لا يمرّ غروب الشمس دون أن يتأمّله الفنان جورج وسوف من نافذة منزله المطلّ على بيروت. التفاصيل الصغيرة التي قد تعبر سريعة في يوميات الناس، هي التي تلفت انتباه «أبو وديع» وتثير دهشته. بالأحرى، وحدها تلك التفاصيل الصغيرة باتت تأسر قلبه، بعدما حصد كل أمجاد العمر وقطف نجوم سماء الفن.
ما الذي يؤثّر في المطرب الأسطورة؟ طفلٌ يناديه بلقبه الأحب إلى قلبه «أبو وديع»، أو موظف شاب في مطعم يتلعثم لرؤيته، ويحار كيف يعبّر له عن محبته، أو رجل ستيني يستوقفه في مكان عام ليخبره أنه كان يحضر حفلاته مع خطيبته منذ 30 عاماً، وهي الآن زوجته وأم أولاده وجدة أحفاده.
لقد ركض العمر سريعاً، زارعاً الشيب في رأس الوسوف والتعب في جسده؛ لكن من دون أن يتغلّب على ملامح الطفل الساكن روح الفنان الذي يختم عامه الـ61 بعد 4 أشهر.
في حديث خصّ به «الشرق الأوسط»، يقول إن الذي ينبض في داخله قلب طفل لم ترهقه السنوات التي عبرت؛ بل صقلته وما زالت. من الواضح أنه لا ينوي أن ينسى شيئاً من الذي فات؛ إذ يؤكد: «لا أندم على شيء؛ لأنني تعلمت دروساً كثيرة. أفرح عندما أتذكر كل تفصيل مَرّ في حياتي».
حتى الآلام والصعوبات يتعامل معها الفنان بصبرٍ ورضا. فهو منذ ذلك اليوم الذي خرج فيه طفلاً وحيداً من بيت العائلة في سوريا ليواجه العالم الفسيح بصوته الاستثنائي الفريد، تدرّب على ترويض قسوة الحياة وصدماتها. ليس مستغرباً إذن أن يقف في وجه الدنيا اليوم، شاهراً ابتسامة لمّاحة وضحكة عالية.
«يا ليت الحياة قست عليَّ أكثر، حتى أجمع خبرة أكبر»، يقول وسوف. فهي تلك الخبرات التي صنعت حكمته وجعلته يعترف: «لستُ آسفاً على شيء؛ لأني لم أؤذِ أحداً في حياتي، وأنا متصالح مع ربي إلى أقصى الحدود». ويضيف: «جلّ من لا يخطئ. ربما أخطأت مع نفسي؛ لكني لم أخطئ بحق غيري. أما في الغضب والخناقات، فأنا سريع النسيان والمسامحة».
يُكثر جورج وسوف من ذكر الله وشُكرِه: «هو الذي يجعلني آخذ نفَساً عميقاً وأستمر. هو الذي حماني في الطريق الصعب الذي شققته وحدي منذ 47 عاماً. هو الكريم الرزّاق والعليم بما في قلبي ونياتي. لا أحد غيره يعرفني». حتى محبة الناس له يعزوها إلى الله، ويصفُها بأنها أغلى هدية منحه إياها.
الفنان جورج وسوف
من دون أن ينسى ما قد مضى، يبدو «أبو وديع» زاهداً فيما سيأتي. يكفيه أن يكون مُحاطاً بأولاده الأربعة حتى يصير سلطاناً، أما الأصدقاء فهم قلّة تعدّ على الأصابع، يقول إنه غربلَهم من بين الآلاف. اللحظات الحميمة مع المقرّبين والمحبّين تفوق الألقاب قيمة بالنسبة إليه. فلقب «سلطان الطرب» الذي التصق باسمِه منذ أغنية «الهوى سلطان» في بداية الثمانينات، لا يعنيه بقدر ما تعنيه محبة الناس، كباراً وصغاراً.
«كل كلام الناس عني يفرحني حتى لو قالوا إني مجنون»، يقول ضاحكاً. ويضيف: «اليوم وأنا في الـ61 من عمري، ما زلت أتعلم يومياً درساً جديداً من الحياة والبشر». لكنه يقرّ بأنّ الدنيا تغيّرت عليه كثيراً، وهي ليست بخير تماماً. لا يكفي أن تتمنى الجميل لغيرك حتى تلقاه منه. يعلّق وسوف على التحوّلات التي يشهدها المجتمع وأخلاق البشر متسائلاً: «معقول هيك صارت الدني؟ افتقدنا أموراً كثيرة في هذه الأيام؛ خصوصاً الوفاء. وكأن الناس نسيت ربها واختصرت الحياة بالأشغال والمصالح والفلوس. هذا كله فانٍ».
لم يعتد الفنان كلام العتب إلا في أغنياته؛ لكن الجالس معه يلاحظ بين سطوره خيبة من ناس قلَّ إخلاصهم: «متأسف على ناس فقدوا وفاءهم، منهم القريب قبل البعيد»، يقول.
عندما لا يكون منشغلاً بحفلة أو تصوير أو تسجيل، يمضي جورج وسوف معظم وقته في صالون منزله؛ حيث الجدران تزدحم بصور الكبار. يتفيّأ وجوه مَن صنعوا هوية الفن العربي. 28 عملاقاً تعلّم منهم «أبو وديع» أو تأثّر بهم: من عبد الوهاب ووردة وعبد الحليم وفريد الأطرش وأسمهان، مروراً بعاصي ومنصور وإلياس وزياد الرحباني، وصولاً إلى صباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين. على الحائط أيضاً صور طلال مدّاح، ومحمد عبده، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، وزكي ناصيف، وجبران خليل جبران، وملحم بركات، وصباح فخري، وبليغ حمدي، وفيلمون وهبي. ولا ينسى وسوف من كانت لهم بصمة خاصة في مسيرته، كالملحن والشاعر شاكر الموجي، والملحّن جورج يزبك، والشاعر شفيق المغربي، والملحن رياض البندك. أما صدر الدار فللسيدتين فيروز وأم كلثوم، ولصورتَيهما المعلّقتَين على العمودين الأساس.
من كل هؤلاء تعلّم وسوف أنه مهما عظم شأن الفنان، فسيكون ثمة دائماً فنان أهم منه: «لم أصب بالغرور يوماً. لست المطرب الوحيد الذي يملك صوتاً جميلاً، كثيرون صوتهم أجمل من صوتي». ليس هذا تواضعاً؛ بل إنها واقعية مَن صنعوا أنفسهم بأنفسهم. من سِمات العصاميين أنهم لا يسمحون لأقدامهم بأن ترتفع عن الأرض. يقول في هذا السياق: «فجأة وجدتُ نفسي في مجال الفن. لا أعرف لماذا بدأت. لم أحلم بشيء في حياتي ولم أخطط لنجاحي، ولم ألجأ إلى الدعاية والبروباغندا. كل شيء تحقق من تلقاء نفسه. عملت بكدّ وأصدرت أغاني متقنة، وتكفّل الجمهور بالبقيّة. كل ما يعنيني هو الفن الصحيح الذي تربيت عليه».
أما عن المشهد الفني الحالي، فيقول وسوف إن «الكل متشابه. الأصوات والأشكال نفسها، النغمة والتسريحة نفسيهما. لم يعد هناك من صناعة فنية. رحل معظم صنّاع اللحن الكبار، ومَن بقي منهم أصيب بالإحباط». يستغرب كيف أنّ تقييم الفنانين بات يرتكز على عدد المتابعين والاستماعات على المنصات الرقمية. أما للجيل الشاب فيقول: «اسمعوا الفن الهابط وتسلّوا به؛ لكن اعرفوا أنه لا يدوم ولا يغنيكم».
كيف يفسّر وسوف أنّ معجبيه العشرينيين والثلاثينيين يتساوون عدداً مع الأكبر سناً؟ «الجيل الصاعد يطالبني بالقديم أكثر من الجديد في الحفلات. أظن أنني استقطبتهم بتواصلي الصادق معهم على المسرح، وبأغنياتي التي لا تموت. كلمتي مسموعة عندهم وتُعلّم فيهم. حتى أنهم يكتبونها على زجاج سياراتهم!».
ذاك الصدق الذي لا يفتعله «أبو وديع»، هو أهم مفتاح إلى قلوب الناس. يبقى في الكواليس 4 ساعات بعد الحفلات لالتقاط الصور مع المعجبين. يغالب الإرهاق حتى لا يحرم أحداً من صورة منتظرة: «أُجبر دماغي على نسيان التعب، كرما لأشخاص يحبونني وأتوا من أمكنة بعيدة، وانتظروا ساعات ليروني ويقبّلوا جبيني. أنسى تعبي عندما أرى الناس الملهوفين ليتصوروا معي. أتنفّس بهم وأرتاح».
اليوم، وعندما يحضّر لعمل جديد، يدقق في تفاصيله أكثر مما كان يفعل في الماضي: “لا أخاطر بأرشيفي. لا أدفن تاريخاً صنعته”. أكثر من أي وقت، يستمتع وسوف حالياً بهذه المكتبة الموسيقية الواسعة التي نسجَها نغمةً نغمة. فخلال السنوات الأخيرة وبحُكم تواجده في البيت أكثر من قبل، إستمع بتمعّن إلى كل أرشيفه، فتأثّر حيناً وابتسم أحياناً. المؤكّد أنه خرج مطمئناً إلى إرثٍ غنائيّ إن سمعتَه قلت: “لسه الفن بخير”.