في حين خرجت فرنسا وبريطانيا منتصرتَين من الحرب، أصبحتا منهكتَين وأصابتهما الهشاشة السياسية. وتأرجحت ألمانيا المهزومة، التي سُلخت عنها مستعمراتها ووقعت تحت عبء ديون طائلة، بين مشاعر الضغينة تجاه المنتصرين والصراعات الداخلية بين أحزابها السياسية المتناحرة. انهارت الإمبراطورية النمساوية – المجرية، والإمبراطورية العثمانية، في حين شهدت روسيا واحدة من أكثر الثورات تطرفاً في التاريخ، وباتت خارج النظم الدولية كافة.
تبيّن أن أودن كان متبصّراً فيما كتبه. فقد فاقت حصيلة الخسائر البشرية التي تسببت بها الحرب العالمية الثانية 60 مليون شخص، تركّزَ معظمهم في الاتحاد السوفياتي، والصين، وألمانيا وبولندا. بحلول أغسطس (آب) 1945، تحوّلت المدن، من كولونيا، وكوفنتري إلى نانجينغ، وناغازاكي، أنقاضاً تحت وابل القذائف المدفعية، والقصف الجوّي، وتبادل النيران والنزاعات الأهلية. خلّفت الحرب اقتصادات منهارة، ومجاعةً انتشرت على نطاق واسع، وشعوباً منهوكة القوى، وازدادت هذه الأعباء وطأةً بسبب التكلفة الباهظة لعملية إعادة الإعمار الوطنية.
أجهز أدولف هتلر على مكانة ألمانيا الوطنية، وكاد يقضي على شرعيتها. وفي فرنسا، انهارت الجمهورية الثالثة تحت تأثير الاعتداء النازي في عام 1940، وكانت لا تزال بحلول عام 1944 في بداية تعافيها، وبين القوى الأوروبية الكبرى وحدها بريطانيا العظمى حافظت على مؤسساتها السياسية التي كانت قائمة قبل الحرب، ولكنها أصيبت فعلياً بالإفلاس، وسرعان ما وجدت نفسها في مواجهة الخسارة التدريجية لإمبراطوريتها والضائقة الاقتصادية المستمرة.
تركت هذه الاضطرابات بصمةً لا تُمحى على مسار كل قائدٍ من القادة الستّة الذين يتحدث عنهم هذا الكتاب. تخلل المسيرة السياسية لكونراد أديناور (مواليد 1876)، الذي كان عمدة كولونيا بين عامَي 1917 و1933، النزاع مع فرنسا للسيطرة على بلاد الراين في الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين، وكذلك صعود هتلر. وخلال الحرب العالمية الثانية، دخل السجن مرتَين على أيدي النازيين. ابتداءً من عام 1949، قاد أديناور بلاده للخروج من أدنى دركٍ بلغته في تاريخها، عبر التخلي عن المساعي التي بذلتها طوال عقود للسيطرة على أوروبا، وتثبيت موقعها في الحلف الأطلسي، وإعادة بنائها على أسس أخلاقية عكست مبادئه المسيحية واقتناعاته الديمقراطية.
كان شارل ديغول (مواليد 1890)، في فترة الحرب العالمية الأولى، أسير حرب لمدة عامين ونصف العام في ألمانيا الخاضعة آنذاك لحكم القيصر فيلهلم الثاني. وفي الحرب العالمية الثانية، تولّى في البداية قيادة فوج دبابات. ثم بعد انهيار فرنسا، وثانياً في عام 1958 لبث الروح فيها من جديد والحؤول دون وقوع حرب أهلية. قاد ديغول انتقال فرنسا التاريخي من إمبراطورية مهزومة ومنقسمة ومرهقة، إلى دولة قومية تنعم بالاستقرار والازدهار في ظل دستور سليم. ومن ذلك المنطلق، جعل فرنسا تستعيد دوراً مهماً ومستداماً في العلاقات الدولية.