يوسف الديني:رحيل القرضاوي… بين الذات والموضوع
تبدو الكتابة عن الشخصيات حال رحيلها إلى مثواها الأخيرة مدحاً أو قدحاً عسيرة بسبب تحول الحدث إلى ظاهرة جماهيرية تحشد بين الأنصار والمخالفين، ولذلك ربما كان أسلم موقف على الباحث عن الإنصاف هو محاولة الاستناد إلى الفلاسفة، منهم ديكارت، وفتوحاته في التفريق بين «الذاتية» و«الموضوعية». من هنا يمكن الحديث بدون حرج بين الحالة القرضاوية كموضوع، وليس الذات الراحلة إلى مثواها الأخير.
يمكن القول بداية إن القرضاوي (الشيخ الأزهري ولد بمصر في سبتمبر/ أيلول عام 1926 ومقيم بقطر منذ 1977 وحصل على جنسيتها)، حاول جاهداً إبقاء نفسه مرجعية سنية تعتمد على تكنيك التحشيد والجمهرة، وهو أسلوب أثير لدى رموز وقيادات «الإخوان» وكل جماعات الإسلام السياسي، فعلى الرغم من تراجع دور «الاتحاد العالمي» الذي يرأسه القرضاوي وأهدافه لسحب البساط من المؤسسات الدينية العريقة التي يتهمها بالانحياز إلى السلطة، كالأزهر، وتهديد حالة السلم في مصر، وتقويض الحكومة الانتقالية المصرية بسهام الإدانة، إلا أن تأثير ذلك بدا كبيراً على مستوى الأتباع في مصر وخارجها، مع استهجان كبير على مستوى الخطاب الشرعي الرسمي.
لعلنا نستذكر على خلفية ذلك حروب الشرعية بين رموز الإفتاء والتمثيل الديني في العالم الإسلامي، ومن ذلك ما حدث إزاء هيمنة القرضاوي على «اتحاد علماء المسلمين»؛ جاءت المفاجأة بانسحاب العلامة الفقيه الكبير والمقدر في الأوساط السلفية بسبب متانته العلمية الشيخ عبد الله بن بيه من الاتحاد، معللاً ذلك بأن «سبيل الإصلاح والمصالحة يقتضي خطاباً لا يتلاءم مع موقعي في الاتحاد»، وهو ما يعني بعبارة أخرى خروج الاتحاد من الأهداف الإصلاحية إلى خطاب سياسي أحادي الاتجاه.
لم تقف أخطاء القرضاوي السياسية عند ملف «الربيع العربي»، التي واجهت انتقادات عدة حتى من المقربين من الشيخ، بل استمر الشيخ في استدعاء تصلبه السياسي ودعمه لخيار «الإخوان» حتى بعد السقوط المدوي في مصر والتراجع الكبير في تونس ومواقع أخرى.
الدكتور يوسف القرضاوي الفقيه المتسامح الأبرز منذ عقود، الذي ساهم في قلب بنية الهرم السلفي الحركي بفتاوى وآراء متسامحة فقهية، في وقت كانت فيه الفجوة بين الفقهاء التقليديين وإيقاع العصر تزداد اتساعاً، متيحة المسرح لصعود فئات دينية أقل حضوراً وتأثيراً من الدعاة ونجوم الفضائيات ورموز جماعات الإسلام السياسي القادمين من خلفيات غير شرعية.
شخصية الدكتور الشيخ القرضاوي محيرة جدلية على أكثر من مستوى، بدءاً بالتحولات التي خاضها في حياته، وهذا ما يفسر حجم رأس المال الثقافي الذي خلقه القرضاوي لنفسه منذ أن مارس دور تجسير العلاقة بين العلماء والفقهاء التقليديين وبين جماعات الإسلام السياسي.
شخصية الراحل الدكتور الشيخ القرضاوي محيرة جدلية حد التخمة؛ ليس فقط بسبب التحولات التي خاضها في حياته، ولكن أيضاً للأدوار التي اضطلع بها في «شرعنة» الحالة الإخوانية في تمثلاتها للسلطة، بدءاً بتجربة الجماعة الأم، ومروراً بتجربة «حماس» والسودان، ووصولاً إلى الموقف من الثورات التي تعامل معها الدكتور ببراغماتية سياسية تجاوزت كل الأطر والحدود بين ما هو ديني وسياسي في شخصية الدكتور، لذا لن أتحدث عن شخصية الشيخ مع أنها ثرية ومغرية بالتحليل السياسي والنفسي، لكنني سأحاول قراءة عجلى تناسب المقام للحالة القرضاوية السياسية، وهي لا تمثل الشيخ فحسب، بل باتت تنطبق على تيار عريض من القرضاويين الجدد.
أزمة القرضاوية السياسية تبدأ في الفارق الكبير بين الأداء السياسي وبين الرؤية الفكرية، أو بمعنى آخر تحويره كل ما هو سياسي إلى عقائدي، بحيث يصبح الخلاف معه والاختلاف أزمة غالباً ما يجري تصويرها بشكل تراجيدي، لا سيما أن الجميع يتكئ على تراث الشيخ الفقهي المتسامح، وكيف أنه شكل لكثيرين بديلاً آمناً عن التيارات المتشددة التي لا يمكن لآرائها الفقهية والاجتماعية أن تأخذ طابعاً عالمياً كما هو الحال مع القرضاوي وفتاواه المتسامحة، لا سيما تلك التي تخص المسلمين في المهجر، وهي حالة ليست جديدة أبداً، ليس فقط على مستوى العصر الحديث ونشأة الحركات الإسلامية على أنقاض النكسة العربية، بل حتى على مستوى التاريخ الإسلامي الذي زخر بنماذج فقهية متسامحة ثائرة على المستوى السياسي أو العقائدي.
يمكن الحديث عن القرضاوي ضمن سياق الرعاية الخليجية المبكرة واستقطابه للتمثيل الديني في قطر، هنا تحول إلى مشروع مستقل مفارق حتى لطموحات «الإخوان المسلمين»، ومتجاوزاً للأدوار التقليدية للاستقطاب، حيث بات رمزاً للمرجعية السنية في مقابل المرجعيات الشيعية، أو «بابا المسلمين» في مقابل بابا الفاتيكان، وتدعم جماعات الإسلام السياسي هذا التوجه بقوة إلى الدرجة التي يصبح معها مجرد التعرض للقرضاوي نقدياً جريمة لا تغتفر.
أزمة القرضاوي آنذاك وحتى رحيله أمس، أن التيارات السلفية أيضاً لا تعترف بالعقل الفقهي للقرضاوي، رغم تسامحه وفتاواه التي تنشر لدى طبقات الانتلجينسيا الدينية، وهم مزيج متنوع يرى في تسامح القرضاوي الفقهي مخرجاً من أزمة الوقوع في المحظور الديني، غير مكترثين كثيراً لخطه السياسي، لكن التيارات السلفية ترى أن شخصية القرضاوي الفقهية هي تلفيقية بامتياز، تقوم على تقديم تنازلات اجتماعية لكسب أكبر شريحة من المتابعين في مقابل آراء سياسية متصلبة وذات منزع ثوري يصل أحياناً إلى حد الافتعال. في كل مؤلفات القرضاوي الفقهية حتى كتابه «فقه الجهاد» الذي شرق وغرب، لا تجد مسالك الفقهاء الكبار كالشيخ أبو زهرة والطاهر بن عاشور، وحتى مشايخ معاصرين كالألباني أو حتى الفقيه الزاهد الشيخ عبد الله بن بيه، فهذا الكتاب يتوسل نتائج متسامحة بأدوات فقيرة من الناحية العلمية.
وهي أيضاً في الخطاب العام التقليدي أو المستند إلى التقاليد الممتدة عبر التاريخ، فهي على النقيض تماماً في موقفها من العقل السياسي للقرضاوي، وهذا ينطبق على الباحثين والخبراء في علم «الإسلاميات التطبيقية»، إذ يعدونه نصاً مغلقاً لا يعكس الآراء المتسامحة فقهياً للشيخ، وهذا التناقض بين الشخصية السياسية والفقهية لم يكن نتاج الشيخ وحده، بل هو علامة فارقة ومسجلة لـ«الإخوان» يمكن تتبع جذورها الأولية في شخص المؤسس حسن البنا، لكن خصائص العقل القرضاوي السياسي الجديد تكمن في قدرته على الجمع بين المتناقضات، على مستوى النظرية والممارسة، خصوصاً «الثورية السياسية».
ثمة عوامل كثيرة ومعقدة لفهم هذا السلوك الثوري، لكن يترشح في الأساس عامل داخلي يتصل بطبيعة فهم القيادات الدينية لدورها، ويتمثل ذلك في عدم رغبة «الإخوان المسلمين» ودعاة الإسلام السياسي في فقدان الشرعية الدينية بعد أن اهتزت شرعيتهم السياسية كثيراً، لا سيما أن المنافس في سباق الشرعية الدينية أقوى بمراحل منهم، وهم السلفيون وبقايا تيارات «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» في مصر ومجموعات «السلفية الجهادية» في باقي الدول، بينما ينافسهم في الشرعية السياسية.
سمير عطا الله:انتحار غامض
أعتقد أن غالبية الناس في هذه المسكونة لا تزال تعرف من هو جون كيندي. لكن، من كان سلفه ومن كان خلفه، قلة يعرفون أو يذكرون. الدراما لا تُنسى في سرعة. وعشرات الكتب لا تزال تصدر كل عام عن حياة ومقتل كيندي ولا يحمل أحد منها جواباً حول من قتل الرجل.
الغموض كفيل بإبقاء الشهرة حية. 22 عاماً مرت على غياب سعاد حسني، وإلى الآن تطرح الأسئلة كما في اليوم الأول: هل قُتلت ثم رُميت عن شرفتها في لندن؟ هل انتحرت؟ وإذا كان في الأمر جريمة، فمن قتلها؟ ولماذا؟ وهل عملت فعلاً لصلاح نصر، صاحب الاسم الشهير في عالم المخابرات؟ تميل الناس دائماً إلى تبني نظرية القتل حول مَن تحب مِن المشاهير، إذ لا يمكن لامرأة احتلت قلوبهم كل تلك السنين، أن تنتهي منتحرة ووحيدة وفقيرة ومجرد اسم عادي في تقرير الشرطة اليومي.
بطلة «خللي بالك من زوزو» لم يخللِ أحد باله عليها بعدما تركت القاهرة إلى لندن. هنا لم يكن يعرفها أحد عندما تمر في الشوارع ولم يكن أحد يركض نحوها من بعيد عندما يراها. ولا توقف أحد عند هذه السيدة الجميلة. فالكثير من جمالها كان قد غاب. والسمنة طغت على النحول الجميل. ولا أحد ياخد باله من «سوسو». والبشر نكارون للحقب الجميلة عندما تزول الملامح الساحرة وتصبح الجاذبية الطاغية مجرد ذكرى للمؤرخين.
يتساءل المرء في هذه الدراما كيف يمكن لامرأة ملأت القاهرة طوال تلك السنين أن تموت بعيدة عنها وعن النيل وعن الجماهير التي كانت تتجمع صفوفاً طويلة من أجل لمحة منها. ربما كان في شعورها اللاواعي بقايا من الإحساس بأنها غريبة عن مصر، هي تلك الفتاة الكردية السورية أن تتصدر زمن السينما في زمن المنافسات الكبرى. لم تكن أم كلثوم أخرى، ولا فاتن حمامة أخرى. فلا هي قمة في الغناء ولا قمة في التمثيل، إنما هي حضور أيضاً له رحيقه، وألق له عطره.
كانت سعاد حسني آخر الحسن الشامي الذي فتحت مصر له الأبواب. أما في وعيها المهني فقد أدركت أن لا غربة في مصر ولا غرباء. لكن ذلك هو القدر الذي حملها إلى لندن لكي تعيش نهايات العمر بعيداً عن العاصمة التي أعطتها ما لم تعطِ سواها.