في مكرها اللذيذ وذكائها الحاد لم تُقِم أم كلثوم لنفسها عرشاً فحسب، بل أقامت أيضاً بلاطاً في الأسماء تدور في فضاء «كوكب الشرق». ملحنها رياض السنباطي، وشاعرها أحمد رامي، وعازفها الحناوي، ومُعجبها عبد الناصر، وسماعها في أنحاء العالم العربي. الروائي حسن داود اكتشف من خلال صنعته الملهمة، عضواً آخر في ذلك البلاط.
إنه الحاج حسين الطحان الذي لم يكن يقرأ ولا يكتب، وكان ناجحاً جداً في التجارة، وإذ بحث لنفسه عن مكان خاص لا يستطيع أحد أن ينكره عليه، فقد عثر على دور «السميع الأول». ومنذ عام 1935 عندما سمعها للمرة الأولى، اتخذ لنفسه في كل حفلاتها مقعداً أمامياً خاصاً به وإلى جانبه زوجته، بحيث صار المشهد عادياً في كل حفلات أم كلثوم.
يتفحص حسن داود معالم هذا الرجل الخاصة به من خلال الصور القديمة، فيتوقف مرة عنده وهو يخلع طربوشه ويرميه في الهواء طالباً من «الست» أن تُعيد، ثم تُعيد. وما كانت هي تبخل في الإعادة. ويقول حسن داود إن من مفارقات السميع الأول الطالعة من كونه لم يكن ممن ترددوا على المدارس، أنه قال للصحافي المصور الذي أجرى مقابلة معه، إنه يكره أولئك الذين، بأصوات مستفزة يلحون على أم كلثوم أن تعيد وتعيد. الحاج حسين الطحان يستنكر الشيء ولا يتورع عن الإتيان بمثله. كما أنه يقول الشيء ونقيضه. ففي حين يبدو ممثلاً دور المستمع المنطرب، الزاعق بأصوات انطرابه، يقول حيناً آخر بأن صوت أم كلثوم خُلق ليسمعه المرء في وحدته، منصرفاً بسماعه عن الناس «في سكون الليل وحدي» كما يقول. وفي واحد من أقواله ذكر كيف أنه نزل من السيارة حين سمع ذلك الصوت يشدو من راديو في أحد المقاهي، ودخل ليجلس في المقهى، مستغنياً بذلك عن الشيك الذي كان ذاهباً إلى البنك لصرفه، والذي قيمته ثلاثون جنيهاً. كان بذلك يضحك على قراء ذلك الزمن، إذ يظنهم لا يعرفون أن الشيك، إن لم يُصرف الآن، يمكن لحامله أن يصرفه غداً.
أو أنه لقلة علمه، ظن ذلك هو نفسه، تاركاً الجنيهات الثلاثين في حساب التاجر الآخر الذي حرر الشيك ووقعه. ومن أقواله عن صوت أم كلثوم أنه: «ده زي الشهد، زي الأكل كده»، لكنه مع ذلك «يخاطب أرواحنا ويدخل إلى أعماقنا» هكذا بما يجعلنا نظن أن هذه الحملة الأخيرة، بخلاف سابقتها هي من صياغة الصحافي الذي أجرى المقابلة مع الحاج ومن قاموسه اللغوي.
طارق الشناوي:«السجادة» بين القاهرة والرياض!
حالة إبداعية ثقافية فنية ترفيهية ممتدة نتابعها في المملكة العربية السعودية. «موسم الرياض» يواصل نشر ومضاته من خلال حفلات غنائية ومسرحية لا تتوقف، ليصبح الموسم مواسم. المستشار تركي آل الشيخ (رئيس هيئة الترفيه) دائماً لديه مفاجأة تتوهج في التوقيت المناسب. لو تابعت الغناء ستجد كل الأطياف؛ القديم والحديث. وأخيراً استمعنا إلى عدد من مطربي دار الأوبرا المصرية الذين تخصصوا في غناء التراث، مثل إيمان عبد الغني ومي فاروق ومحمد محسن، وهم يقدمون روائع أم كلثوم وعبد الوهاب ومحمد فوزي وعبد الحليم حافظ وسيد مكاوي ووردة، وغيرهم.
قبل نحو أسبوعين انطلقت مسرحية «سيدتي الجميلة» التي يتذكرها الجمهور المصري بنجميها فؤاد المهندس وشويكار. وفي النسخة الجديدة العصرية التي أشرف عليها الشاعر والكاتب أيمن بهجت قمر، منح البطولة لأحمد السقا وريم مصطفى.
أعلم أننا دائماً ما نتمسك بالماضي، ونعتبر أن أي مساس به هو بمثابة انتهاك للتاريخ، ليس معنى ذلك ألا نسعى أيضاً لإعادته مجدداً للحياة. في مسرحية «مدرسة المشاغبين» عندما تم تلوينها قبل عامين، البعض تساءل: كيف؟ رغم أن المسرحية «الأبيض والأسود» التي لعب بطولتها عادل إمام وسعيد صالح وأحمد زكي ويونس شلبي، لا تزال كما هي بالأرشيف، ومتاحة بالمجان لمن يريدها. هذا قطعاً لا يُعد خيانة أو تشويهاً للتراث بأي حال، ولكنه إضافة له، فأنت لن تستبدل بـ«الأبيض والأسود» الألوان، ولكنك ستضيف خياراً آخر. وهو ما حدث بطريقة أخرى مع مسرحية «سيدتي الجميلة» التي لعب بطولتها فؤاد المهندس وشويكار؛ أصبح لدينا نسخة ملونة، بأبطال جدد. لا خوف على المسرحية كما كتبها والد أيمن الكاتب الراحل بهجت قمر، ولا على رؤية المخرج الراحل حسن عبد السلام، فقط هناك زاوية جديدة بتقنيات فرضها العصر.
المسرحية في طريقها لكي تُعرض بنجومها الجدد في القاهرة بعد نجاحها في الرياض، هل تنجح أو تفشل؟ الإجابة يملكها الناس. سوف أذهب معك إلى أقصى احتمال، وهو الفشل، فما الذي سيحدث للنسخة الأصلية؟ لن يقترب منها أحد، ستظل باقية منذ لحظة ولادتها، قبل 53 عاماً.
كثيراً ما كانوا يسألون الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب: لماذا لا تعترض على المطربين الذين يعيدون تقديم أغانيك؟ وكان عبد الوهاب يرد: «إذا غنى المطرب الجديد أغنيتي أفضل مني فسوف أشكره؛ لأنه سيذكّر الناس بي، وإذا جاء غناؤها ليس على المستوى، فسأكرر له الشكر مضاعفاً؛ لأنه سيجعل الجمهور يقول مجدداً: (الله يا عُبد الورد)»، وهو اسم الدلع الذي ينعته به أصدقاؤه المقربون.
هذا هو فصل الختام في إعادة الأعمال القديمة، إلا أن «موسم الرياض» لا يقتصر فقط على القديم، هناك أيضاً الجديد بأصوات محمد عبده وعبد المجيد عبد الله وإليسا وهيفاء وروبي وعمرو دياب ونانسي عجرم وماجد المهندس وراغب علامة وأنغام، وغيرهم.
في مطلع هذا الشهر عشنا أحداث مهرجان «البحر الأحمر» في نسخته الثانية تحت قيادة المنتج السعودي محمد التركي. المايسترو الذي يقود فريق عمل من الخبراء السينمائيين حقق نجاحاً لافتاً، وبدأ التفكير في الدورة الثالثة مع نهاية الثانية. وفي توقيت موازٍ لذلك كانت السعودية تحتضن المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع في دورته الثانية تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين، ورأس اللجنة التنفيذية نزيه العثماني نائب الأمين العام لمؤسسة «موهبة» التي تتبنى هذا المشروع العالمي. رفع المؤتمر شعار «رحلة نحو المستقبل» تضم 100 موهوب من 30 دولة، ومنح الفرص لمجموعة من الشباب بأفكار خارج الصندوق، للبحث عن حلول عالمية تواجه البشرية.
هل هناك ما نُطلق عليه النجاح المُعدِي؟ نعم، هناك عدوى حميدة تستفز الآخرين لمزيد من النجاح، وتشعل بداخلهم كل عوامل التفوق الكامنة. وهذا ما ينطبق بالضبط على ما نراه أمامنا في المملكة العربية السعودية، وفقاً لنظرية «الأواني المستطرقة»، ليرتفع منسوب النجاح داخل السعودية، أجد أيضاً له تنويعات عربية خاصة في مصر. السجادة لم ولن تُسحب كما يردد البعض، ولكنها تمتد بين القاهرة والرياض. وهو ما يستحق مِنا إطلالة قادمة!