في مثل يوم- 18 كانون الأول- من كل عام، يمر بنا اليوم العالمي للغة العربية. وقد وضعت «يونسكو» عنواناً لاحتفالها الحالي بهذا اليوم هو: «مساهمة اللغة العربية في الحضارة والثقافة الإنسانية».
وهذا العنوان كما هو واضح، يتعلق بالماضي وبمواقفنا العاطفية الغنائية من لغتنا العربية التي تتجلى في قول الشاعر حليم دمّوس: «لغـةٌ إذا وقعـتْ عـلى أسماعِنــــا / كانتْ لنا بـــــرداً على الأكبــادِ/ سـتظلُّ رابـــــطـةً تؤلّـفُ بيننا/ فهيَ الرجــــــاءُ لناطـقٍ بالضّادِ».
من الأمور المتفق عليها أن كل لغة تجسّد روح أمتها، فاللغة هي الإناء المعرفي الذي يحمي هوية الأمة وتراثها الحضاري. ويجزم المفكرون أن هوية أي شعب تتحدد من خلال عدة مقومات، أولها اللغة.
بعيداً عن العواطف والروح الاحتفالية التي يغلب عليها التفاؤل المصطنع أود أن أصارح قرائي الأعزاء بأن لغتنا العربية التي نتغنى بها تواجه حالياً تحديات غير مسبوقة يأتي على رأسها اللحاق بالمستجدات المتسارعة التي تطرحها الثورة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات. والحق أن هذه التحديات باتت واضحة لمن يريد أن يرى، فانغماس المواطن العربي في الثقافة المعلوماتية السائدة يؤدي إلى انكماش دور لغته الأم التي هي أحد أبرز مكونات الهوية ما ينجم عنه تشكل ما يسمى بـ«الهوية الضامرة» ثقافياً. وبسبب هذه الظاهرة يرى بعض المتشائمين أن اللغة العربية قد تصبح قريباً هوية تراث العرب لا هوية مستقبلهم، ما يهدد لغتنا بالخروج من متن الثقافة العالمية إلى هامشها، وإدراجها في عداد اللغات الميتة علمياً وتقنياً.
من المعروف أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رفضت طلب أردوغان افتتاح مدارس تركية في ألمانيا قائلة: «لا للمدارس التركية في ألمانيا..» وقد بررت ذلك بقولها: «إن وجود هذه المدارس يعوق اندماج الجالية التركية ويخلق مجتمعاً موازياً للمجتمع الألماني».
ثم لخصت موقفها بعبارة واضحة حاسمة: «من يعيش في ألمانيا فعليه أن يتعلم الألمانية».
لا شك أنه من المفيد أن يتعلم الطالب لغة أجنبية توسع أفقه وتسهم في تنمية هويته من خلال التعرف على الآخر وثقافته من دون الالتحاق به، لكن التعلم بلغة أجنبية وعلى أيدي معلمين أجانب من شأنه أن يؤدي لضمور هوية الطالب، وتحويله إلى شخص مزدوج يستخدم لغته الأم للحديث في البيت ويستخدم اللغة الأجنبية في أماكن العلم والعمل. ومن يعاني ضمور الهوية تسهل استمالته كي يعمل ضد أهله ووطنه كما يحدث عندنا.
بالرغم من كل ما سبق، نجد أن الكثير من أصحاب النفوذ والمال في بلادنا يتباهون بوجود أبنائهم في مدارس أجنبية، تعلم كل موادها بالإنجليزية أو بلغة عالمية أخرى.
الوجه المخبأ للمأساة هو أن العربي الذي يتلقى علومه بلغة أجنبية وعلى أيدي معلمين أجانب تضعف علاقته بلغته الأم فيراها صعبة وقد يصفها بأنها «لغة هرمة تعاني البطء والعجز»، ما ينعكس سلباً على ثقته بنفسه وبشعبه.
لا شك أن لغتنا العربية تعاني الكثير من مشاكلنا، وقد صدق العلاّمة اللغوي العربي اللبناني الشيخ عبد الله العلايلي إذ قال: «علّة النهضة في اللغة العربية ليست منها وفيها، بل هي علّة من العرب وفيهم… العرب هم الذين يمتلكونها، والعكس لا يستقيم… ومالك الشيء مسؤول عن سقمه… واللغة العربية تالياً ليست مسؤولة عن تخلّفنا».
نعم اللغة العربية ليست مسؤولة عن تخلفنا بل نحن المسؤولون عن تخلفها.