أولاً، دعونا نتحدث عن بلزاك (1799 – 1850). فقصته مع حبيبة عمره عجيبة غريبة. لقد تعرف عليها عن طريق المراسلة عندما كتبت له لأول مرة كإحدى المعجبات برواياته. وما أكثر المعجبات والمعجبين ببلزاك عملاق الرواية الفرنسية ومبدعها الأكبر. وما أكثر مَن كتبن له بعد قراءة هذه الرواية أو تلك. ولكن كانت تفصل بينهما آلاف الكيلومترات لأنها تعيش في أوكرانيا وهو في فرنسا. ولم يحصل التعارف الشخصي بينهما إلا بعد بضع سنوات من المراسلة المكثفة عندما جاءت إلى جنيف، حيث تواعدا وتلاقيا. وقد وقع في حبها بعد أن أعطت نفسها له لأول مرة في الفندق. ولكنه اضطر إلى الانتظار سنوات أخرى عدة قبل أن يموت زوجها التعيس وتتفرغ له تماماً. وزهقت روحه كما يقال قبل أن يصل إليها وتصبح زوجته. ولكن عندما وصل إلى مبتغاه بعد طول انتظار وجهد جهيد ضرب القدر ضربته الكبرى ولم يتركه يهنأ بأكبر قصة حب في حياته. فقد مات بعد خمسة أشهر فقط من الاحتفال بالعرس والعروس. مات بعد أن كان قد بنى لها بيتاً جميلاً في باريس وفرشه بأحسن أنواع الأثاث ووضع كل مدخرات عمره فيه. في تلك اللحظة بالذات جاء هادم الملذات ومفرق الجماعات. لقد جاء في اللحظة التي اعتقد فيها بلزاك أنه وصل إلى مبتغاه ولا زائد لمستزيد. وهكذا انطبقت عليه كلمة الشاعر العربي:
توقع زوالاً إذا قيل تم
الحياة غدارة!
ويقال بأنه سألها وهو على فراش الاحتضار: ما الذي أحببتِه فيّ أكثر، الكاتب أم الرجل؟ فأجابته بعد طول تردد: الكاتب. فقال لها: ويحك لقد قتلتني!
وهذا يعني أنها لم تحبه كرجل وإنما فقط ككاتب عبقري لا يشق له غبار. ويقال بأنها كانت تغازل أحد «الشباب الحلوين» وهو يحتضر في الغرفة المجاورة… راحت عليك يا سي بلزاك. الله يساعدك. ولماذا تحبك أصلاً؟ ما شاء الله غزال! بصراحة لم تكن جميلاً على الإطلاق. كنت تشبه البرميل الغليظ وعلى رأسه طنجرة كبيرة. وهذا شيء معروف للقاصي والداني.
بلزاك
إميل زولا (1840 – 1902)
أما الروائي إميل زولا، فكانت له قصة مختلفة. فقد كان متزوجاً منذ عام 1870 من سيدة محترمة. وظل مخلصاً لزوجته طيلة حياته لأنها كانت تدعمه معنوياً في لحظات القلق والشك بنفسه. وفي عهدها كما يقال استطاع أن يكتب أقوى رواياته التي أوصلته إلى ذروة الشهرة والمجد. وبالتالي، فكان مديناً لها بالعرفان والجميل. ولكنها ارتكبت خطأ قاتلاً عندما طالبت بإدخال خادمة إلى المنزل لمساعدتها على غسل الثياب والطهي وغسل الصحون، وغير ذلك من الأشغال المنزلية. ولم تكن تتخيل لحظة واحدة أن زوجها يمكن أن يقع في حب خادمة! نقول ذلك وبخاصة أنه كان مخلصاً لها على مدار السنوات ولم يعرف عنه أي انحراف عن الطريق المستقيم. ولكن المحظور وقع في نهاية المطاف. فقد استيقظت حواس إميل زولا النائمة عندما رأى هذه «الفرفورة الأمورة» داخلة طالعة أمامه بكل فتنتها وأنوثتها.. نقول ذلك وبخاصة أن زوجته كانت قد تعبت وشاخت وأصبحت وكأنها أخته أو أمه أو خالته أو عمته ولم يعد يشعر نحوها بأي شيء. وعندما قارن بينها وبين الخادمة وجد أن الثرى أبعد من الثريا! ولم يستطع الكاتب الكبير مقاومة الإغراء فكان أن حصل ما لا تحمد عقباه. ولكن لكي يحافظ على سرية علاقته بالخادمة ولكيلا تكتشف زوجته الخيانة العظمى فإنه استأجر لها بيتاً غير بعيد عن بيته لكي يختلي بها متى شاء. وعندئذ حبلت منه وأنجبت له طفلين في حين أن زوجته الشرعية كانت عاقراً لا تنجب. ولكن بسبب نزعته الإنسانية لم يشأ إهانتها أو تركها بعد أن عاشت معه كل تلك السنوات الطوال التي سبقت الوصول إلى الشهرة والمجد. فقد كان متعلقاً بها جداً على الرغم من كل شيء. كانت رفيقة الشباب الأول والسنوات العجاف. وكانت الداعم الأساسي له تقف وراء ظهره بكل صدق وإخلاص.
زوجة بلزاك
وأخيراً، وقع المحذور وانفضحت القصة وامتلأ البيت بالصياح والعياط. وتكسرت الصحون وتطايرت الكؤوس فوق الرؤوس… لكن بعد طول مشاكسة وعناد استسلمت المسكينة للأمر الواقع. وماذا تستطيع أن تفعل أصلاً؟ وهكذا عانى الكاتب الكبير من الحياة المتمزقة بين بيتين وامرأتين. وانطبقت عليه أقوال شاعرنا العربي القديم:
تزوجت اثنتين لفرط جهلي
بما يشقى به زوج اثنتين
فقلت أصير بينهما خروفاً
أنعم بين أكرم نعجتين
لهذي ليلة ولتلك أخرى
عتابٌ دائم في الليلتين
فعش عزباً فإن لم تستطعه
فضرباً في عراض الجحفلين
والشيء اللافت المثير للشفقة والحنان في آن معاً هو التالي: كان الباريسيون يرون إميل زولا متنزهاً يوم الأحد في حدائق التويليري القريبة من الشانزليزيه وهو يتأبط ذراع زوجته الشرعية المهترئة التي أصبحت تشبه جدته. كان يتأبط ذراع زوجته السابقة وأمامهما يمشي الطفلان مع أمهما الشابة التي تتفجر بالحياة والحيوية. وكان منظراً يثير الاستغراب والإعجاب لدى جمهور المشاهدين الذين تغص بهم أشهر حديقة باريسية. ولكن طفليه ما كانا يفهمان الشيء التالي: لماذا يمشي والدهما إلى جانب تلك المرأة العجوز وليس إلى جانب أمهما؟ هل هو زوجها أم لا؟ هو زوج مَن يا ترى؟
ماذا قال إميل زولا عن الحب؟
«لا ينبغي أن نحب إلا امرأة واحدة في حياتنا، تلك التي أحبتنا. وينبغي أن نعيش معها حتى آخر لحظة على هذا الحب المتبادل».
وأخيراً، على ذكر إميل زولا… هل تعرفون كم رشح نفسه للأكاديمية الفرنسية؟ 19 مرة! ومع ذلك فلم يقبلوه. هذا في حين أن الأكاديمية كانت مليئة بأشخاص نكرات لم يسمع بهم أحد قط ولم يخّلفوا وراءهم أي كتاب يستحق الذكر. ولكن هذه قصة أخرى..
هل لديغول مستقبل؟
وأخيراً، إليكم هذه النكتة: يقال بأن الشاب شارل ديغول تعرف على خطيبته عن طريق سيدة باريسية لعبت دور الوساطة بين العائلتين. وكانت الخطيبة من عائلة صناعية بورجوازية أغنى من عائلة ديغول بكثير. وفي أثناء حفلة العرس وجدت هذه السيدة الباريسية والد العروس يقترب منها شيئاً فشيئاً بالكثير من الخجل والتردد وعلى وجهه علامات القلق، ثم تجرأ وسألها: هل تعتقدين بأن لهذا الشاب شارل ديغول مستقبلاً؟ فأجابته السيدة: لِمَ لا؟ إنه ضابط في الجيش برتبة كولونيل ومن عائلة محترمة. لا تخف على ابنتك يا سيدي، لا تخف. مستقبلها مضمون. فقال لها: ولكنه طويل القامة جداً. هل يمكن لشخص طويل ونحيل إلى مثل هذا الحد أن ينجح في الحياة؟ بعد ذلك بعشرين سنة فقط (أو حتى أقل) كان صهره شارل ديغول قد أصبح قائد فرنسا الحرة وزعيمها الأوحد!
أخبار ذات صلة
الصومال تفقد «شكسبيرها» وداعية السلام هدراوي
رغم مآسي الصومال اليومية، آخرها هجوم حركة «الشباب» على فندق في العاصمة مقديشو، هز خبر رحيل محمد إبراهيم ورسمي، المعروف بـ«هدراوي»، يوم الخميس الماضي، عن 79 عاماً، الصومال برمتها. ولا غرابة في ذلك، فهو يعد، منذ أمد بعيد، أحد أعظم شعراء الصومال، كما جاء في مقال عنه نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية بمناسبة رحيله. لكن ذلك لا يعود لأسباب إبداعية فقط، بل لارتباط هذا الشاعر بقضايا بلده منذ شبابه الأول ونضاله المتواصل، الذي لم يكسره السجن والقمع وحتى منعه من الكتابة، من أجل السلام والديمقراطية.
في عام 1973، سجنه الرئيس السابق سياد بري، لمدة خمس سنوات، بتهمة التحريض ضد الحكومة، وحُظرت أعماله، لكنه استمر في كتابة الشعر الذي كان يهرب للناس، ويتم تداوله بشكل واسع.
وكانت الأغاني والقصائد التي يكتبها مفعمة بالصور المجازية والاستعارات، ومنفتحة للتأويل، مما جعل من الصعب على النظام العسكري السيطرة عليها، كما في قصيدة «مقتل الناقة» على سبيل المثال، التي سجنه النظام بسببها من دون محاكمة:
الثعبان يتسلل إلى القلعة
برغم أنها مغطاة بالشوك
لا يزال الجبان يقذف لعناته
فعلى الشجاع أن يمد رقبته
فحل البقر يبيع قيمه
حتى يبدو جميل المحيا
وتتدلى أفعاه الصلفة في عنجهية
عندها يصير الضحك جريمة
لدى بلادنا عمل لم ينته
وفي أوائل تسعينات القرن الماضي – عندما أدت الحرب الأهلية إلى القضاء على آلاف الصوماليين – سافر «هدراوي»، وتعني سيد أو «أبا الكلام» إلى مختلف أنحاء البلاد في «مسيرة سلام»، داعياً الأطراف المتحاربة إلى نبذ العنف. وقد لاقت رسالته للمصالحة صدى لدى الصوماليين في الداخل والخارج.
قال الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، في نعيه له، «كان الشاعر محمد إبراهيم ورسمي (هدراوي) رمزاً للوحدة والسلام. كان إحدى الركائز الأساسية للفنون والآداب في الصومال، واضطلع بدور رائد في الحفاظ على الثقافة الصومالية وتعزيز لغتها. إن كل أسرة صومالية مكلومة بوفاته».
وكتب صلاح أحمد، الشاعر والكاتب المسرحي ومدرس اللغة الصومالية في جامعة مينيسوتا بالولايات المتحدة عن رحيله: «سوف نعتز بإرثه الشعري والثقافي والعمل الأكاديمي الثري الذي خلفه وراءه».
كما بعث الاتحاد الأوروبي، والنرويج، والمملكة المتحدة، برسائل التعزية للحكومة الصومالية.
وكان هدرواي يُلقب بـ«شكسبير الصومال»، غير أن المطرب ومؤلف الأغاني الصومالي آر مانتا، قال: «لم يكن هدراوي (شكسبير الصومال)، بل كان هدراوي الصومالي. كان أكثر من شاعر، كان فيلسوفاً، ومناضلاً من أجل الحرية، وأمضى سنوات عديدة في السجن إثر مواقفه ضد الظلم والاستبداد».
وأضاف يقول: «كتب بعضاً من أجمل أغاني الحب، وقصائد يعشقها الصوماليون في القرن الأفريقي وخارجه، ويتخذونها معياراً لحياتهم».
يقول أحمد، الذي كان يعرف الشاعر هدراوي منذ أواخر الستينات، «كان هدراوي واحداً من أطيب الناس الذين التقيت بهم على الإطلاق. إن أشعاره تتحدث بلسان الذين لا صوت لهم… سوف نفتقده كثيراً، لكننا سوف نعتز بتراثه وعمله الأكاديمي الثري الذي تركه لنا».
ويطلق على الصومال «أمة الشعراء»، لكن إرثها بقي شفاهياً، إذ لم يتم تدوين اللغة الصومالية سوى في عام 1927.