لم يعد توصيف الكارثة السورية كما كان، لقد أضاف العام الأخير، وللأسف، معالم جديدة أكثر إيلاماً، فشروط الحياة لم تعد تقتصر على الفقر والعوز وانهيار الليرة السورية وتفشي غلاء فاحش لا ضابط له، بل وصلت إلى الجوع، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وبات جل طعام ملايين السوريين كسرات من الخبز وبعض الخضار النيئ، لا يمتلكون القدرة على اقتناء أهم السلع الضرورية إن توفرت، ينام أطفالهم ويفيقون على بطون فارغة ووجوه شاحبة، عاجزين عن فعل أي شيء سوى انتظار المزيد من الحرمان كي يفتك بهم، يحدوهم انحسار متواتر للمعونات الغذائية الأممية التي كانت تقدَّم للفقراء والمحتاجين، والمهددة بالتوقف نهائياً بشمال غربي سوريا إن فشل مجلس الأمن، هذه الأيام، في تمديد آلية إيصال المساعدات عبر تركيا، ويحدوهم أيضاً عجز سلطة دمشق عن تأمين المستلزمات الرئيسية لإنتاج أهم الحاجات الحيوية، كالخبز، ما اضطر الكثير من الأفران إلى الإغلاق، وبات الحصول على ربطة خبز واحدة، يتطلب الانتظار في طوابير طويلة، لساعات وساعات، بينما لن تعوض زيادات الأجور المتواضعة أو المنح المالية الهزيلة التي تعلنها الحكومة الخسارة الناجمة عن تدهور القدرة الشرائية، كما لن يهدئ النفوسَ لومُ العقوبات الاقتصادية، التي وإن كان لها بعض الأثر، لكن جوهر الكارثة في مكان آخر، في فظاعة ما مارسه النظام من تدمير وفتك وإفساد وتفريط بالوطن وثرواته وعمرانه ومؤسساته.
هي الكارثة التي لم تعد تعني شح الوقود، بل أزمة محروقات تضرب البلاد برمتها، ما أدى إلى شلل شبه كامل في قطاعات النقل والإنتاج الرئيسية، فلا طلاب ولا موظفون ولا عمال يستطيعون الوصول إلى أماكن دراستهم أو مواقع عملهم، ما حدا بالسلطة لإصدار قرارات بزيادة تعطيل الدوائر الرسمية والمدارس لتقليل استهلاك الوقود، ويزيد الطين بلة الانقطاع شبه المتواصل للتيار الكهربائي، الذي لم يعد مجرد تقنين، بل غياب دائم، اللهم إلا لوقت قصير جداً، قد يصل في أحسن الأحوال إلى ساعة يومياً، ما أكره الكثير من العائلات على العودة لوسائل الإنارة المتخلفة وتحمُّل أضرارها، وإلى حرق النفايات وحتى البلاستيك السام للحصول على بعض التدفئة، عدا عن الاستغناء عن الأدوات الكهربائية المنزلية، والعودة لاتباع الطرق اليدوية المنهكة في التنظيف والطهي والغسيل.
تتفاقم الكارثة السورية طرداً مع تدهور الوضع الصحي، فبعد ما حصده فيروس «كورونا» من أرواح الناس البسطاء، يعود وباء الكوليرا لينال منهم، في ظل انحسار وسائط الوقاية، إنْ في سوء تصريف النفايات أو الصرف الصحي المفتوح على مستنقعات يزداد انتشارها في أماكن سكن ملايين النازحين واللاجئين، فكيف الحال مع ما حمله برد هذا الشتاء من انتشار لافت لالتهاب القصبات المصحوب بحرارة وسعال حادّين يُجبران المصاب على البقاء لأسابيع في الفراش؟! وكيف الحال مع عجز الكثيرين عن دفع كشفية الطبيب أو شراء الدواء وقد أصبحت أسعار غالبيته كاوية؟! وكيف الحال مع لجوء المرضى الذين لا يستطيعون دفع ثمن المعالجة المتقدمة لأمراضهم، أو تكاليف العمليات الجراحية مثلاً، إلى مسكنات الألم فقط بانتظار ما يحمله الغيب لهم؟!
ويعمِّق كارثة السوريين ما تشهده البلاد من تعاطٍ للمخدرات، حيث غدا إدمان الحشيش والحبوب المخدرة، كالكبتاغون وغيره، ظاهرة منتشرة بشكل خطير، وبات واحد من كل عشرة أشخاص، ممن تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشر والثلاثين يتعاطون، مع ما يرتب على ذلك من اندفاعات عدوانية وإجرامية، كما من ارتفاع حالات الاكتئاب ونسب الانتحار بين الشباب، وإن اختلفت أشكاله من الشنق، إلى الطلق الناري، إلى السقوط من علوٍّ شاهق.
وللأطفال السوريين نصيبهم من تفاقم الكارثة، فالملايين منهم الذين باتوا منفصلين عن ذويهم وفريسة القهر واليتم والحرمان، يلوبون للبحث عن مأوى وعمّا يسد رمقهم، ويتعرضون لشتى أنواع الإذلال والاستغلال الجسدي والجنسي، والأسوأ أن أعداد من باتوا منهم خارج النظام التعليمي تزداد بوتيرة متسارعة، منذرةً بتكريس حالة مزمنة من الجهل والتجهيل للأجيال القادمة، وتدمير لحياتهم ومستقبلهم.
ومن وجوه تفاقم الكارثة السورية، سيف الترحيل القسري لملايين اللاجئين الذي بات مشرعاً في بلدان الجوار، فلم يعد ثمة ترحيب بهم أو رحمة وتفهم لما يكابدونه، بل توسل شتى أساليب الضغط، الصريحة والمضمرة، لمحاصرتهم ونبذهم، ووضعهم أمام خيار وحيد هو العودة لبلادهم، من دون اهتمام إنْ توفر الحد الأدنى من الضمانات التي تقيهم الاضطهاد والاعتقال وتؤمِّن لهم أبسط مستلزمات العيش بعد الخراب الرهيب الذي طال منازلهم وممتلكاتهم.
يزيد هول الكارثة، ليس فقط ارتفاع حمّة التنافس بين خمس دول إقليمية وعالمية تحتل أجزاء من الأرض السورية وتتحكم بثرواتها، وتجعل أهلها وقوداً للصراعات والمقايضات، أو استباحة البلاد من مختلف القوى الإرهابية والمتطرفة، أو شدة العجز والارتهان التي وصل إليها النظام والمعارضة على حد سواء… وإنما أساساً بتدهور الأمل بالخلاص، برسوخ ما تشهده الحالة السورية من إهمال واستهتار عالميين، ومن فشل مزمن في خلق فرصة جدية لمعالجة سياسية تُنصف السوريين المنكوبين، أينما كانوا، وتلبّي حقوقهم البسيطة، وتعيد لهم الثقة بوطنهم ومستقبلهم.
أن يعقد ناشطو مدينة السويداء العزم على مواصلة الحراك الاحتجاجي الذي بدأوه مطلع الشهر الجاري، وتنظيمه أسبوعياً كاعتصام سلمي، كل يوم اثنين، ودعوتهم المناطق الأخرى كي تحذوا حذوهم… أن ينبري أحد ممثلي الدراما السورية وينشر مقطع فيديو يشكو فيه من الجوع والفقر الشديد ويستجدي رأس النظام لإنقاذ الناس من وضع لا يطاق… أن تتداول وسائل التواصل الاجتماعي كلمة لأحد أعضاء «مجلس الشعب» يتجرأ فيها على الاحتجاج على ما صارت إليه أحوال البشر الذين انتخبوه ليمثلهم ويطالب بحقوقهم… هي ظواهر تشير، مع حفظ الفوارق بينها، إلى شدة القهر والألم والغضب التي تعتمل في نفوس السوريين مما آلت إليه حياتهم من تردٍّ وسوء… إلى المسؤولية الأساس للنظام، الذي آثر حرق البلد وتشريد ناسه كي يحافظ على سلطته وامتيازاته… إلى أن لا خلاص للسوريين من دون حل سياسي يستند للعدالة الانتقالية، كخطة طريق واجبة، لإنقاذ مجتمع طحنته الحرب الأهلية والاحتلالات، ومثقل بتركة كبيرة من الانتهاكات والمظالم.