هناك شعورٌ بربيعٍ سياسيٍّ دوليٍّ مزهر، رغم أنَّنا على أبواب الشتاء. نلمس روحَ التفاؤل في قمة الدول العشرين الحالية، بأنَّه تمَّ وقفُ التدهور بين أكبر قوتين في العالم؛ الولايات المتحدة والصين. الرئيس شي جينبينغ قال: نحتاج إلى مسار للتصحيح؛ لأنَّ «العالم قد وصل إلى مفترق طرق»، وردَّ جو بايدن: «لن تكونَ هناك حربٌ باردةٌ جديدة».
ولا ننسَ الاهتمامَ الطارئ بحلٍّ سلميٍّ في أوكرانيا، وردَّد هذه الدعوة الروسُ والأميركيون. كلُّها مؤشراتٌ مهمة ستنعكس بشكل كبير على العالم سياسياً واقتصادياً.
في بداية الجلسة، هنَّأ الرئيسان المتحاربان، بايدن وشي، بعضَهما بعضاً بالفوز في الانتخابات، لتوحي بأنَّ فريقي الرئيسين قد أنجزا معظمَ المهمة، قبل أن يبدأ الرئيسان التفاوض المباشر.
أميركياً، لم أجد نتائجَ الانتخابات النصفية النيابية مفاجئة؛ إذ أخذ الديمقراطيون مجلسَ الشيوخ، وذهب «النواب» للجمهوريين بأرقام متقاربة. الانتخابات النيابية صعبة؛ لأنَّها محلية، لا تتمحور على قضية واحدة، بل على عشرات الموضوعات؛ المعيشية، والاجتماعية، وكذلك الشخصية. بذلك حافظ الرئيس على مجلس واحد، يعطيه السلطةَ الكافية لإمرار مشاريعه، ووقف مشاريعِ خصومِه، ولكنَّها لن تكونَ سلطةً مطلقة. مثلاً، لو أراد توقيعَ اتفاق مع إيران، أو إرسال المزيد من السلاح لدعم الحرب في أوكرانيا، عليه أن يذهبَ لـ«الكونغرس»، وقد يصطف، في التصويت، بعض أعضاء حزبه ضده مع المعارضين الجمهوريين.
مع هذا، أتوقَّعُ أن يحرصَ بايدن على أن يُكملَ السنتين المتبقيتين، بالبحث عن إنجاز تاريخي يخلّده. هذه عادة الرؤساء الأميركيين. وقد وضع اللبنةَ الأولى أول من أمس باجتماعه بالرئيس الصيني في إندونيسيا. لو نجح في إطفاء الأزمة حتى تتعايشَ القوتان على الكرة الأرضية، سيظهر على غلافِ مجلة «التايم»، وسيُرشح لجائزة «نوبل للسلام»، وسيتذكره العالم، ليس بفيديوهات خصومِه الساخرة منه، بل بما فعله لبلاده وللعالم بوقفِ الحرب الباردة مع الصين في مهدِها. على أي حال، هذه مهمة صعبة. الذي سيسهل عليه لو امتنع عن الترشح لرئاسة ثانية.
عدمُ ترشّحِ بايدن سيجعله أكثرَ حرية، لن يكونَ مضطراً لحساب تأثيرات قراراته شعبياً وانتخابياً، إلا في نطاق ضيق، فلا يتسبب في خسارة رفاقِه في الحزب.
السؤال الذي يهمُّنا أن ندرسَه: كيف سيتعامل مع منطقتنا وقضاياها خلال السنتين المتبقيتين له في البيت الأبيض؟
إن قرَّرَ أن يعودَ، أو يؤسسَ، لاتفاق بديل للاتفاق الشامل مع إيران، هنا لا أراه يستطيع أن يحقّق ذلك، وينجح، دون أن يُشركَ فيه الدولَ المعنية إقليمياً، حتى لا يسقطوه مستقبلاً، كما حدث لمشروع الرئيس الأسبق، باراك أوباما. ولو قرَّر اختبار مشروع يحمل اسمَه للسلام في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لن يبدأ دون تأييد الدول الإقليمية الرئيسية.
وحتى لو اختار بايدن الانصراف عن المنطقة وقضاياها، والتركيز على الصراع الأميركي الكبير مع روسيا والصين، فإنَّ دولاً، مثل السعودية، والخليجية الأخرى، ستصبح جزءاً من لعبة التنافس، وتحديداً مع الصين؛ لأنَّها مُصدّرٌ رئيسيٌّ للطاقة إليها. وهذا سيعني المزيد من الضغوط الأميركية على الرياض، التي تسعى لتحقيق التوازن في علاقاتها.
تاريخياً، ظلت منطقتنا أرضاً خصبةً للصراع الخارجي، بهدف السيطرة على الممرات المائية ومصادر الطاقة. السعودية، كانت هدفاً للمتنافسين لنحو قرن؛ الحلفاء ضد دول المحور، ألمانيا النازية وتركيا العثمانية. وتكرَّر الأمرُ في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي. واليوم تعود الممراتُ والبترولُ والغازُ محل التنافس، رغم أنَّ الولايات المتحدة هي المنتج الأكبر في العالم. إن تمكنت القوى الكبرى من وقف التدهور بينها، فإنَّ ذلك سينعكس إيجاباً على أسواق الطاقة، ويرمّم ما ألحقته جائحةُ «كوفيد- 19» وحرب أوكرانيا من أضرار في كل مكان
حازم صاغية:سرّ هذا الحقد على «17 تشرين»؟
ثورة «17 تشرين» اللبنانيّة لم تنتصر، ولم تستطع وقف الوجهة السائدة في الحكم أو الوجهة المتعاظمة في الانهيار، وهي لم توصل إلى البرلمان كتلة نيابيّة جبارة تقلب المعطيات المألوفة. ثم إنها، في الحساب الأخير، انقضى عليها نيّف وثلاث سنوات. لماذا إذاً هذا الحقد الذي أبداه حيالها الأمين العامّ لـ«حزب الله» في خطابه الأخير؟
السبب ليس بسيطاً ولا تفصيليّاً. فللمرّة الأولى، رأينا حسن نصر الله يتحدّث عن الثورة بصراحة فجّة مقرونة بالتفاخر: إنّها عمليّة فوضى وتخريب زرعتها الولايات المتّحدة في لبنان، أمّا هو وحزبه فكانا على رأس من تصدّوا لها وقمعوها.
لماذا أصدر نصر الله هذا الحكم المتأخّر، والذي يبدو لوهلة كأنّه تبرّعَ به ولم يكن يستدعيه أي سبب موجب؟
أغلب الظنّ أنّ الحزب ولفيفه يعملان على تحويل هزيمة «17 تشرين» إلى محطّة تأسيسية كبرى للبنان «الجديد»، على الطريقة التي رُفع فيها سحق ثورة 1968 في تشيكوسلوفاكيا السابقة إلى محطّة تأسيسية كبرى لتلك الدولة الشيوعيّة في طورها الثاني. أمّا الذين أنزلوا الهزيمة بـ«17 تشرين» فهم مخلّصو الشعب الذين أنقذوه من الوقوع في براثن المؤامرة. هكذا يضاف وسام جديد إلى الأوسمة التي ترصّع صدر «حزب الله»: التحرير، المقاومة، مكافحة الإرهاب، الترسيم البحريّ، الكرامة… إلخ.
انتخابات رئاسة الجمهوريّة تزيد في الإلحاح على هذه المهمّة. ذاك أنّ من يملك حصّة الأسد في إنقاذنا من المؤامرة، ينبغي أن تكون له حصّة الأسد في اختيار الرئيس الجديد للجمهوريّة.
هذا ما قاله نصر الله بطريقة مخفّفة نسبيّاً، حين تحدّث عن الرئيس الذي لا يطعن المقاومة في ظهرها، وذكّرنا بالتجربتين «الناجحتين» لإميل لحّود وميشال عون، تاركاً المهمّة الجلفة لرئيس كتلته البرلمانيّة محمد رعد: «في مواجهة الاستحقاق الرئاسي نعرف من نريد ونتحرّك من أجل أن يأتي إلى الرئاسة من نريد». أمّا «من نريد» فهو «الرئيس اللائق بشعبنا المقاوم».
واضح مما سبق أنّ «حزب الله»، المثقل بـ«الانتصارات» وآخرها اتفاق الترسيم الحدوديّ، لا يريد أن يساوم أحداً. إنّه يريد أن يفرض «الرئيس اللائق بشعبنا المقاوم»، مُراهناً على يأس الآخرين وتعبهم في تكرارٍ لما حصل عند الاتفاق على ترئيس ميشال عون ذات يوم مشؤوم من عام 2016.
هذا هو بعض ما ينذرنا به خطاب التشهير بـ«17 تشرين»: إنّ الذين دافعوا عن النظام وضمنوا استمراره هم الذين سيصبحون الصانع الحصري لملوك هذا النظام.
لكنْ إذا كان الدفاع عن ذاك النظام هو السبب العملي المباشر للكثير مما قيل ونُفّذ وهُدّد به، فإنّ لذلك خلفيّة تفسّر السبب العميق للودّ المفقود بين مقاومة «حزب الله» وثورة تشرين. تلك الخلفيّة، التي ربّما جاز وصفها بالمنطلقات النظريّة لموقف الحزب، تقوم على التالي:
– مقاومة «حزب الله» عمل عنفي متواصل، السلاح قضيّته وغايته وأداته. ثورة «17 تشرين» قدّمت نفسها عملاً مدنيّاً وسلميّاً وإصلاحياً.
– مقاومة «حزب الله» تعبير عن تسلّح جماعة أهليّة في مواجهة جماعات أهليّة أخرى. ثورة «17 تشرين» طمحت إلى تأسيس حركة شعبيّة ووطنيّة عابرة للطوائف والجماعات.
– مقاومة «حزب الله» تقدّم نفسها بوصفها تستهدف بالأساس عدوّاً أجنبيّاً، غالباً ما تُستعمل عداوته، في لبنان وفي سواه، لتكريس وضع قائم. ثورة «17 تشرين» وُلدت ردّاً على طريقة داخليّة في الحكم ونهج صارخ في الفساد.
– مقاومة «حزب الله» تُضعف الدولة بوصفها الطرف الذي يصنع قراري الحرب والسلم. ثورة «17 تشرين» تقوّي الدولة من خلال تطوير الديمقراطيّة فيها وتوكيد قيم الشفافيّة والمساءلة.
– مقاومة «حزب الله» تُحكم ربط لبنان بالسلطتين الإيرانيّة والسورية. ثورة «17 تشرين» تحاصر فكرة تحويل البلد إلى «ساحة» للصراعات الإقليميّة.
– مقاومة «حزب الله» تعمل على تحكيم الآيديولوجيا بالقرار السياسيّ، فيما ثورة «17 تشرين» سعت إلى تحويل لبنان بلداً عادياً تأتمر سياساته بآمر مصالحه.
هذان، في آخر المطاف، ضدّان لا يلتقيان. أحدهما يريد إبقاء الأمور على حالها، وحراسة هذه الحال بالسلاح، ومن هنا فهو يستحقّ وصفه الدقيق بالدفاع عن الوضع القائم الذي «يحمي ظهر المقاومة». الآخر يريد تغيير الأمور بحيث تنتفي إمكانيّة الدفاع عن الوضع القائم، الفاسد والكارثيّ، بحجّة مكافحة العدوّ.
هاتان النظريّتان سبق أن اصطدمتا في 2005 فكان الردّ على صعود الأجندة الوطنيّة الجديدة، بعد مقتل رفيق الحريري، إثارة حرب 2006 وإعادة شحن الأجواء وتعبئتها بالأجندة القديمة إيّاها.
وهما اصطدمتا في سوريّا، فتوجّه مقاتلو «حزب الله» لقمع الطلب على الحرّيّة والتغيير والكرامة الإنسانيّة، ولتثبيت بشّار الأسد ونظامه.
إنّه الصدام الدائم، المقيم في أصل الأشياء، والذي يصعد ويهبط لكنّه لا يتوقّف إلاّ بالهزيمة الماحقة لواحد من طرفيه.