«أنا أغنّي، أنا أغنّي! ليس في سرّي بل بصوت مرتفع. قابلتُ هنري ميلر. رأيت رجلاً أعجبني، رجلاً يثير الإعجاب، ليس مستبداً ولكنه قوي. يعي كل شيء بحساسية. إنه رجل سكران بالحياة. إنه يشبهني».
بهذه الكلمات المفعمة بالفرح والافتتان، احتفلت الكاتبة الإسبانية أناييس نن بالصدفة المبهجة التي جمعتها بالكاتب الأميركي هنري ميلر في باريس عام 1932. ولم يكن احتفال أناييس بميلر عائداً إلى شهرة هذا الأخير فحسب، بل لأنها أدركت منذ لحظة اللقاء الأولى أن في هذا الشاب الأميركي النزق والممتلئ حيوية وشغفاً بالحياة، ما يمكن أن يُخرجها من تعاسة مقيمة لازمتها منذ زمن الطفولة، وأن يكون في الوقت نفسه ظهيرها الصلب على طريق الكتابة الشاق.
قد يكون التخلي المفاجئ لوالد أناييس عن عائلته وتركها إلى المجهول، هو الجرح المؤسس لتعاسة الطفلة التي عبّرت فيما بعد عن مأساتها المبكرة بالقول إنها كانت ممسوسة بحالة مرعبة من الوعي الذاتي، بقدر ما كانت منفصلة تماماً عن الواقع، قبل أن تجد في كتابة اليوميات الملاذ الوحيد الذي وفَّر لها سبل التوازن والخروج من حالة التصدع. وحين التقت الكاتبة الشابة مع الشاعر الاسكوتلندي إيان هيوغو، لم تتردد في الزواج منه عام 1923، ليس فقط بسبب وسامته الظاهرة التي تجذب النساء، بل لأنه تعهد لها بدعم مشاريعها الأدبية، بحكم عمله كمصرفي ناجح. ومع أن أناييس التي نشأت في بيئة كاثوليكية محافظة، والتي انتقلت مع زوجها للإقامة في باريس عام 1925، بدت مصدومة تماماً إزاء الأفعال والممارسات المنافية للحشمة التي يقوم بها الكثيرون في الشوارع والأماكن العامة، إلا أنها سرعان ما تأقلمت مع الجاذبية الآسرة للعاصمة الفرنسية، مرهفة سمعها لنداء الحرية، ومطلقة العنان لرغباتها المكبوتة الباحثة عن التحقق.
ولم تكد تمر أشهر قليلة على إعلان أناييس الجريء «هناك طريقان للوصول إليّ، القُبَل واستخدام الخيال»، حتى وقعت في غرام صديق زوجها الكاتب الأميركي جون إرسكين، الذي توسمت فيه فحولة ذكورية لم تثبت نجاعتها على أرض الواقع، الأمر الذي دفعها إلى إنهاء العلاقة، خصوصاً أن إرسكين كان متزوجاً وأباً لطفلين. وفي ظل الصراع الذي اعتمل داخل الكاتبة الشابة بين حاجتها الملحة إلى المزيد من المغامرات وبين شعورها بالذنب إزاء زوجها الداعم لها والمتفهم لجموحها الجسدي والعاطفي، وإذ بدأت نن في التفكير بالانتحار كملاذ أخير من انشطارها المأزقي، شاءت الصدفة المجردة أن تمنحها ملاذاً آخر أقل كلفة من الموت، تمثل في لقائها هنري ميلر، الكاتب الأميركي من أصل ألماني، الذي رسمت له في القسم الأول من مذكراتها بورتريهاً تفصيلياً تقول فيه «كان دافئاً، مرحاً وطبيعياً، وكان يمكن أن يمر خلال حشد من الناس دون أن يتعرف عليه أحد. وكان نحيلاً، لدناً، طويل القامة، وشبيهاً براهب بوذي برأسه الأصلع وفمه الحسي الممتلئ وعينيه الزرقاوين الهادئتين. كانت ضحكته معْدية، وصوته مداعِباً كصوت زنجي. وكان شديد الاختلاف عن كتابته الوحشية العنيفة».
والواقع أن ميلر المولود في بروكلين عام 1891 لم يكن قد أصبح بعد كاتباً شهيراً حين قرر أن ينتقل إلى باريس عام 1930، إلا أنه بدا منذ نعومة تجربته شخصاً قلقاً ومتهوراً ومحتقناً بالعواصف، الأمر الذي جعل علاقته بمحيطه الاجتماعي وبالمؤسسة الدينية محكومة بالتوجس وسوء الفهم. وبعد زواجه الأول من بياتريس ويكنز عام 1917 والتي أنجب منها طفلتهما الوحيدة باربارا، قبل أن ينفصلا عام 1923، لم يتأخر ميلر في الزواج من الراقصة جون مانسفيلد إثر علاقة حب قصيرة جمعت بين الطرفين، ليُصدر بمؤازرة مادية منها روايته «الصليب الوردي»، التي وصف فيها بلغة مكشوفة وبجرأة قلّ نظيرها في زمنه، مغامراته العاطفية والجنسية مع نساء شبابه الغض.
ولم يكن لزواج ميلر الجديد أن يقوده إلى الاستقرار. فهو منذ أن اكتشف ميول زوجته المثلية من خلال علاقتها الحميمة بصديقتها جين كرونسكي، حتى شعر فجأة بأنه بات شبيهاً بحيوان محاصر في قفص، وكتب من وحي واقعه المأزوم روايته «ديك مجنون»، التي لم تُنشَر إلا عام 1992، أي بعد وفاته باثني عشر عاماً. وبعد مغادرته وحيداً إلى باريس، ليقضي بمفرده أشد لحظات حياته وحدة وتشرداً وفقراً، التقى صديقه الحميم ريتشارد أوزبورن، الذي قام بتقديمه إلى إيان هيوغو وزوجته الكاتبة أناييس نن، ليدخل مع هذه الأخيرة في علاقة عاطفية مشبوبة، هي الأوثق والأعمق والأكثر جموحاً على امتداد حياته بأسرها. ومع أن لغة هنري البذيئة والمفرطة في تهتكها، لم تَرُقْ في البداية للكاتبة المفرطة في حساسيتها، والتي علَّقت على مخطوطاته السردية بالقول: «إنه لا يكتب الحب، بل يكتب ليرسم كاريكاتوراً، وليسخر ويتمرد ويدمر»، إلا أن الأمور سرعان ما تبدلت، لتصبح أناييس المرأة الأكثر افتتاناً بأدب بميلر والتصاقاً بقلبه، ومؤازرة له في منازلاته الضارية مع المؤسسة الدينية، ومع غلاة المحافظين من القراء والنقاد.
وبعد انكشاف العلاقة العاطفية الوليدة التي قامت بين الطرفين، لم تأبه أناييس للأقاويل والثرثرات التي طالتها، بحيث راح رواد مقاهي باريس وصالوناتها الأدبية يتحدثون عن رعايتها غير المبررة للكاتب الفضائحي الشغوف بالمتع الجسدية، إلى حد القول: «إنني لا أفكر في الناس عبر الأفكار، بل عبر ساقٍ أو فم». لكنَّ أناييس التي قدّرت لهنري دعمه لها في نقدها الجريء لآراء د.ه.لورنس المحافظة حول قضايا المرأة والجسد والحرية، راحت تدافع بقوة عن سلوكيات الكاتب المغامر والشهواني، معتبرة أن تلك السلوكيات، ليست سوى الطبقة الظاهرة من موهبته المتوقدة وروحه الموّارة بالإبداع. لا بل إنها لم تتردد في إرجاء طبع منشوراتها الشخصية، لكي تهَب ميلر التكاليف اللازمة لطباعة عمله السردي المميز «مدار السرطان».
وككل علاقة حب وليدة ومضفورة بدهشة الاكتشاف بدت العلاقة بين نن وميلر في سنتها الأولى حميمة وملتهبة ومكتنفة بالافتتان الجسدي والفكري. والأدلّ على ذلك هي الرسائل المكثفة التي راح يتبادلها الكاتبان العاشقان بشكل شبه يومي خلال العام 1932، على أن الرسائل التي جمعها الكاتب الألماني غونتر شتولمن ونقلها إلى العربية أسامة منزلجي، تُظهر بوضوح وقوع ميلر السريع في غرام نن، التي هتف بها قائلاً: «إنني أغوص، لقد فتحتِ الهوة تحتي ولا مجال للتراجع». كما أن حبه لها يدفعه إلى تفضيل كتابتها على كتابته: «لغتك لا تزال تغمرني أكثر من لغتي. إنني مقارنةً بكِ مجرد طفل». وفي رسالة أخرى يلعب ميلر على وتر حساس يتعلق بطفولة حبيبته التعيسة، فيكتب لها: «أحلم أن أذهب إلى بروكسل لأشاهد الأخوات الطيبات وهن يشفين أناييس الصغيرة، وأتذوق دموعها الداخلية، دموع الحزن في طفولتها. أناييس أحبكِ وأنتِ في عمر الحادية عشرة، والتاسعة والعشرين، وسوف أحبك وأنت في عمر المائة».
ورغم أن أناييس قد واجهت مشاعر ميلر في البداية بشيء من الحذر والتحفظ، الناجمين عن شخصيته المتهورة من جهة، وعن تخوفها من إيذاء زوجها من جهة أخرى، فإنها ما لبثت أن تخلَّت عن كل ذلك، لتعترف صراحةً بحبها له، وبأنها تُخفي يومياتها في الدرج المخصص للرماد في مدفأة المنزل، معلنةً تبرمها من حشرية هيوغو الذي بدأ في الوقوف بينها وبين الورقة البيضاء ليسألها: «ماذا تكتبين يا صفصافتي؟»، كما إنه لا يكفّ عن قطع خلواتها الإبداعية ليسألها من جديد: «هل تحبينني؟». لكنّ الملاحظ في هذا الصدد هو إلحاح صاحب «مدار الجدي» على إعلاء الجانب الغرائزي في علاقته بمعشوقته، بحيث لن يتردد لاحقاً، وبخاصة في حالات سُكْره الشديد، في الكشف الصريح عن اشتهائه المفرط لأناييس، مشيراً إلى تفاصيله المغوية بأشدّ الألفاظ سوقية وفحشاً.
والأرجح أن ميلر الذي أسهم إلى حد بعيد في إيقاظ جسد أناييس من سباته، ما لبث أن دفع الثمن مضاعفاً بعد ذلك، ليس فقط لأن جذوة الرغبات الحسية التي اشتعلت بين الطرفين قد أخذت طريقها رويداً رويداً إلى الانطفاء، بل لأن نن التي تأخرت في إطلاق رغباتها الجسدية من عقالها، راحت تبحث عن ضالتها في العلاقات الجنسية المثلية. ومن سخرية الأقدار أن تكون زوجة ميلر بالذات، هي المرأة التي اختارتها عشيقته لتقيم معها مثل تلك العلاقة. ولم يكن ميلر الذي هتف بنن: «أنقذيني من جون»، ليتخيل مطلقاً أن إنقاذها له سيأخذ هذا الشكل الصادم والغرائبي، خصوصاً أنها كانت لأسابيع خلت تتهمه بالأنانية في علاقاته العاطفية، وأنه يبحث عن جون من خلالها، لتعترف بما يشبه الانتقام من نفسها ومنه «لقد اكتشفت متعة قيادتي الذكورية لحياتي، بمغازلتي لزوجتك جون، لكنّ جسدي سوف يموت، لأنه حسّي يضج بالحياة، ولا توجد حياة في الحب بين النساء». إلا أن العلاقة بين الزوجة والعشيقة سرعان ما تدهورت، بعد أن شرعت الأولى بتنغيص حياة ميلر والعمل بشكل حثيث على تدميره، فيما انبرت الثانية لحمايته من الأذى، ومؤازرته على المستويين النفسي والمادي.
لكن المغامرة العاطفية والجسدية بين أناييس وميلر ما لبثت بدورها أن بدأت بالتقهقر، وبخاصة بعد أن شعرت نن بأن الاشتهاء الجسدي لم يعد يكفي وحده للاستمرار في المغامرة، فضلاً عن اتهامها الصريح لهنري بالإفراط في الأنانية والتعبد النرجسي لذاته. وإذا كان من الصعب على صاحب «ربيع أسود» أن يتجرع كأس الحقيقة المر في البداية، إلا أنه ما لبث أن تقبّل الواقع الجديد، لتتحول العلاقة بين الطرفين إلى نوع من الصداقة الفكرية والأدبية الوثيقة، ومع تباعد المسافة بين رسائل الكاتبين، يبدأ كل منهما بتنظيم حياته الشخصية بمعزل عن الآخر، فتختار أناييس الانفصال عن هيوغو وتغادر إلى نيويورك، منخرطةً في مجال التمثيل لفترة من الزمن. وإذ تصرح الكاتبة بأن ميلر هو الوالد الحقيقي للجنين الذي أجهضته عام 1934، تلتقي فيما بعد الممثل روبرت بول الذي تزوجت منه عام 1955، رغم أنه كان يصغرها بستة عشر عاماً، والذي قاسمته بقية حياتها حتى إصابتها بالسرطان ووفاتها عام 1977. أما كتاب مذكراتها الضخم، والذي لم تنشر منه في حياتها سوى الأجزاء «المعتدلة» وغير المتنافية مع الأخلاقيات الاجتماعية السائدة، فلم يتم نشر أجزائه الجريئة و«الفضائحية»، إلا بُعيد رحيلها عن هذا العالم بسنوات عدة.
ورغم تدهور العلاقة الكارثية بين ميلر وزوجته، من جهة ثانية، فهو لم يمتلك الجرأة على الانفصال عنها، إلى أن اتخذت هي بنفسها قرار الانفصال عام 1934، لكن تجربتَي الزواج الفاشلتين مع بياتريس وجون، لم تمنعا ميلر من تكرار المحاولة مرة بعد أخرى، مع كلٍّ من جانينا ليبسكا وإيف ماكلور وهيروكو توكودا، قبل أن يرحل وحيداً، إثر اضطرابات مزمنة في دورته الدموية عام 1980. وبعد سنوات ثلاث من رحيل أناييس.
«إن الحلم الذي أريد أن أدركه، هو الحياة والأدب مجتمعيْن، وهو الحب والحيوية المفرطة»، كان ميلر قد كتب لأناييس، في فترة تعارفهما الأولى. كما أنها كاشفته من جهتها بأنها تودّ لو يؤلفان معاً كتاباً مشتركاً يكون وليمة لشخصين مترعة بالحياة ومشبعة بالجنس، لتضيف قائلة: «في كتاباتنا نحن مضطربان، طنّانان، شبحان محمومان وشنيعان، منقوعان بالشهوات الجسدية. إن أسلوبي المصقول وأسلوبك العضلي يتصارعان، يجتذب كلٌّ منهما الشرر من الآخر». ورغم أن الجانب الحسيّ النزويّ من علاقتهما العاطفية لم يستمر طويلاً، فإن الرسائل التي تبادلاها على امتداد عقدين من الزمن، بدت لما تضمنته من مسارات شخصية وحوارات فكرية معمقة، واحدة من أكثر وثائق القرن العشرين ثراءً وعمقاً واكتنازاً بالمعرفة وشغفاً بالحياة.