حين ألححت على المهرب العراقي “أمجد” (اسم مستعار)، الذي قابلته صدفة في بروكسل، لإيجاد طريقة مضمونة لإيصال قريبي المفترض من تركيا إلى بلجيكا بعد توقف المسار البيلاروسي، أطلعني على طرق ومسارات أخرى، قبل أن يفاجئني بفكرتي “الجواز الشبيه” و”التشييك”.
أظهر لي فيديو لمهاجرين ينتظرون في غابة، ثم تحضر سيارة خاصة حديثة يركبون فيها وتنطلق بهم. كان ذلك خط التهريب التقليدي من تركيا برا إلى اليونان مرورا بدول شرق أوروبا عبر شبكة المهربين المنتشرة في هذه الدول، ثم إلى بلجيكا أو النمسا أوألمانيا، وقد تكون وِجهتهم كاليه في فرنسا ثم بريطانيا.
تكلفة هذا المسار الآمن -كما أكد لي- من تركيا وصولا إلى بلجيكا تبلغ 12 ألف دولار يتم دفعها على نقاط ومراحل مختلفة، وحين استكثرت المبلغ، أكد أنه يتناسب مع طول الطريق وصعوباته والتسهيلات التي يوفرها المهرب، كما أنه يوزع على عدة أشخاص:
“نحن 6 أشخاص وأنا لا أحصل على هذا المال وحدي.. إننا مجموعة منتشرة في دول كثيرة وأنا لست قائد هذه الشبكة بل عنصر فيها”، وأكّد أن قائد الشبكة يقيم في اليونان، متحفظا عن ذكر مزيد من التفاصيل التي قد يكون لا يعرفها.
بالرجوع إلى الفيديو الذي أظهره المهرب ممتدحا عمله، برز عنوان لحساب على “تيك توك”، وبالعودة إليه ظهر العديد من الفيديوهات لمهاجرين يعبرون مصحوبين برجال المهرب أو “الريبري” (الدليل) مطالبين المهاجرين في كل فيديو بتوجيه التحية إلى “أبو العبد العراقي” الذي يفترض أنه زعيم هذه الشبكة من المهربين.
ينشط “أبو العبد العراقي” هذا على “فيسبوك” و”تيك توك”، وينشر مقاطع فيديو شبه يومية لأفراد يصلون إلى المجر (هنكاريا كما ينطقونها) أو في الطريق إليها موجهين الشكر والثناء إليه. ويذكر كل شخص مكتب التأمين أو “التشييك” الذي أودع فيه المبلغ المتفق عليه مع المهرب.
و”التشييك”، مصطلح مهم في معجم المهاجرين والمهربين، ومرحلة أساسية لكل مهاجر غير نظامي يرغب في الوصول إلى أوروبا جوا أو برا أو بحرا، بالقوارب أو بالسيارات والشاحنات أو عبر المطارات عن طريق المهربين.
مكاتب التشييك.. نظام مالي خاص
تنتشر مكاتب “التشييك” هذه في إسطنبول وأثينا وبعض المدن الأوروبية والعربية- وفق ما ذكر المهربون وطالبو الهجرة واللجوء- وهي مكاتب تأمين أو تحويل أموال (أهلية كما يسمونها) تعمل بطريقة غير قانونية.
يودع الراغبون في بدء رحلة الهجرة غير النظامية المبلغ الذي تم الاتفاق عليه مع المهرب في إحداها، ويحصلون على رمز أو رموز سرية (شيفرات كما يسمونها حسب عدد السفرات) تُعطى للمهرب فور الوصول إلى البلدان المقصودة، فيتسلم أمواله من المكتب. وهي تشبه بشكل ما نظام تحويل الأموال “ويسترن يونيون” (Western Union) أو “موني غرام” (MoneyGram)، لكنها غير قانونية وتمارس في الخفاء.
تعمل هذه المكاتب غالبا تحت ستار وكالات أسفار وشركات سياحية أو خدمية، ولا تحمل أي علامة أو لافتة أو عناوين تشير إليها، فهي نقاط معلومة فقط لمن يندمج في سياق البحث عن هجرة غير نظامية عبر الشبكات الاجتماعية، ويحتك بأوساط المهاجرين والمهربين.
بحثنا عن أسماء هذه المكاتب التي يتداولها الراغبون بالهجرة في مواقع التواصل بإسطنبول فاستدللنا على بعضها، مثل: “مكتب فياض” و”مكتب ميلانو”، و”مكتب حفتارو” ومكتب “أكرم أبو علي” و”مكتب القدس” ومكتب “أهل الشام” و”مكتب العساف”، وغيرها. وحسب تعليقات كثيرة اطلعنا عليها في حسابات بوسائل التواصل الاجتماعي في الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول 2021، قام هذا الأخير بالاحتيال على الكثيرين وهرب بأموالهم التي أودعوها بمكتبه.
عادة ما يفرض المهرب اسم مكتب “تشييك” بعينه على الراغبين بالهجرة، وهو ما يوضح الكم الهائل من الاحتيال وعلاقة هذه المكاتب المريبة بالمهربين. وفي حين تغلق بعض المكاتب أبوابها بمجرد تحقيق غايتها من الربح عبر الاحتيال على المهاجرين، تواصل مكاتب أخرى عملها حرصا على استدامة هذا الدخل واستثمارا لحركة الهجرة الواسعة والمستمرة، كما تفتح فروعا لها في مدن أوروبية، وفق ما ذكر لنا بعض المهربين في تسجيلاتهم.
الحل الأمثل.. جواز شبيه
أثنى أمجد على فكرة “الجواز الشبيه”، كطريقة سهلة ومضمونة للعبور، وفوجئت حين علمت أن هذه الطريقة رائجة بشدة خصوصا بعد تراجع مسار الهجرة عبر بيلاروسيا والحرب في أوكرانيا، لكنها تتطلب مالا أكثر واستعدادا للمجازفة.
في مدن أوروبية، وخصوصا إسطنبول وأثينا، تنتشر عمليات بيع الجوازات الأصلية والشبيهة والمزورة، نظرا لوجود آلاف اللاجئين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وغيرها، ممن يبحثون عن طريقة لبلوغ بلدان الاتحاد الأوروبي.
يحصل المهربون على جوازات سفر أوروبية رسمية من أشخاص سرقوها أو عثروا عليها، أو يشترونها من أصحابها رأسا. ويعمد آخرون إلى تزوير جوازات بناء على بيانات حقيقية حصلوا عليها عبر شركات السياحة ووكالات السفر والفنادق، حيث يكون السائح ملزما بتسليم جوازه أو نسخة منه أو بياناته على الأقل، فيعتمدون عليها في تزوير جوازات يعرضونها لاحقا للبيع على شبكات التواصل ومواقع إلكترونية.
وجدنا في وسائل التواصل الاجتماعي إعلانات متنوعة لجوازات سفر شبيهة. أحدهم يعلن عن توفر جوازات سفر يونانية، وآخر يعرض جوازات أوروبية مختلفة وجوازا إسرائيليا، وجوازات لجوء لمواطنين عرب. وعلى المهتمين إرسال صورة يقارنها المهرب مع الصورة الأصلية بالجواز وإذا كان الشبه مقبولا، تتم الصفقة مقابل مبالغ متفاوتة.
حين عرف المهرب “أمجد” أنني أحمل جواز سفر أوروبيا، عرض عليّ 5 آلاف يورو (نحو 5280 دولارا) مقابل شرائه، وأبدى استعداده لرفع المبلغ حين تظاهرت بقبول الفكرة وأخبرته أن ما عرضه قليل، وأنه لا شك سيبيعه بأضعاف هذا المبلغ.
“انتظر.. لدي صورة لأحد العراقيين في إسطنبول يريد جواز سفر شبيها وأعتقد أن هناك تشابها بينكما”. ومن بين صور عديدة على هاتفه أظهر واحدة لشاب يبدو في نهاية العشرينيات من عمره. “أريد صورة جواز سفرك أو الهوية حتى أرسلها إلى هذا الشخص في إسطنبول.. إنه يشبهك”.
استمر “أمجد” في إغرائي ببيع جواز سفري قائلا: “لا مشكلة.. المبلغ الذي سنبيعه به سنقتسمه”. وأرسل لي رسائل عديدة عبر واتساب، مستعجلا إياي لإرسال نسخة من الجواز، تعللت عدة مرات بالسفر وأنني سأرسلها حين العودة.
فهمت أن ما عليّ فعله هو تسليمه الجواز ثم إمهاله 3 أو 4 أيام قبل أن أقدم بلاغا للسلطات بفقدان جواز سفري. في هذه الفترة يكون كل شيء قد انقضى، ووصل الشخص الذي يشبهني قليلا أو كثيرا بجواز سفري وصورتي وبياناتي إلى البلد الأوروبي الذي يريده من المطار الذي يريده، مع معدل مخاطرة معقولة ومحسوبة.
إضافة إلى شراء جواز السفر، حاول “أمجد” إقناعي بالعمل معه ضمن شبكته “سمسارا”، حيث سأتولى التواصل مع من يريد الهجرة أو من يود إحضار أقرباء له إلى بلجيكا مقابل 500 يورو (نحو 530 دولارا) عن كل شخص.
هجرة شبه نظامية!
مع كل ما ذكره المهرب، وما اطلعت عليه في وسائل التواصل الاجتماعي وعروض جوازات السفر الشبيهة، كنت متشككا في مدى نجاح فرصة اجتياز المطارات الأوروبية ذات الإجراءات الصارمة -وفي ظروف استثنائية- بجواز سفر شبيه، فما بالك أن تصبح طريقة رائجة باعتراف الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (Frontex).
يؤكد تقرير فرونتكس الصادر في 30 يونيو/حزيران 2021 أن شبكات الجريمة المنظمة تتورط في إنتاج مستندات مزورة وفي الحصول على المستندات الأصلية وتداولها وتوزيعها بشكل متزايد عبر الإنترنت. وأن المهربين يقدمون مجموعة واسعة من المستندات الأصلية أو المزيفة التي يتم الحصول عليها بالاحتيال عبر منصات التواصل الاجتماعي لتلقي الطلبات بشكل مباشر من العملاء.
وفق هذا التقرير، تم اكتشاف 1500 حالة دخول بوثائق مزورة عام 2020، بينها جوازات شبيهة، وقد انخفض عدد الحالات بنسبة 57% مقارنة بالعام السابق، أي أن عدد الحالات المكتشفة عام 2019 تجاوز 3 آلاف حالة عبور بوثائق مزورة.
تواصلنا مع فرونتكس حول الانتشار الواسع للجوازات الشبيهة والوثائق المزورة وطريقة مواجهتها، فردت بأن “انتحال الهوية طريقة معروفة لإساءة استخدام المستندات الأصلية، وقد يتسبب التشابه الكبير بين المالك الأصلي والجديد للمستند في بعض الحالات في زيادة صعوبة عمليات التحقق من الحدود واكتشاف المحتال. نحن ندعم الدول الأعضاء لمواجهة هذا النوع من التكتيكات من خلال تنظيم دورات تدريبية على الكشف عن الوثائق المزورة لحرس الحدود وإنفاذ القانون، وتبادل الخبرات ودعم الأنشطة التشغيلية بشأن تزوير المستندات”.
حاولنا التقصي عن طرق بيع الجوازات الشبيهة وحالات العبور بها ومسارات الدخول. وثّقنا حالات عديدة أثبتت لنا أنها من أكثر طرق النفاذ إلى بلدان الاتحاد الأوروبي شيوعا.
يبحث الراغبون في الهجرة غير النظامية في البداية عن مهربين وجوازات للبيع في حسابات كثيرة منشورة على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما اتبعناه في هذا التحقيق، اعتمادا على حسابات وأسماء وهمية على مواقع التواصل.
سوق حرة لوثائق السفر!
اكتشفنا على مواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي سوقا مزدهرة لتجارة الجوازات وبطاقات الهوية الأوروبية وحتى الأميركية والكندية والعربية (السورية واليمنية والفلسطينية التي تساعد على قبول طلبات اللجوء) وعروض التهريب.
اطلعنا على مئات المجموعات الناشطة في هذا السياق على تطبيقات “إنستغرام” و”تيك توك” وعشرات الصفحات والحسابات على فيسبوك يتفاعل معها المئات. كانت خيارات الجوازات المعروضة أكثر مما تصورنا وبأسعار تنافسية.
تصنف هذه الصفحات، التي يديرها مهربون محترفون وآخرون هدفهم اقتناص فرصة تحيل، ضمن سياق الجريمة المنظمة والاتجار بالبشر، لا سيما مع المآسي الكثيرة التي تحصل للمهاجرين عبر طرق الهجرة المختلفة.
تواصلنا مع إدارة فيسبوك حول الانتشار الواسع للحسابات المختصة في التهريب وبيع الجوازات وما يصاحبها من احتيال وتجارة بأوجاع المهاجرين، فكان ردها: “نحن نواصل الاستثمار في التكنولوجيا والأشخاص لتحديد هذه الصفحات والمجموعات بشكل استباقي وإزالتها من منصتنا متى وجدناها، ونحن نشجع الناس على الإبلاغ عن المحتوى الذي يعتقدون أنه قد يخالف قواعدنا”.
ما زالت المئات من الحسابات نشطة، وتنشر فيها عروض التهريب ووثائق السفر المختلفة ومسارات الهجرة غير النظامية وتفاصيل البيع والشراء، والأسعار، كما يتابعها ويتفاعل معها آلاف الأشخاص.
خلال شهري مايو/أيار ويونيو/ حزيران 2022 تواصلنا مع عدد من المهربين ممن ينشطون على وسائل التواصل الاجتماعي وتظاهرنا بأننا مهاجرون نبحث عن منفذ للوصول إلى أحد بلدان الاتحاد الأوروبي، وطلب اللجوء هناك. حصلنا على عروض كثيرة وخيارات متنوعة ومتفاوتة من حيث الأسعار.
طلب المهرب المدعو “همام بيك” -يعمل في إسطنبول- في مكالمة معه عبر واتساب صورة شخصية لمقارنتها مع الجوازات الموجودة لديه.
عالجنا صورة وهمية حرصنا أن تكون ملامحها عربية شرق أوسطية وأرسلناها، فرد بإرسال جوازين فرنسيين وآخر أميركي وبطاقة هوية هولندية. لم يكن الشبه مناسبا، لكن المهرب أكد أن لديه خيارات أكثر، وعلينا فقط إرسال الصورة مع شعر أقصر لتسهيل البحث.
تجنب المهرب “همام بيك” -وكل من تواصلنا معهم من المهربين- الحديث عن مصدر هذه الجوازات والهويات الكثيرة التي يختار منها ما يلائم زبائنه. أخبرنا أحد المهربين أنها تأتي من سفارات دون أن تكون أرقامها مسجلة رسميا، كما أكد آخر أنها تشترى من عصابات تسرقها أو من أصحابها ممن يعرضونها بدورهم على وسائل التواصل، أو بالاتصال المباشر مع المهربين.
في مكالمة معه، أكد المدعو “همام الرشاد” (سوري الأصل ويمارس نشاطه من إسطنبول) أن لديه طائفة واسعة من الجوازات الأصلية والنسخ، إسبانية وإيطالية وبلجيكية وألمانية، ومن جمهورية الدومينيكان، وكذلك جوازات لجوء لمواطنين عرب في ألمانيا وبلجيكا والسويد.
عرض جوازا بلجيكيا أصليا بسعر 1700 يورو (نحو 1800 دولار)، وآخر مزورا مقابل 1200 يورو (نحو 1266 دولارا)، مشيرا إلى أنه سيقوم بوضع الصورة التي سترسل إليه على الجواز الأصلي، إضافة إلى تأمين بطاقة الهوية وتغيير الرقاقة.
قدّم “همام الرشاد” أيضا عرضا جيدا، يشمل إمكانية السفر إلى الوجهة الأوروبية عبر مطار العاصمة السودانية الخرطوم “بشكل مضمون”، مقابل 5 آلاف دولار إضافية (نحو 5280 دولارا).
من أجل تبديد أي مخاوف، أرسل المهرب مقطع فيديو يتضمن جوازا وهوية بلجيكية، يستعرض فيه التفاصيل وصعوبة كشفهما على أجهزة سكانر وخاصية التعرف على الرموز أو الرمز الشريطي (Barcode)، والتي تشبه تلك التي تستعملها الجمارك في المطارات، كما أكد أن أشخاصا استخدموا نفس الجواز ووصلوا إلى بلد المقصد بسهولة.
في مقطع الفيديو، وعندما كان المهرب يفحص بطاقة الهوية على الماسح الضوئي لتأكيد جودتها، تظهر بطاقات هوية كثيرة تبدو أوروبية، تؤكد الخيارات الكثيرة التي بحوزته.
كان علينا فقط إرسال البيانات والصورة والتوقيع ودفع مبلغ 300 يورو (نحو 315 دولارا) للمهرب عبر وسيط سنقابله في إسطنبول، لتلقي فيديو للجواز الجديد، وبعدها يتم تسديد المبلغ المتبقي واستلام جواز السفر وبطاقة الهوية البلجيكية بالطريقة نفسها.
أما “أبو إياد”- وهو مهرب سوري أيضا يعمل في إسطنبول- فقد عرض حزمة كاملة للسفر من إسطنبول إلى بلجيكا، تشمل جوازا هولنديا أصليا وبطاقة هوية وتذاكر السفر مقابل 10500 يورو (نحو11050 دولارا).
وحسب خطته، سيحضر صاحب الجواز الأصلي (الذي سيبيع جوازه) من هولندا إلى إسطنبول، ثم يتم تغيير الصورة الأصلية بواسطة الليزر، وتوضع صورة الشخص الجديد (معد التحقيق)، وسيساعد ختم الدخول إلى إسطنبول في خروج الشبيه دون مشاكل إلى أمستردام، مع تأمين تسهيلات بمطار صبيحة، حسب قوله.
في مثل هذه الحالات، لا يغادر صاحب الجواز الأصلي إلا بعد وصول شبيهه إلى البلد المقصود ويمزق الجواز ويطلب اللجوء، بعدئذ يذهب إلى قنصلية بلده لطلب استصدار تأشيرة عودة أو جواز جديد بدل المفقود (كما سيدعي).
لا يحفل المهاجرون كثيرا بإجراءات الدخول المشددة إلى المطارات الأوروبية وبصمة الأصابع والعين أو الوجه التي قد تكشف هويتهم الحقيقية، فمجرد وصولهم إلى تلك المطارات وتقديم طلب لجوء، تعد نهاية سعيدة لرحلتهم المرهقة.
بحثنا أيضا عن مهربين آخرين. قدم كل واحد منهم عروضا مغرية للهجرة. عرض المهرب المدعو “أبو علي” جوازا أوروبيا أصليا مع تغيير الصورة، والسفر من أزمير إلى أثينا ثم إلى بلجيكا جوا مقابل 9500 يورو (نحو 10 آلاف دولار) يتم تأمينها في أي من مكاتب “التشييك” في إسطنبول أو أزمير أو أثينا.
حين تواصلنا مع المهرب المدعو “أبو مصطفى” -ومقره أثينا- عبر واتساب طلب صورة، فعالجنا واحدة وأرسلناها، فرد بإرسال جواز سفر فرنسي شبيه. كانت الصورة بالجواز تشبه إلى حد معقول الصورة المعالجة، وحدد سعر الجواز مقابل 4500 يورو (4750 دولارا).
أكد “أبو مصطفى” أن توفير الجواز والسفر لن يأخذ أكثر من يومين، وأن المسألة بسيطة و”سهلة جدا”، في إشارة إلى السفر بالجواز الشبيه.
لاحقَنا تاجر الجوازات هذا بالكثير من المكالمات ومراسلات الواتساب مستعجلا استكمال الصفقة، التي اكتفينا منها بمعرفة التفاصيل.
ينشط المهرب المدعو “ناصر مؤيد” أيضا من العاصمة اليونانية أثينا. وللسفر إلى بلجيكا جوا خلال أسبوع، عرض توفير جواز لجوء عربي (يتسلمه اللاجئون العرب في البلدان الأوروبية) يتشابه مع الصورة التي سنرسلها له بنسبة 60%، ثم يتولى تغيير ملامح صاحبه الأصلي ليصل الشبه مع صورة المهاجر المفترض إلى 90%، كما يقول.
شمل عرض “مؤيد” أيضا مرافقتنا على نفس الرحلة حتى الوصول إلى العاصمة البلجيكية بروكسل، مقابل 5 آلاف يورو (نحو 5280 دولارا).
لأسباب كثيرة، لم نستطع استكمال رحلة الهجرة مع المهربين الذين كانوا مستعدين لبيعنا وثائق سفر أوروبية أصلية أو شبيهة وأخرى من مختلف دول العالم، مع تسهيلات في المطارات، لكننا حاولنا في المقابل البحث عن أشخاص فعلوا ذلك.
شبيه بين المطارات الأوروبية
لم يكن يخيّل للشاب السوري سراج (38 عاما) -وهو اسم مستعار- أنه سيصل دون عناء إلى بروكسل بجواز سفر أيرلندي، قطع سراج ورفاق له مئات الكيلومترات سيرا في الجبال الممتدة بين تركيا واليونان مهتدين بتطبيق خرائط غوغل أوصلتهم بسلام إلى مدينة سالونيك شمالي اليونان.
في هذه المدينة التي تعج بالمهاجرين واللاجئين والمهربين راقت له فكرة الجواز الشبيه، فتواصل مع مهرب سوري في أثينا طلب منه صورة وبعض مواصفاته كالطول والوزن، أبلغه بعد يومين بتوفر جواز أيرلندي مع هوية صاحبه مقابل 5 آلاف يورو (نحو5280 دولارا).
سافر سراج مباشرة إلى أثينا والتقى المهرب وحددا موعد السفر وحجزا تذكرة السفر، كما أجرى اختبار فيروس كورونا باسم الشخص الأيرلندي الذي حمل اسمه وهويته وجواز سفره، كانت نتيجته سلبية.
لم يواجه الشاب السوري أي متاعب في مطار أثينا، ولم تطلب منه الجمارك أو شرطة المطار حتى نزع الكمامة ليتسنى لهم رؤية وجهه كاملا. كان من حسن حظه أنه نفذ في هذا اليوم كما يقول: “فقد قبض على 20 شخصا كنت تعرّفت إليهم في مطار أثينا، حاولوا السفر بجوازات شبيهة”.
أصبحت أثينا مقرا محبذا ومثاليا للمهربين وتجار الجوازات ومنطلقا للمهاجرين وطالبي اللجوء، لأن النجاح بالخروج من مطاراتها يضمن العبور الآمن إلى بقية بلدان الاتحاد الأوروبي دون تفتيش وإجراءات شرطة وجوازات عكس القادمين من خارجه
كانت رحلة “سراج” إلى بلجيكا تمر عبر مطار “مالبينسا” في ميلانو، ثم تستكمل في صباح اليوم التالي من “ليناتي”، مطار المدينة الثاني إلى مطار بروكسل شارلروا جنوب العاصمة البلجيكية، وفي كل هذه المطارات لم تكتشف السلطات الأمنية أمر الجواز الشبيه.
فور الوصول إلى مطار شارلروا تقدم نحوه شخص عربي قائلا: “بهدوء أعطني الجواز دون أن تنظر إليّ”، ثم أخذه واختفى بين الحشود. كان هذا الرجل على نفس الرحلة القادمة من ميلانو إلى بروكسل في مهمة استرجاع جواز السفر لاستعماله في عمليات دخول مهاجرين آخرين.
رحلة الأحميد.. عامان و18 محاولة عبور
استمرت رحلة محمد الأحميد (32 عاما) -وهو “بدون” من الكويت- منذ بداية عام 2019 إلى أغسطس/آب 2021 عندما وصل إلى هدفه الأخير وهو بريطانيا بعد المرور بـ10 دول أوروبية، بدءا من جورجيا ثم إلى تركيا مستعملا الجوازات الشبيهة والمزورة وطرقا أخرى.
كان على الأحميد الحصول أولا على جواز سفر كويتي لبدء رحلته، وبعد دفع مال لأحد المسؤولين -يقبع حاليا في السجن كما يقول- استطاع الحصول على وثيقة سفر كويتية يتم إصدارها للبدون في حالات العلاج والدراسة، ولا تمكنه من الحصول على فيزا “شنغن”، وتختلف عن الجواز الكويتي الرسمي في اللون والامتيازات.
تمكن من الوصول إلى أثينا عبر مهرب فلسطيني، وقرر السفر بواسطة جواز أوروبي لشبيه. خلال 3 أشهر حاول الأحميد السفر عبر مطار أثينا بجوازات شبيهة أحدها بلجيكي وآخر سويدي ثم عبر هوية دانماركية وفرها له مهرب كردي مقابل 7 آلاف يورو (نحو 7400 دولار) يدفعها عبر مكتب حفتارو بعد الوصول.
باءت كل محاولاته بالفشل وألقي القبض عليه في مطار أثينا، وأطلق سراحه في المرة الأولى، وسجن في المحاولة التالية 4 أيام، ثم في المرة الأخيرة وقّع تعهدا بعدم تكرار ذلك تحت طائلة حكم بالسجن المطول والغرامة.
رغم انتشارها وكثرة الإقبال عليها، لا تسير طريقة الجوازات الشبيهة دائما بسهولة، حيث يتم القبض على العديد من حامليها في المطارات، كما تفكك السلطات الأوروبية أحيانا بعض الشبكات التي تعمل في تجارة الوثائق الرسمية.
إثر فشل فكرة الجواز الشبيه، قرر السفر برا انطلاقا من مدينة سالونيك نحو شرق أوروبا بعد الاتفاق مع مهرب عراقي، لكن الجيش اليوناني ألقى القبض عليه وتم ترحيله إلى تركيا: “تمت إعادتنا إلى نقطة الصفر”، كما يقول.
ظل الأحميد لمدة شهر في تركيا، واستعمل وثيقة السفر الكويتية للسفر إلى ألبانيا ثم إلى صربيا عبر مهربين. ونجح بعد 18 محاولة في العبور من صربيا إلى رومانيا عبر شاحنة مهرب سوري الجنسية، ثم إلى فيينا (عاصمة النمسا) مقابل 4100 يورو (نحو 4320 دولارا) فباريس ثم كاليه، حيث يوجد آلاف المهاجرين الحالمين بالوصول إلى بريطانيا.
في كاليه، تواصل الأحميد مع مهرب عراقي كردي كان قد أوصل مجموعات من المهاجرين وطالبي اللجوء، مقابل 2100 جنيه إسترليني (2576 دولارا) تم تأمينها عبر وسيط في بريطانيا. وبعد محاولتين فاشلتين، كللت المحاولة الثالثة بالنجاح في شهر أغسطس/آب 2021، حيث دخل الأحميد ورفاقه المياه الإقليمية البريطانية في قارب يحمل نحو 80 شخصا وتقدم بطلب لجوء ينتظر البتّ فيه.
عالم “الويب المظلم”
بشكل عام، تعتبر الجوازات ووثائق السفر الجزء البارز من جبل الجليد في ما يعرف بالويب المظلم (Dark Web)، فالتقدم التكنولوجي والتشابك في الأنظمة المالية والأمنية والمعلوماتية سمح بعرض وبيع كل ما يخطر على بال على مواقع الإنترنت، من قرصنة حسابات وسائل التواصل وغوغل وقواعد البيانات، إلى بطاقات الائتمان والدفع الإلكتروني (باي بال) وويسترن يونيون والبرمجيات الخبيثة، وكذلك رخص القيادة وحتى حسابات “أوبر” لخدمات النقل وغيرها.
ويحدد موقع (privacy affairs) مؤشر أسعار “الويب المظلم” لمختلف هذه الخدمات لعام 2022، حيث تختلف باختلاف نوع وأهمية الجواز أو الهوية أو عدد الحسابات المستهدفة بأي من مواقع التواصل أو حساب الدفع الإلكتروني، أو قيمة المبلغ الذي تتضمنه بطاقة الائتمان.
فجوازات السفر الفرنسية والبولندية والمالطية مثلا، يبلغ معدل سعرها 3800 يورو (نحو 4030 دولارا) وبطاقات الهوية لبلدان الاتحاد الأوروبي بنحو 160 يورو (169 دولارا) ورخصة القيادة الأميركية بـ150 يورو (160 دولارا).
للتحقق من وضع بعض الجوازات التي أرسلها لنا المهربون وتجار الجوازات اخترنا بعضها، وبحثنا عن حسابات أصحابها على مواقع التواصل الاجتماعي وفقا للبيانات والصور الموجودة على تلك الجوازات، راسلناهم لسؤالهم عن أسباب وظروف عرض جوازاتهم من قبل المهربين على طالبي الهجرة غير النظامية، وكيفية وقوعها بين أيديهم، وهل تم التبليغ عنها، ولم نحصل على رد منهم حتى نشر هذا التحقيق.
أكد معظم المهربين، الذين تواصلنا معهم أن الجوازات التي عرضوها وأرسلوا نسخا منها إلينا أصلية وسارية المفعول، يتم شراؤها من أصحابها (كما ذكر المهرب أبو مصطفى وحاول معي أمجد)، كما قد تكون مسروقة أو تم الحصول عليها بالتحايل، أو مزورة بدقة بناء على بيانات حقيقية وصورة لأصحابها تم الحصول عليها بطريقة ما.
تؤكد فرونتكس أيضا، أن المهربين وتجار الجوازات يعرضون غالبا وثائق أصلية (جوازات وبطاقات هوية)، وهو ما يصعب إمكانية اكتشافها على الحدود المفتوحة للاتحاد الأوروبي، لكن في حالات التبليغ عن ضياع أو سرقة جواز السفر يتم شطبه آليا من السجلات في المعابر الحدودية.
تواصلنا أيضا مع السلطات المعنية بإصدار الجوازات في بلجيكا وفرنسا للاستفسار عن وضع نفس الجوازات التي أرسلت لنا من قبل المهربين أرفقنا الرسالة بصور الجوازات بكل بياناتها.
سألناهم عن كيفية التعامل مع مثل هذه الحالات، وظاهرة انتشار الجوازات الشبيهة والأصلية واستغلال المهاجرين من قبل مافيا وثائق السفر، دون أن يصلنا رد حتى نشر هذا التحقيق.
لا مفر للمهاجرين والباحثين عن اللجوء الأوروبي من الوقوع في مصيدة المهربين ودخول مزاد “سوق الجوازات” هذا، تدفعهم الأوهام أو الأحلام أو الشجاعة التي تولد من رحم المعاناة إلى تجربةٍ، يصفها لنا المهرب “أبو مصطفى” -كما لغيرنا بالتأكيد- بعبارة “تطلع أستاذ تنزل دكتور”. تلك قد تكون، من حيث المبدأ، أفضل من قضاء 20 يوما في صندوق شاحنة، أو رحلة مريرة بين ضفتي نهر إيفروس على الحدود التركية اليونانية.