حضر سؤال الثقافة في مونديال قَطَر حضوراً عهدناه في كل مواجهة بين الشرق والغرب. وكالعادة ينقسم الناس إلى فريقين في هذا الجدل. فريق يؤكد أهمية احترام العادات والتقاليد والالتزام بالمسموحات والممنوعات القَطَرية، لأن البطولة تقام على أرضها. وفريق يؤكد أهمية الالتزام بمعايير عالمية للحريات والسلوك مهما كانت الاختلافات الثقافية.
من المهم طبعاً، احترام الخصوصيات والاختلافات في جو فكري بدأ ينظر إلى التعدد كمورد للإبداع والإغناء، وفي جو سياسي عالمي يرفض فرض النموذج الواحد، مهما كان تفوقه المعرفي والتاريخي.
لكن مشكلة رفع الشعار في قطر تكمن في أن أحداً لم يطلب من القطريين تغيير عاداتهم وثقافتهم، بقدر ما كان المطلوب منهم احترام حق الثقافات الأخرى في التعبير عن نفسها بحرية في قطر، ما دامت تحتضن الحدث العالمي.
فالقضية في حقيقتها هي قضية حرية وليست قضية احترام خصوصية.
المشكلة الثانية أن أحداً لم يطلب من قطر تبني ثقافة غريبة عنها، بقدر ما طلب منها احترام القيم العالمية لحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في تبني الآراء السياسية والسلوكيات الشخصية والتوجهات الجنسية القائمة على التراضي والاختيار.
لكن شعار “احترموا ثقافتنا وعاداتنا” الذي يبدو بسيطاً يحمل في طياته تناقضات وفخاخاً.
فيما نعيش مساندة عالمية وعربية لانتفاضة النساء والشباب الإيرانيين ضد حكم الملالي، يجب ألا ننسى أن شعار “احترموا عاداتنا وتقاليدنا” هو الشعار ذاته الذي يرفعه حكم الملالي وهو شعار النظام القمعي الإيراني في تبرير قِسرية الحجاب ووحشية شرطة الأخلاق.
وهو شعار اليمين الأوروبي العنصري في مواجهة المهاجرين. فهو يطلب من المهاجرين احترام الثقافة المحلية في مجتمعاتهم، ذلك الاحترام الذي يتطلب رفض ارتداء الحجاب، أو بناء المساجد، ورفع المآذن أو ممارسة الخصوصيات الثقافية التي تختلف مع ثقافة المجتمع المضيف.
شعار “احترموا ثقافتنا وعاداتنا” الذي يبدو بسيطاً يحمل في طياته تناقضات وفخاخاً.
يعاني موقف “النسبية الثقافية” من خلل خطير، لأنه قابل للاستخدام والتوظيف من قبل أشد الأنظمة استبداداً وللدفاع عن أكثر المواقف الاجتماعية رجعية.
فالنسبية الثقافية مبرر الميليشيا الحوثية لحرمان النساء من الوظيفة ومنعهن من السفر دون مَحْرَم وتضييق فرصهن الدراسية بحجة منع الاختلاط والدفاع عن الهوية الإيمانية.
وهو الشعار الذي تدفعه “طالبان” من أجل تبرير القناعة والإذلال الذي تمارسه ضد الشعب الأفغاني.
وهو مبرر الأنظمة السياسية لمصادرة الحريات وإعاقة الديمقراطية “التي لا تناسب مجتمعاتنا”!
صحيح أن الموقف الآخر المنادي بالقيم العالمية لا يخلو من الثغرات، بخاصة عندما تتبناه الحكومات الغربية التي يمتلئ تاريخها بالسلوكيات المتناقضة، إلا أن الفارق المهم أن دعاة الأخلاق العالمية الواحدة يستندون إلى مجموعة من المعايير الموضوعية مثل إعلانات مواثيق حقوق الإنسان والقيم التي أصبحت إرثاً عالمياً، يعترف به الكل بلا استثناء مثل الديمقراطية، والمساواة، والمواطنة، والحرية.
أما دعاة الخصوصية والنسبية، فيفتقدون إلى أي معيار موضوعي لتوضيح أي جانب من جوانب الثقافة يجب احترامه واي منها يمكن الاعتراض عليه.
فأي جانب من جوانب العادات والتقاليد يجب أن نحترم وإلى أي مدى يمكن الحديث عن قيم عالمية يجب احترامها مهما تغيرت الثقافات والمجتمعات؟
لا يمكن إنكار التناقض الغربي والمعايير المزدوجة التي شاهدناها في المواقف من غزو العراق ومن قضية فلسطين ومن قضايا حقوق الإنسانية في الدول النفطية الغنية وغيرها من القضايا. غير أن أخطاء الغرب لا يمكن الإسناد عليها لتبرير أخطاء الشرق أو تطبيع تبرير جرائمه وانتهاكاته.
تقع دعوات الخصوصية الثقافية في عدد الأخطاء، ولا يمكن أن تكون لمطالب الخصوصية العربية قيمة أخلاقية وأرضية صلبة دون تصحيحها.
الخطأ الأول: الثقافة ثابتة ولا تتغير
تتوهم دعوات الخصوصية الثقافية أن ثقافة أي مجتمع ثابتة ولا تتغير؟ فإذا كانت الثقافة العربية محافظة اليوم ستظل محافظة إلى الأبد. وإذا كانت ذكورية فستظل ذكورية في المستقبل. وإذا كانت معادية أو متخوفة من المثلية فستحتفظ بهذه الفوبيا وتؤبدها. هذه النظرة الخاطئة التي ترى الثقافة معطى ثابتاً لا يتغير هي العمود الفقري لدعوات النسبوية الثقافية. لكن الثقافة الاجتماعية العربية اليوم ليست نفسها قبل 50 عاماً. ولن تكون نفسها بعد عشر سنوات أو عشرين سنة.
والمجتمعات العربية تعيش حالة تحول قيمي أكثر من غيرها وتعيد طرح “الثوابت” الثقافية للنقاش.
يقدم تحول السعودية والإمارات من دول تحتضن ثقافات اجتماعية محافظة ومتشددة الى دول تدعم ثقافات اجتماعية شديدة الانفتاح، دليلاً على وهم الثقافة العربية الثابتة.
فما هو “ثقافتنا وخصوصيتنا” اليوم، لن يكون كذلك في الغد.
الخطأ الثاني: الثقافات صناديق مغلقة
يقوم هذا الخطأ على أن كل ثقافة تنمو وتطور في معزل عن غيرها من الثقافات، وكأن كل ثقافة جزيرة منعزلة. وهذا وهم كبير تكذبه أبسط الحقائق التاريخية. فالثقافة العربية والقيم العربية هي نتاج التفاعل بين الفلسفة اليونانية والتشريعات الرومانية والعلوم والآداب العربية والقيم العربية القديمة وقيم عصر التنوير التي انتقلت لنا بعد مرحلة الاستعمار.
لم تكن الأخلاق والقيم التي نعتبرها اليوم قيماً عربية نتاجاً مغلقاً، بل هي نتاج تفاعل طويل بين الثقافة العربية التقليدية وثقافة فارس والشام الثقافة الأوروبية الحديثة والثقافة التركية وغيرها من ثقافات الأقوام والحكام الذين مروا على هذه الأرض.
أخذت الأخلاقية العربية الكثير من قيم التنوير الأوروبي وتبنتها، ولو تم استفتاء آراء المواطنين القطريين حول القيم الثقافية التي يرونها تمثلهم، لرأينا تنوعاً ثقافياً واسعاً من قيم الشرق والغرب ومن القيم الدينية المدنية.
الخطأ الثالث: لكل مجتمع ثقافة واحدة فقط
هناك تنوع في الثقافات بين دولة عربية وأخرى. وداخل كل دولة عربية على حدة هناك تعدد ثقافي. بين مناطق منفتحة على قضايا المرأة، والجنس، والحريات الشخصية، والدينية، وأخرى تقليدية منغلقة.
كما أن الغرب نفسه لم يعد موحداً تجاه القضايا الثقافية والأخلاقية. يعيش الغرب حالة “حرب ثقافات” بين اليمين واليسار في المواقف من الأسرة والجنس والدين والمهاجرين والمرأة والاندماج والتاريخ والثقافة وغيرها من الجوانب. والصراع حول القيم في الغرب اليوم صار عميقة لدرجة أننا يمكن نتحدث عن غير وجود ثقافتين متعارضتين داخل كل مجتمع غربي. لكن الفارق أنه لا اليمين ولا اليسار الغربيين يمكن أن يتحدثا عن خصوصيات ثقافية تتعارض مع قيم حقوق الإنسان وقيم الحريات الشخصية والدينية.
والحل الوحيد للتنوع الثقافي والقيمي هو الاعتراف بإطار عام تمارس فيه الجماعات خصوصياتها الثقافية ما دامت لا تتعارض مع القانون ومع الحقوق العالمية للإنسان.