كنا نحسب التاريخ بالقرون، وكنا، والحمد لله، قادرين على ذلك. ألف سنة قبل الميلاد أو ألف بعده، ولن تقع كارثة إذا أخطأنا بعقد أو عقدين. لكن أصحابنا العلماء بدأوا منذ فترة يشتتون أفكارنا على نحو مزعج. بين ليلة وضحاها صارت وحدة القياس مليار عام. كل اكتشاف جديد عمره مليار، أو ملياران، أو 13 مليار سنة. تفضل دبر نفسك. شجرة عمرها مليار، صخرة عمرها ملياران، زعانف سمك عمرها مليار و750 مليوناً. وللوصول إلى النجوم التي اكتشفها المصور جيمس ويب تحتاج إلى 13 مليار سنة ضوئية، مع بضع استراحات على الطريق. علينا أن نعترف أننا كنا – برغم كل شيء – نعيش حتى الآن حياة هادئة ومعقولة. كل قرن عشرة عقود، وكل عقد عشر سنين، وكل عام وأنت بخير. وكان القرن لا يتسع إلى أكثر من أربعة أو خمسة زعماء أو شعراء أو مخترعين يملأون الساحة ثم يخلونها للقادمين الجدد. مثلاً القرن التاسع عشر كان نابليون في انتصاراته وفي هزائمه وهروبه ومنافيه. وفي القرن الماضي ارتفع العدد على نحو غير مألوف بسبب الحروب الكبرى، ومع ذلك ظل معقولاً: هتلر ولينين وأديسون الكهرباء، وتشرشل وديغول وماو.
ولما كان العدد قليلاً ومعقولاً، فقد ملأ ذكر لينين، مثلاً، الأيام والسنوات والفصول، وصار يفتتح في الصباح برامج الدراسة الابتدائية في اليمن الجنوبي عند صديقنا العزيز الرئيس علي ناصر محمد.
وعندما اختتم الاتحاد السوفياتي حياته، وراح يتبرأ من ماضيه وأسواره وتماثيله، وصل إلى جثمان لينين المحنط في الكرملين، وترك كل شيء على ما هو. ملايين الناس تقف في الطوابير كل سنة لمشاهدة جثمان الزعيم الذي علقت أقواله وصوره على جدران الكرة. ثم فجأة، لا أحد. ولا تذكير حتى بيوم ميلاده. إلا اللهم عند الصامدين من الرفاق الذين لا يزالون يأملون برمي الرأسمالية في «مزبلة التاريخ». لاحظ جنابك أنها سوف تكون أغنى مزابل الأرض خلال ملياري سنة على الأقل: ذهب وماس وبلاتينيوم وأساور الإمبراطورة كاترين الكبرى واسم «أبل»، وصدقات وارن بافيت، وبئر الغاز في قانا اللبنانية.
بصراحة، أنا إنسان أخرق. فالناس كلما كبرت في السن قلت همومها، والمحبر كل يوم هم إضافي. ومنذ فترة أعيش مع همين جديدين: هل سوف نصل إلى كواكب جيمس ويب المشعة بعد 5 مليارات سنة، أو أكثر. والثاني من هو الرجل الذي سيطبع اسمه القرن. وحتى اللحظة أرجح، على طريقة «مضمري» خيول السباق، أنه سوف يكون الزعيم الأعلى لكوريا الشمالية كيم جونغ أون، نجل الزعيم الأكبر كيم إيل سونغ. إلا إذا أدت مفرقعاته النووية ذات يوم إلى حرب تعيد كوكب الأرض 3 مليارات سنة إلى الوراء.