يدور في مصر جدل أو نقاش، أو حوار، حول تخصيص قناة السويس، أعجوبة الطرق المائية الصناعية في التاريخ. وقبل أن يتساءل الفريق المعارض عن الجدوى الاقتصادية للمسألة، يثير مسألة الرمز الوطني للقناة، التي هي هرم مائي يدر على البلاد دخلاً سائلاً ضخماً، يفوق بكثير ما يتأتى عن الرمز الأسطوري الآخر.
سقط في حَفر القناة ألوف العمال، وسقط في حربها ألوف الشهداء، وأُغلقت عدة سنين. وعندما وصل الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم كان أول مشروع قام به حفر قناة إضافية موازية. وقامت قيامة النوّاحين على الفور: «ما الحاجة إلى قناة أخرى؟ وما هذه الهواية المكلفة وهذا الترف الذي لا معنى له؟». وقبل أن تنتهي فرقة النواح من تعداد المثالب، كانت المكاسب تتدفق عبر القناة، والدخل يتضاعف، والدولة تفكّر في توسع جديد، يجعل من دنيا السويس نفط مصر الآخر، إلى جانب ما اكتُشف من نفط وغاز وسوائل أخرى.
عندما طرحت بريطانيا مصلحة الهاتف «بريتش تليكوم» على الخصخصة، قامت الدنيا. واتُّهمت مارغريت ثاتشر ببيع سيادة البلاد وأرزاقها. كانت الخصخصة يومها أمراً على الناس في كل العالم. واليوم هي أمر قديم. وبريطانيا مليئة بعمالقة شركات الهاتف في الداخل والخارج، ومنها «فودافون» في مصر نفسها.
لم يعد النظام «السيادي» القديم قادراً على استيعاب حجم الاقتصاد الجديد في العالم. الصين طبعاً، هي المثال الأكثر سطوعاً، حيث يتولى الحزب «الشيوعي» إدارة الأمن، وبالتالي حماية أعجب وأضخم نهضة مالية في التاريخ. شارل ديغول سبق الجميع إلى استبدال الاقتصاد المترهل وتقليص البيروقراطية. مصر اليوم في أزمة واضحة سببها المستجد الأوضاع العالمية والركود الذي يضرب الجميع، وسببها الدائم الخصب في زيادة الولادات الذي يخطف سلفاً كل زيادة في الإنتاج.
لذلك، ترفع الفائدة، ويهبط الجنيه، وتختفي أهمية المشاريع الكبرى في التحديث. وغابت أيضاً أهمية أفق جديد، هو خروج مصر الصناعية إلى أفريقيا، للقيام بالأعمال المقتصرة حتى الآن على الدول الكبرى، مثل السد الكبير في تنزانيا، الذي استغرق بناؤه 12 عاماً. طبعاً الناس كان يثير اهتمامها أكثر تصريح الفنانة غادة عبد الرازق أنها تزوجت 12 مرة؛ أي دستة كاملة من الرجال، أو الرجّالة!
مينا العريبي:عام سقوط المثاليات الغربية
هناك الكثير يمكن الكتابة عنه عند مراجعة أحداث عام 2022، حيث كان عاماً حافلاً بالتطورات والتقلبات، من حرب أوكرانيا وتداعياتها السياسية والاقتصادية، إلى استضافة شرم الشيخ لقمة المناخ «كوب 27»، واستضافة قطر بطولة كأس العالم التي قد تكون الأفضل في تاريخ المونديال. دخل لبنان في الفراغ الرئاسي، وتشكّلت حكومات جديدة في العراق والمملكة المتحدة والبرازيل وغيرها. رحلت شخصيات مؤثرة مثل رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ خليفة بن زايد وملكة بريطانيا إليزابيث الثانية. رافقت هذه الأحداث ظواهر عدة، مثل انهيار أسعار العملات الرقمية، وزيادة حالات التقلبات الجوية التي أدت إلى كوارث مثل فيضانات باكستان الصيف الماضي التي أدَّت إلى مقتل أكثر من 1730 ضحية. اللائحة تطول ولكن ربما من أبرز ظواهر عام 2022 ظهور المتناقضات بشكل بارز في الخطاب الغربي، وتبلور بعض أوجه العنصرية التي تؤثر على قرارات عدد من عواصم تلك الدول. ويمكن النظر إلى حدثين بارزين، حرب أوكرانيا في مستهل العام، وبطولة كأس العالم في قطر نهاية العام، لبلورة هذه الصورة.
منذ بدايتها في فبراير (شباط) الماضي، كانت حرب أوكرانيا فرصة لاصطفاف الغرب سوياً بعد سنوات من ضعف تحالف الشمال الأطلسي (الناتو) والخلافات التي شابت الانسحاب الأميركي من أفغانستان في أغسطس (آب) 2021. وبينما كان مسؤولون غربيون يتحدثون عن عزلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «الدولية» بسبب حربه على أوكرانيا، نجد في الواقع أنه لم يكن معزولاً دولياً بل كان معزولاً غربياً. وتتكرَّر حالة وصف أنه كان «غربياً» بأنه كان «دولياً» من قبل مسؤولين غربيين.
بينما تنص القوانين الدولية على عدم شرعية حمل السلاح لمن لا ينضم إلى جيش بلاده الرسمي، توجه الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى أوكرانيا لتشكيل ميليشيات غير رسمية بدعم من دولهم. وبينما ندَّد الرئيس الأميركي جو بايدن بـ«قيام دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بانتهاك سيادة دولة أخرى»، لم يتردد قبل عشرين عاماً في تأييد الحرب على العراق عام 2003. بل يتفاخر مسؤولون غربيون بدفاع الأوكرانيين عن وطنهم، وهذا حقهم، واعتبروا الفلسطينيين والعراقيين الذين رفعوا السلاح ضد دولة غازية أنهم إرهابيون.
وبعد أن كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية تطالبان باحترام حقوق كل الأفراد، وعدم التفرقة بين الناس بناء على إثنية أو دين، ظهرت هذه التفرقة عند الحديث عن حقوق الأوكرانيين، مقارنة بغيرهم من شعوب عانت من ويلات الحرب. أحد الصحافيين الأميركيين تحدث عن «لاجئين مثلنا، أعينهم زرقاء» في نشرة أخبار، معتبراً ذلك تبريراً للاهتمام بمصير الأوكرانيين أكثر من اللاجئين من دول أخرى.
وكان من اللافت أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية توقعت اصطفافاً دولياً بجانبهما كبادرة ولاء مع شن روسيا الحرب على أوكرانيا. إلا أن ذلك حدث بعد أشهر قليلة من تخلي الأميركيين عن أفغانستان. لم يفهم الساسة الأميركيون بعد انسحاب بلدهم من أفغانستان في أغسطس 2021، وترك الأفغان لمصيرهم على أيدي «حركة طالبان» جعل العالم كله يتساءل عن كل ادعاءات الولايات المتحدة بأنها تولي الأولوية القصوى لحقوق الإنسان.
أما العنصرية التي ظهرت خلال كأس العالم، فتعددت أشكالها، لكن الجرم كان واحداً. ربما كانت الحادثتان الأبرز عندما قارن صحافي دنماركي حبَّ أعضاء المنتخب المغربي لأمهاتهم بعائلة قردة متماسكة، أما الحادثة الثانية فكانت ردة الفعل السلبية للغاية لتكريم أمير قطر الشيخ تميم بن حمد للاعب الأرجنتين ليونيل ميسي بإهدائه البشت (العباءة العربية) عند فوز منتخبه بكأس العالم. بينما فرح اللاعب الأرجنتيني بهذه اللفتة، وذهب المشجعون الأرجنتينيون لشراء البشت أينما وجدوه في أسواق الدوحة، انشغل الإعلام البريطاني بانتقاد الخطوة على أنها «فرضت» على ميسي. على الرغم من كل التصريحات بأهمية «احترام الاختلافات» ظهرت تصريحات عنصرية على مدار أسابيع من انعقاد كأس العالم، ولم يعمل أي مسؤول غربي رفيع المستوى للحد منها.
ولا بد أن هناك جزءاً غير قليل من القراء سيتساءل قائلاً: «هل الآن حتى عرفتم حقيقة المثاليات الغربية؟» الواقع أن مبادئ مثل احترام حرية التعبير والاختيار والنقد الذاتي كلها مبادئ تلتزم بها المجتمعات الغربية وهي أساسية لبناء دول حديثة متقدمة. وبينما كانت لا شك هناك عنصرية في تلك المجتمعات، إلا أنه حتى وقت قريب كانت الغالبية تعمل على درء هذه الظاهرة، حتى وإن كانت تلك الجهود أقرب إلى الشعارات من التطبيق الفعلي.
وربما هذا التوقيت لسقوط المثاليات مناسب، إذ يغلق حقبة من التاريخ التي بدأت ببداية القرن الحالي ادعت فيها الدول الغربية أنها حامية الحقوق والمبادئ الإنسانية. بداية القرن الحادي العشرين كانت مضطربة فور وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001، وما تبع ذلك من «حرب على الإرهاب» واصطفاف عالمي إلى جانب الولايات المتحدة دفاعا عن حقها في الرد على «القاعدة» و«حركة طالبان» التي احتضنت التنظيم الإرهابي المتمثل بـ«القاعدة». وينتهي عام 2022 و«طالبان» تتولى السلطة في أفغانستان وتطبق نفس السياسات التي تبنتها قبل أكثر من 20 عاماً من قمع للنساء وكبت للحريات وفرض سياسات قمعية على جميع أطياف المجتمع.
ينتهي هذا العام و«صدام الحضارات» هو صدام بحلة جديدة، بين الغرب الذي يريد أن يفرض ما يعتبره «مبادئ» على باقي العالم، وبين غالبية الدول الأخرى مثل الصين والهند وماليزيا وبعض دول أميركا اللاتينية وأفريقيا ودول عربية التي ترفض ذلك.
عام 2022 شهد تراجع «المثاليات الغربية»، والتعبير عن ظواهر عنصرية شديدة الوضوح وسط انقسامات دولية من غير المتوقع أن تلتئم في المستقبل المنظور.