في حدث نادر، أعلنت السلطات الألمانية صباح الأربعاء 7 ديسمبر/كانون الأول 2022، إطاحتها بمجموعة يمينية متطرفة خططت لاقتحام مبنى البرلمان الألماني، الرايخستاغ، والاستيلاء على السلطة؛ حيث شنت السلطات حملة مداهمات في ولايات عدة واعتقلت نحو 25 شخصاً مشتبهاً بانتمائهم لتنظيم “حركة مواطني الرايخ” النازية المتطرفة.. فمن هي هذه الحركة؟
ما هي حركة “مواطنو الرايخ” الذين لا يعترفون بالدولة الألمانية الحديثة؟
منذ عدة سنوات، حذرت تقارير استخباراتية ألمانية من تنامي حجم مجموعة يمينية متطرفة تدعى “مواطنو الرايخ”، حيث خططت مجموعة منهم لتأسيس جيش خاص.
وفي عام 2016 بدأت هيئة حماية الدستور الألمانية (المخابرات الداخلية) بتتبع المنتمين إلى ما يسمى بـ”حركة موطني الرايخ”، بعد واقعة قتل شخص ينتمي إلى هذه الحركة لضابط ألماني تابع لوحدة شرطية خاصة، وذلك في 19 من تشرين الأول/أكتوبر عام 2016.
وهذه الحركة تتبنى أيديولوجية يمينية، ولا يعترف أتباعها بالجمهورية الألمانية الحديثة، التي تأسست بعد انهيار النازية “الرايخ الثالث” (وتعني الإمبراطورية الألمانية الثالثة) عقب الحرب العالمية الثانية سنة 1945.
ويتهم “مواطنو الرايخ” جمهورية ألمانيا الاتحادية التي تأسست عام 1949 بأنها أسست بصورة غير قانونية، ولذلك لا تعد دولة ذات سيادة. ويعترف أغلب المنتسبين لهذه الحركة بحدود ألمانيا عام 1937، أي قبل الحرب العالمية الثانية، والتي تضم أجزاء من بولندا وفرنسا حالياً.
ولا يعترف “مواطنو الرايخ” بالمؤسسات الألمانية، مثل المحاكم والسلطات الحكومية، وكذلك لا يعترفون بالقوانين، ولذلك يهملون تقديم طلب فواتير الضريبة مثلاً أو دفع الغرامات الحكومية أو الاستجابة للدعوات الموجهة من قبل المحاكم والسلطات الألمانية.
ولا يحتفظ أعضاء هذه الحركة بهوياتهم الرسمية أو جوازات سفرهم، ويحملون بدلاً عنها غالباً “وثائق غير رسمية” يطلقون عليها تسمية “هوية مواطني الرايخ”.
أين ينتشر أعضاء مجموعة “مواطني الرايخ”؟
في عام 2018، ذكرت مجلة “فوكوس” الألمانية نقلاً عن بيانات هيئات حماية الدستور في الولايات الألمانية أن أعداد “مواطني الرايخ” في ألمانيا قد وصلت إلى 15.600 شخص في مطلع ذلك العام.
ويسكن أغلب أعضاء المجموعة اليمينية في ولاية بافاريا جنوب البلاد (3500 شخص)، ثم ولاية بادن فورتمبيرغ المجاورة (2500 شخص) وولاية شمال الراين وستفاليا (2200 شخص). فيما كانت السلطات الألمانية قد أعلنت في مطلع عام 2017 أن أعدادهم وصلت إلى نحو 10.000 شخص، وهذا يعني أن أعدادهم ارتفعت بنسبة 56% خلال عام واحد فقط.
حيث قال وزير العدل الألماني ماركو بوشمان آنذاك إن المدعي العام يحقق في شبكة إرهابية مشتبه بها في التخطيط لهجوم مسلح على مؤسسات دستورية، وفق ما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية.
يخططون لتأسيس جيش سري منذ سنوات
بحسب مجلة “فوكوس”، خططت “مواطنو الرايخ” لتأسيس جيش سري خاص بها منذ سنوات خصيصاً في ولايات شرق ألمانيا، فيما أشارت مصادر أمنية لـ”فوكوس” إلى أن أعضاء حركة “موطني الرايخ” من عدة ولايات ألمانية التقوا في “اجتماع تآمري” لتأسيس منظمة مسلحة. وذكر موظف كبير أن “المجموعة التقت حسب ما أدلوا به للتحضير لليوم الموعود”.
وتخشى السلطات الأمنية الألمانية من تجمع الناشطين والمجموعات غير المنظمة في الحركة للعمل سوية، خاصة أن الكثير منهم يملك أسلحة مرخصة وغير مرخصة قانونياً، بالإضافة إلى أن أكثر من 1000 من أعضاء الحركة يملكون ترخيصاً أو أكثر لحمل السلاح.
المخابرات الألمانية حذرت قبل 4 أشهر من “انتفاضة عارمة” لأنصار اليمين المتطرف
قبل 4 أشهر من الآن، حذرت المخابرات الألمانية من أن البلاد ينتظرها “خريف الغضب“، بسبب تنامي المد اليميني المتطرف في البلاد، واستغلاله حالة الغضب العامة، تزامناً مع ارتفاع تكاليف المعيشة وأزمة الوقود وانقطاع الغاز، بسبب تبعات الحرب الروسية الأوكرانية ودعم برلين لكييف.
وفي شهر آب/أغسطس الماضي قالت صحيفة The Times البريطانية إن المستشار الألماني سافر مؤخراً إلى نيوروبين، وهي بلدة ألمانية صغيرة تقع على بعد 40 ميلاً شمال غرب العاصمة برلين، لإلقاء خطاب روتيني أمام جمهور من بضع مئات من المواطنين، لكن شولتز وجد نفسه غارقاً في ضجيج الاستهجان والاستهزاء من نحو 300 متظاهر تجمعوا خارج الطوق حول الميدان، هاتفين: “كاذب”، و”خائن للشعب”. تقول الصحيفة: “حتى الآن، هذا طبيعي في ألمانيا اليوم”.
لكن للأجهزة الأمنية، كانت هناك علامات تحذير أخطر. لم يكن من بين المتظاهرين أفرادٌ من حزب البديل اليميني الشعبوي فقط، بل أيضاً عدد من الجماعات المتطرفة التي تتراوح بين اليساريين الراديكاليين إلى النازيين الجدد فيما يعرف بـ”منظمة كومبات 18″.
لقد كان بالضبط ذلك النوع من الحضور هو الذي وضع السلطات الألمانية في حالة تأهب قصوى “لخريف الغضب”. إذ يقول مسؤولون استخباراتيون لصحيفة The Times إن البلاد تواجه شهوراً من الاضطرابات في عاصفة كاملة من الاضطرابات الاقتصادية، وارتفاع أسعار الطاقة، والاضطرابات الجيوسياسية، وتصاعد أصوات اليمين المتطرف في الرأي العام الألماني.
ويقول مسؤولون ألمان إن هناك حالة قلق من أن المتطرفين من النازيين الجدد سيحاولون توحيد قوى المعارضة المتباينة وتعبئتها في انتفاضة واسعة ضد النظام الديمقراطي، وخاصة في ألمانيا الشرقية.
وصف ستيفان كرامر، رئيس مكتب ولاية تورينغيان في الفرع الشرقي لجهاز المخابرات المحلية الألماني، الحالة المزاجية بأنها “متفجرة”. قال: “لدينا الآن مجموعة خاصة جداً من القوى المتطرفة هذا الخريف. لدينا سكان متوترون جداً جداً بعد الجائحة، ولا يزال لديهم الكثير من الغضب في داخلهم. إن المرونة والقدرة على حماية نفسك من الأزمات آخذة في النفاد”.
وقال كرامر إن عوامل أخرى مثل الحرب في أوكرانيا، وخطر تدفقات الهجرة المتزايدة بسبب المجاعات في جنوب الكرة الأرضية، وبعض “سيناريوهات الرعب” المناخية الأكثر قتامة كانت تتعزز في مزيجٍ قابل للاشتعال قُدِّمَ كهديةٍ للمتطرِّفين.
“والتقاء كل عوامل التوتر هذه على وجه التحديد يجعل الناس يشعرون بعدم الأمان بشكل كبير، وفي بعض الحالات يكونون خائفين على وجودهم ذاته. لا يتعلق الأمر فقط بأنهم مستاؤون وغاضبون للغاية- وهذا كله مشروع- ولكنهم أيضاً فريسة ضعيفة جداً للمتطرفين الذين قد يقدمون لهم إجابات ليست في النهاية حقيقية، ولكنها تحرضهم على التطرف”، يقول كرامر.
كرامر ليس وحده من يحذر من ذلك، فزملاؤه من مكاتب المخابرات المحلية في الولايات الأخرى قلقون للغاية بشأن اليمين المتطرف، وهم يصفون صراحة هذه اللحظة بأنها “وقت عصيب”.
النازيون الجدد في ألمانيا يحرّضون على التمرد
من جانبه، حثَّ جوتز كوبيتشيك، الكاتب المؤثر ومؤسس معهد سياسة الدولة، وهو مؤسسة فكرية صُنِّفَت رسمياً على أنها متطرفة من قبل مكاتب المخابرات المحلية، مؤيديه على إشعال “خريف غضب حار” من التمرد. كما يحرض يورغن إلساسر، محرر مجلة Compact، أبرز مجلة ألمانية يمينية متطرفة، على تحالف كبير بين اليسار واليمين الراديكاليين.
عبر الشبكات الاجتماعية ومجموعات الدردشة الخاصة، كانت وكالات الاستخبارات تلتقط عاصفة من الأحاديث المماثلة بين العدد الكبير من الجماعات اليمينية المتطرفة في ألمانيا الشرقية، مثل “الطريق الثالث”، وهو حزب نازي جديد. بالإضافة إلى السكسونيين الأحرار، وهو حزب صغير آخر برز خلال الاحتجاجات المناهضة للإغلاق، وهناك جماعة Zukunft Heimat، وهي شبكة تتركز في ولايتي براندنبورغ وساكسونيا الشرقيتين.
لكن الهم الأكبر يتركز في “حزب البديل من أجل ألمانيا” كما تقول “التايمز”، تأسس الحزب منذ ما يقرب من عقد من الزمان كوسيلة للمحافظين الذين خاب أملهم من الديمقراطيين المسيحيين بزعامة أنجيلا ميركل، وقد مر الحزب منذ ذلك الحين بعدة مراحل من التطرف، ويخضع عدد من فروعه الشرقية رسمياً للتحقيق من قبل مكاتب المخابرات المحلية باعتبارها تهديدات مشتبهاً بها أو مؤكدة على النظام الديمقراطي.
انقسام المجتمع الألماني
كان من أكثر الأشياء اللافتة للنظر في هذا الوقت التدافع في الفئات التقليدية لليمين واليسار. وبدلاً من ذلك، بدا المجتمع منقسماً بين أولئك الذين أرادوا إسقاط النظام السياسي بأوسع معانيه، وأولئك الذين شعروا أنهم يستطيعون التعايش معه، وفقاً لفرانزيسكا شروتر، الخبيرة في التطرف اليميني في مؤسسة فريدريش إيبرت، مركز أبحاث يسار الوسط قريب من حزب شولز الاشتراكي الديمقراطي.
في النهاية، على الرغم من ذلك، بدا أن النظام الديمقراطي الألماني قد استقر خلال هذه الفترة، حيث انتشرت الأحزاب الرئيسية حول الوسط السياسي؛ مما زاد بشكل كبير من حصتها في التصويت الجماعي في انتخابات البوندستاغ في سبتمبر/أيلول الماضي. تلاشى حزب البديل من أجل ألمانيا في استطلاعات الرأي جنباً إلى جنب مع حزب دي لينكه اليساري، وهو حزب راديكالي احتفظ بوجوده في البوندستاغ في أضيق الهوامش.
لكن هذه المرة، يشعر المحللون ومسؤولو الاستخبارات بالقلق من أن تضافر عصر الجائحة في مواجهة تهديد مشترك للبشرية قد يتبدد كركود وشيك وربما تضخم مزدوج يدفع ملايين الألمان إلى اليأس.
وقالت مكاتب المخابرات المحلية في ساكسونيا إن العديد من الجماعات المتطرفة التي ترصدها كانت تحاول استخدام الأزمة الاقتصادية الوشيكة لإعادة تنشيط الكراهية التي أثيرت في خضم الجائحة ثم تلاشت: “في الوقت الحالي يمكننا أن نلاحظ في ساكسونيا أن المتطرفين اليمينيين بدأوا في التقاط أزمة الطاقة والتضخم والمتاعب في المجتمع، ومحاولة زرع هذه القضايا بنقاط الحوار الشعبوية والمتطرفة من أجل أن تحتل مكانةً بارزة في الخطاب العام”.
اتفقت وزارة الداخلية في ولاية “سكسونيا أنهالت” المجاورة على أنها تواجه “على الأرجح” موجة كبيرة من الجماعات المتطرفة التي تسعى للاستفادة من فصل الشتاء الأوسع نطاقاً في السخط: “بسبب نهجهم المرن في اختيار قضاياهم، فإن أي أزمة لها تأثير في حياة الناس اليومية يمكن أن تنشط القدرة على تعبئة حركة احتجاجية جديدة”.
ومع ذلك، أكدت جميع الأجهزة الأمنية التي تواصلت معها صحيفة The Times أن شتاء الغضب قد لا يكون حتمياً بعد. ولا توجد الكثير من الأدلة التجريبية القوية من ألمانيا على أن الضائقة الاقتصادية الرهيبة تؤدي بالضرورة إلى إثارة تيارات جماعية من التطرف بين عشية وضحاها، على الرغم من التقديرات بأن ما يصل إلى ربع سكان ألمانيا معرضون إلى حد ما للأيديولوجيا اليمينية المتطرفة.