تعامل إعادة النظر في الوحدات الوطنيّة المتداعية بوصفها أقرب إلى الخيانة.
تاسعاً، ليس هناك في المشرق بلد أقوى من الآخرين، أو طرف أقدر على تقديم العون لسواه. بلد كالعراق، قويّ وغنيّ مبدئيّاً، يبدو عاجزاً تماماً عن الإقلاع السياسيّ. إنّها محنة منطقة برمّتها، محنةٌ عابرة لدولها، وسوف تكون، في أغلب الظنّ، عابرة لأجيالها أيضاً.
الوصف أعلاه موضوعه المشرق الذي كان الأبكر عربيّاً في الانفتاح على الحداثة وبناء المدارس والجامعات وتطوير الفنون وتشكّل النُخب… عسى ألا نتّهم، مرّة أخرى، الحداثة والمدارس والجامعات والفنون… بما ألمّ بنا ويُلمّ.
سمير عطا الله:الجزائر والنصر الآخر
احتفلت الجزائر بعيدها الستين وهي بعيدة عن عالمها العربي، مشرقاً ومغرباً. أو وهو بعيد عنها، ستين عاماً وستة عقود. أما قبل، فكانت في قلبه، في كل بيت من بيوته. وفي المدارس والجامعات ورياض الأطفال وساحات التظاهر وصلوات الحرية.
وعندما خرجت إلى مجمع الدول ومحافل الاستقلال، كان العرب في استقبالها على الشرفات وعلى الطرق، يحملون الأعلام ويهزجون. ووقف أحمد بن بلة إلى جانب عبد الناصر من جهة، ومن جهة أخرى إلى جانب نهرو وتيتو وشو آن لاي.
ثم أخذ رفاق الثورة وأهلها يصابون بالداء العربي الجائح. انقلب العقيد مصطفى بوخروبة، وأخذ الحكم كله بقبضته تحت اسمه الحركي هواري بومدين. وبعدما كان بن بلة الرجل الذي تخرج إلى استقباله عواصم العالم، منع عليه الخروج من منزله، وسمح لأمه بأن تنتقي له عروساً تقبل الحياة الجبرية لأبطال الحرية. ودبّت في الجزائر الجميلة فوضى الوراثات والانقلابات وعمليات الاغتيال. وأقسى من التصفيات الجسدية والخلافات حول الوجاهة الفارغة والمال، سرت موجة من الاغتيالات المعنوية لآباء الثورة ورموزها. ومَن بقيَ من هؤلاء حياً اتخذ لنفسه كرسياً في مقاهي جنيف، حيث يتذكر الرفاق الماضي ويتعللون بالمستقبل. لكنّ أكثريتهم الساحقة غابت عليهم الشمس في المقهى يريدون العودة إلى الجزائر. وقيل مرة إن أحد أبرز هؤلاء سُئل: لماذا يعود رفاق الحلقة متأخرين إلى بيوتهم؟ فأجاب بالفرنسية ils ent peur d’y retourner.
بعد جائحة الانقلابات العسكرية واغتيال الطيبين من أمثال محمد بوضياف، ضربت الموجة الأسوأ: الفساد: وعندما وصل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعد جولة طويلة في ملاذات العرب، قال في خطاب القَسَم إن على الجزائر أن تنسى 12 مليار دولار نهشها الفساد وتبدأ من جديد.
لكن إشاعات المخالفات المالية لاحقت بوتفليقة وعائلته طوال 20 عاماً أمضاها في الحكم، كما أمضى السنوات العشرين السابقة في محاولة الوصول. ولم ينفع المرض الذي أصابه في الحد من شهيته للسلطة. وقرر وهو على كرسي متحرك وغير قادر على النطق، أن يخوض معركة التجديد، إلى أن نزل الجزائريون إلى الشوارع، ولم يعودوا إلى منازلهم في أحياء العاصمة الجميلة، إلا بعد استقالته.
لا يستطيع أحد أن يأخذ من الجزائر عيد المليون شهيد. ولا بطولة الذين ناضلوا وظلوا أحياء، يبنون في أحد أجمل بقاع الأرض. لقد هام بها الفرنسيون حتى قرروا الانتحار، وليس فقط الاستعمار بها، فازت بمعركة الحرية والآن تخوض حرب البناء.