لم يهبط خبر وفاة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك على نفوس المصريين خفيفاً أو عابراً، على رغم أن مبارك كان محتجباً مع أسرته بعد سنوات الثورة، ففي الواقع بقيت خيوط لم تنقطع بسهولة أثناء هذا الاحتجاب، بين الشعب والرئيس الذي حكم مصر 30 عاماً.
رحل مبارك عن 91 سنة، أمضى 3 عقود منها في دور الضيف الثقيل، حتى أصبح أحد مكونات الوعي والذاكرة الجمعية للمصريين، فبتلويحته الشهيرة التي “لحست” دماغ المصريين، استطاع أن يرسخ صورة الرئيس الأب، على رغم أن آباءنا لم يرتدوا نظارات “الرايبن” ولا البزات الفخمة، ولم يعالَجوا في مستشفيات عسكرية بإشراف أطباء ألمان، وعلى رغم أن مبارك لم يحمل بطاقة تأمين صحية حكومية تسجل تاريخه المرضي كغالبية المصريين مع أمراض البلهارسيا والتهاب الكبد الوبائي والسرطان وتليف الكلى. لكن، برحيله، انتحب شعبه، نحيباً يشبه نحيبهم بعد خطاب التنحي، فشعب الرئيس المخلوع مبارك، سريع المغفرة، ضعيف الذاكرة، عاطفيّ، مفرط في الإحساس بالدونية. شعب مبارك يبكي إذا تعرض رئيسه لمحاولة اغتيال في السودان ولا يبكي على اغتياله كل يوم، يراعي مشاعر الرئيس، ولا يأبه لمستقبل أبناء البلد.
بين جنازة مرسي وجنازة مبارك
جثمان مبارك أثار الجدل داخل المؤسسة العسكرية والمؤسسة الرئاسية التي لم تعرف في البداية كيفية التعامل مع الجثمان، هل تشيعه في جنازة مدنية أم عسكرية، وبحسب معلومات ترددت فإن الجنازة كانت ستقام بشكل مدني، لكن ضغوطاً من بعض دول الخليج ألحت كي تنظَّم له جنازة عسكرية لائقة! وهو ما يجعل المقارنة ضرورية بين ما حظي به مبارك كرئيس فاسد كبير من رعاية صحية فائقة، وتدليل وبراءات من قضايا فساد وجنازة عسكرية لائقة، وبين ما حرم منه المعزول مرسي من سوء رعاية صحية داخل السجن، وترهيب، ومنع من الزيارة وجنازة سرية في الظلام الحالك.
لكن كان لا بد أن تحصل الجنازة بطريقة عسكرية لضبط السيناريو بصدق، فجثمان مبارك لا بد أن يُحمل في جنازة عسكرية، لأن تلك أبلغ طريقة للتعبير عن أن العسكرة دائمة وباقية. تشيَّع جثامين من انتهت أدوارهم، فيما تبقى أجساد أخرى في السلطة تعيد إنتاج العجلة، وبالدبورة والنسر و”الكاب” أو القبعة العسكرية المرعبة، تستكمل طريقة العصا والجزرة وسحر ترسيخ فكرة الرئيس الأب، وتربية الشعب على ضعف الذاكرة والانسحاق والدونية.
شعارات مبارك
شعب مبارك الطيب، يتألف ممن تعلقت أحلامهم بطريقة العصا والجزرة التي مارسها عليهم مبارك عبر شعاراته الكثيرة، “استصلاح توشكي”، “من لا يملك قوته لا يملك حريته”، “الاستقرار مقابل الغذاء”، ليدوروا تحت متراسه، حتى إذا ظهرت أي بشائر للخير، لن يشكروا أنفسهم، بل سيمجدون جلادهم، في السراء والضراء.
لكن في مصر شعب آخر غير شعب مبارك، شعب قوي الذاكرة، يدرك قيمة السخط وفخ سلطة الأب، يتناحر منذ يوم أمس مع أصحاب المراثي الساذجة، يعيد للطاولة تاريخ مبارك وملابساته، صفحات لا تُنسى من ضحايا عبّارة السلام وقطار الصعيد، حريق مسرح بني سويف، وفخ التوريث، ومئات ضحايا موقعة الجمل الذين سقطوا خلال ثورة 25 يناير…
انقسم كثيرون حول كيفية نعي مبارك الذي انتفض المصريون في وجه أقبية تعذيب سجونه وأسقطوه. تسود اليوم مقولة “اذكروا محاسن موتاكم”، لكن مبارك لم يكن جارنا في الحي، بل كان رئيساً حكم مصر أكثر من 30 عاماً وسجن وعذب وقتل في عهده وخلال الثورة ضده، خيرة من شباب مصر وشاباتها… اليوم هناك من يشعر بأن ذاكرته ناصعة وبراقة فشرع يرثي مبارك رثاء لا يليق بالموقف الراديكالي المطلوب، يسخر من مقولة “له ما له وعليه ما عليه” باعتبارها جملة تحمل مغفرة مبطنة تشبه موقف ضعيفي الذاكرة سريعي المغفرة.
بتشييع جثمان مبارك إلى مثواه الأخير سيُفتح الكلام عاجلاً أم آجلاً حول الشابين جمال وعلاء، امتداد أسطورة مبارك، هل سيتجهان إلى السلطة كنوع من الثأر للأب؟ هل ستحدث المواءمات العربية لدفعهما مرة أخرى إلى طاولة السياسة والمشاكسة؟ أم ستنتهي أسطورة مبارك إلى الأبد وينعم الأبناء والأحفاد بأرصدتهم العامرة في مصارف سويسرا، بعيداً نن الثقب الأسود في كرسي السلطة الذي يسقط فيه الجميع ولا ينجو أحد.