البحث عن سارتر في بكين
تابعت المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني بحثاً عن الغائبين والمغيبين. عن الرئيس ماو، وأبطال الثورة الحمراء، وعن مليوني إنسان على الأقل أعدموا لأنهم يحبون الموسيقى الكلاسيكية أو الرسم التجريدي أو التشكيلي أوالتكعيبي، أو أي رسوم ملونة للأطفال.
سميت تلك «الثورة الثقافية» وفتكت بالشعراء والرسامين والموسيقيين. وفي جزء منها كانت بقيادة زوجة التشرمان ماو وصديقها. وفي الحواضر الثقافية خارج الصين، بل في عاصمة الثقافة في العالم، باريس، كان كبير الفلاسفة الأحياء، جان بول سارتر (سارتر للأصدقاء) يمجد ماو ويهلل «للكتاب الأحمر»، ويمتدح دعوة فرنز فافون إلى أشكال العنف. وكان سارتر يتمتع، بكل تراثه الفلسفي والأدبي بأن يسمى «ماوياً» مثل سائر الفلتانين والساديين وعشاق القتل والحرائق. وأصبح من العيب على شباب العالم في جامعات بيركلي والسوربون ألا يصفقوا لأقوال ماو. وحدها جامعات مثل أوكسفورد أو كمبريدج نجت من اللوثة، أو تمردت عليها.
عبثاً بحثت عن رفاق الثورة الثقافية في صور المؤتمر العشرين يرتدون بزة واحدة هي بزة ماو. كانت هناك أناقات رصينة. وكان زعيم الحزب يرتدي طقماً يدل على الراحة لا على الفاقة. وجاء السادة الأعضاء إلى المؤتمر في سيارات من صنع الصين، وليس على دراجات هوائية. وكانوا يمثلون مقاطعات مزدهرة ومتقدمة، وتجمعات بشرية لا تكتب القصائد في مديح الأرز المسلوق.
أين ذهب الرفاق المثقفون الذين أعدموا مليونين إلى ستة ملايين مارق من محبي الفنون وعاشقي الموسيقى؟ لا ندري. لا ندري ماذا يحدث للشعوب الكبرى من نوبات جنون. كيف يقود دهان وعريف سابق الشعوب الجرمانية إلى الحرب، وكيف يقود مثقف كبير الإيطاليين الغنائيين إلى الفاشية؟
أين ذهب مثقفو الثورة الصينية، ومن أين جاء هؤلاء الصينيون الجدد، يحملون كتاب ماركس بيد، ومؤشر وول ستريت بالأخرى، ويشترون بالبريد المضمون بضائع المستر كاي، الذي تغني له المليارات من أجل نوم هنيء.
وأين جان بول سارتر؟ لقد انطفأ بعدما عاشت فرنسا (والكثير من العالم) في ظلال إخوانه حقبة طويلة. ثم اختار أن يكون عضواً في فرقة الماويين بدل أن يظل أديباً من العالم. قتلت الشهرة الصغيرة العقل الكبير
غسان شربل:قمة بالي وظل الرجل الغائب
المشاهد الخلابة في جزيرة بالي لا تحجب الغيوم السوداء المتجمعة فوق قمة مجموعة العشرين التي تفتتح أعمالها غداً. في الشهور الماضية بعث العالم إلى القمة رسائل متتالية تكشف حجم خوفه على أمنه واقتصاده وغذائه وبيئته ومستقبله. ولا مبالغة في القول إن العالم يشهد أزمة هي الأصعب منذ الحرب العالمية الثانية، على رغم حجم الأزمات التي واجهها في عالم المعسكرين وما بعده.
لا حاجة إلى جهد لإثبات خطورة التحديات المحدقة بالعالم. تكفي جولة على الشاشات وعناوين الصحف وتصريحات المتحدثين باسم مراكز القرار المعنية بالحرائق المتعددة. للمرة الأولى منذ عقود طويلة تزاحمت أسباب القلق في مكاتب المسؤولين وعلى موائد المواطنين. حديث متكرر عن احتمال استخدام السلاح النووي. حرب مفتوحة في أوكرانيا التي يدمي السلاح الغربي على أرضها الجيش الروسي ويوقعه في انتكاسات. مشهد غير مسبوق ينذر بـ«عواقب وخيمة» على المسرح الأوكراني وخارجه. وخلاف صيني – أميركي شديد حول مسقبل تايوان وبوادر نزاع حول الموقع الأول في العالم. وقلق متزايد على إمدادات الحبوب. واستعدادات أوروبية لشتاء قارس بسبب نقص الغاز الروسي أو الإحجام عن استقباله.
وكلام متسارع عن التضخم والكساد واهتزازات عنيفة في اقتصادات ومؤسسات عملاقة، ولعل الرسالة الأخطر جاءت من قمة المناخ في شرم الشيخ. التضامن أو الانتحار الجماعي. قالها بوضوح الأمين العام للأمم المتحدة. وشعر الحاضرون بأنه لا يبالغ، فصرخته مدعمة بالكوارث الجوالة والأرقام. وواضح أنه يستطيع تكرار العبارة نفسها في بالي.
لم يكن غياب فلاديمير بوتين مفاجئاً. رياح الحرب التي أطلقها في أوكرانيا لا تسير كما تشتهي سفنه. سلسلة انتكاسات تلاحقت وجرحت هيبة الجيش الروسي حتى الآن، وجرحت صورة الرجل الذي اتصف دائماً بالبراعة والضربات المحسوبة والناجحة.
قراره ضم المقاطعات الأوكرانية حرمه من القدرة على المناورة. استعادة الجيش الأوكراني خيرسون زادت صعوبة موقف سيد الكرملين. لن يأتي ليقرأ الشماتة في عيون الغربيين. ولا يطيق الابتسامات التي تشبه الضمادات. يستحيل أن يفاوض تحت وطأة الانتكاسات. ولا يبدو الغرب مستعداً لإهدائه قسماً من الخريطة الأوكرانية. اختار الغياب لتفادي التصعيد أو العزلة. ظِلُّ الرجل الغائب حاضر في بالي من رسائل الصحافيين إلى قاعة الاجتماعات والسؤال هو عن موعد جولة الثأر على الملعب الأوكراني.
استنتج العالم من الموعد الروسي الضائع في بالي أن شروط وقف الحرب في أوكرانيا غير متوافرة. في هذا الوقت اختارت الصين كعادتها أن تتصرف وفق قاموسها وعلى توقيتها. أكدت أن قمة ستعقد اليوم في بالي بين بايدن والرئيس شي جينبينغ. صورة الرئيس الصيني مختلفة عن الصورة الحالية للرئيس الروسي. خرج شي من المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني ليس فقط بولاية رئاسية ثالثة، بل بمقعد ثابت قرب مقعد ماو تسي تونغ في تاريخ بلاده. واجه الاستفزازات الأميركية في تايوان بحزم لا يسلك طريق التهور. عرض عضلات مع قرار بعدم استخدامها.
إطلاق الرصاصة الأولى حول تايوان أكبر من قدرة العالم على الاحتمال. والصين بلد الحكمة. والانتظار أفضل مستشار. ومن حسن حظ العالم أن شي لم يتعامل مع تايوان كما تعامل بوتين مع أوكرانيا. واضح أن زعيم «مصنع العالم» يدرك مدى ترابط الشرايين الاقتصادية في «القرية الكونية». يدرك أيضاً أن الصين وأميركا تبحران في قارب واحد، وأن الحل لا يكون بإحراق القارب.
مجرد انعقاد القمة الصينية – الأميركية بعد الحرب الروسية في أوكرانيا يشكل حدثاً مهماً. هذا يعني أن «الصداقة بلا حدود» بين الصين وروسيا لا تعني أن بكين تتبنى كامل سياسات موسكو. واضح أن شي يتعاطف مع الانقلاب الذي أطلقه بوتين لترسيخ عالم متعدد الأقطاب، لكنه لم يحول تعاطفه إلى تحالف ميداني في هذه المواجهة. لا مصلحة لشي في انتصار غربي واضح في النزاع الأوكراني، لكن الواضح هو أنه اختار عدم التورط، حتى الآن على الأقل، والدليل أن روسيا تستخدم مسيّرات إيرانية لا صينية.
تفتتح أعمال قمة العشرين غداً في ظل آثار نكبتين مفتوحتين هما «كورونا» والحرب في أوكرانيا. حجم الأخطار المحدقة بالعالم المريض يفرض إدارة مختلفة لشؤون «القرية الكونية» المهددة بتقطيع أوصالها. مشهد المتحلقين حول طاولة القمة يؤكد أن العالم تغيّر عما كان عليه حين ولدت مجموعة العشرين عشية القرن الحالي. الصين مختلفة. والهند. والسعودية. وتركيا. والبرازيل. الهدير الآسيوي ليس مجرد ثقل سكاني وترسانات. إنه أيضاً اقتصادات عملاقة وتكنولوجيا وثقل يطالب بموقعه المستحق في إدارة العالم.
يقتصر الحضور العربي في قمة العشرين على السعودية. تغيير واضح وكبير طرأ على ثقل اللاعب السعودي ودوره. لم تعد صورة السعودية صورة بلد يمتلك ثروة نفطية هائلة. بات لدى السعودية ما تقدمه لمنطقتها والعالم. نموذج نهضة أطلقه الأمير محمد بن سلمان وأثبت في حفنة سنوات قدرة العربي على التقدم.
قدرته على الإفادة من التكنولوجيا لتحسين شروط حياة مواطنيه وبناء اقتصاد حيوي منوّع وقادر على المنافسة. نهضة إصلاح وتحديث تسهل الانخراط في معركة التقدم من دون خوف من عزلة أو قلق على الهوية، خصوصاً أن النهضة انطلقت من الاستماع العميق إلى أحلام الشباب السعودي وتطلعاته. نهضة تتسم بمسؤولية داخلية وإقليمية ودولية، وخير دليل المبادرة في تحويل مكافحة الاحترار المناخي خياراً يومياً ملزماً، وهو ما عبرت عنه «مبادرة السعودية الخضراء».
باكراً أدرك ولي العهد السعودي رياح التغيير التي تعصف بالمشهد الدولي فكانت رحلات إلى الدول المتزايدة الحضور على المسرح الدولي، وكان بناء علاقات ندية وشراكات مثمرة، من دون أن تحل العلاقات الجديدة مكان علاقات تقليدية راسخة وإن شابتها غيوم بين وقت وآخر.
إنه موعد العالم في بالي. سيكون ظل الرجل الغائب حاضراً. وستتكاثر التفسيرات للموعد الأميركي – الصيني. لكن يبقى الأهم أن تُحسِن الإدارة الأميركية الاستماع إلى رسائل العالم الذي تغيّر.
لا يمكن إرغام دول العالم على ارتداء زي موحد. لهذه الدول خصوصيات وافدة من تاريخها وثقافتها وتراثها، ولا يمكن إدارة العالم إلا على قاعدة التنوع والاحترام المتبادل وحق الاختلاف.