دان براون – إمبرتو إيكو – جيمس ألروي……..
تعمل نظريات المؤامرة كشبكة بسيطة لتحليل واقع معقّد، أي أنها تقدِّم تفسيراً في خضمّ حالة من عدم اليقين وهي تجذب أكثر من غيرها؛ لأنها تساعد على إيجاد معنى في عالم مُربك وفوضوي، أو كما كتب توكفيل في «الديمقراطية في أميركا»: «فكرة خاطئة لكن واضحة ودقيقة ستكون أكثر قوة في العالم من فكرة صحيحة لكن معقدة…». ولأنها عمل خياليّ يفترض وجود جماعات سريّة تحرّك الخيوط من وراء الكواليس وأشرار يخطّطون للسّيطرة على العالم في غرف مظلمة يملؤها الدخان، فإن الأطروحات التآمرية هي أيضاً مصدر إلهام لروايات وإنتاجات أدبية تهدف إلى تعليل أحداث أو إضفاء معنى عليها، بإدراجها ضمن مؤامرة عالمية واسعة النّطاق حتى لا تبقى تلك الأحداث وليدة الصّدفة وبلا معنى. الجدل يتمركز حول تأثير المعلوماتية الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي والعوامل النفسية والاجتماعية والثقافية في استفحال هذه النظريات، لكن قلّة قليلة من البحوث تتناول المرجعيات الأدبية التي شجعت ظهور هذا الفكر غير العقلاني، رغم أن الأدب «التآمري»، إذا صّح التعبير، موجود في الرواية البوليسية ورواية الخيال السياسي والتاريخي، وهو يلاقي في الآونة الأخيرة رواجاً شعبياً وتجارياً منقطع النظير.
كتب أخيراً الباحث بيتر نايت، أستاذ الأدب في جامعة مانشستر ومؤلف كتاب «كونسبيراسي كولتور أو ثقافة التآمر»، في جريدة «لوموند» الفرنسية مقالاً بعنوان: «كثير من نظريات التآمر ولدت في الخيال» يقول فيه ما يلي: «على الرغم من أن الأدب كان مهتماً منذ زمن بعيد بموضوع المؤامرة والجمعيات السّرية فإنه وجب انتظار القرن التاسع عشر لتصبح المؤامرة عنصراً مركزياً في العقدة الروائيّة مع ظهور ما يسمى بـ(رواية المجتمعات السرية) في ألمانيا أو «غيهايم برد رومان».
في الوقت نفسه، كان بعض الكتاب البريطانيين مفتونين بشبح الجمعيات السّرية الماسونية، والتآمر الإيطالي والآيرلندي ضد الحكومة، ومع منعطف القرن العشرين بدأت الرواية البوليسية ورواية الإثارة (تريلر) تكتسبان الشهرة والاعتراف حين اعتمدتا على المؤامرة كحبكة روائية مع آلان إدغار بو وهنري جيمس المولعين بالقصّص القصيرة المحفوفة بالألغاز التي لا حلّ لها…».
ألكسي بروكا الكاتب والصحافي في المجلة الأدبية «ماغازين ليتيرير» ذهب لأبعد من ذلك حين تحدث على أمواج إذاعة «فرانس كولتور» في برنامج بعنوان «نظريات التآمر في الأدب» عن «مكتبة البارانويا» التي تضم في رفوفها إصدارات مبدعين مصابين بما يسميه بـ«البارانويا الخلاقّة» أو «ذهان الملاحقة الخلّاق»، حيث يعمد هؤلاء إلى ابتداع حكايات يشعر فيها البطل (الذي غالباً ما يكون رجلاً أبيض) أنّ حريته وهويّته – وحتى سلامته الجسدية – مهدَّدة بالوقوع تحت سيطرة قوى غامضة. ولتفسير ما يحدث تُقدّم نظرية المؤامرة كوسيلة لفهم الأنظمة المبهمة والأحداث الغامضة التي لم تعد فيها المؤامرة أجنبية تهدف إلى التسلّل إلى الأمّة، بل تهديداً يأتي من الداخل وهو أكثر غموضاً ومكراً»… يضيف الكاتب الفرنسي بأن اسم الروائي هوارد فيليبس لوف كرافت قد يوضع على رأس قائمة كُتّاب «التآمر»، فطيلة حياته ألّف لنا هذا الأخير أعمالاً تشرح بأن العالم ليس كما نظن، وبأن كائنات غريبة هي في الواقع التي تحكم، ورغم أن الكاتب لم يكن هو نفسه يؤمن بهذه الأطروحات التآمرية فإن التأثير على القراء كان قوياً ولا سيما الشباب…». أعمال الروائي هوارد فيليبس لوف كرافت اقتبست بشكل واسع في السنيما والتلفزيون، ولاقت نجاحاً كبيراً ولا سيما قصّص المخلوقات الزاحفة الذكية التي تتحكم سراً في مصائر البشرية من خلال أخذ مكان شخصيات مهمة في السياسة والأعمال، مثل هذه الروايات تركت أثرها وتسبّبت في ظهور إشاعات غريبة، كتلك التي استهدفت رئيس الوزراء النيوزيلندي السابق جون كاي الذي اضطر للظهور في وسائل الإعلام عام 2014 لنفي إشاعات سخيفة تدعي بأنه «حيوان زاحف» قادم من الفضاء، فأعلن بلهجة ساخرة أمام الكاميرات: «زرت الطبيب والبيطري، وكلاهما أكد لي أني لست زاحفاً… وأنا هنا لأعلن بأني لم أزر يوماً مركبة فضائية وليس لي أي زّي أخضر»، وبينما كان لوف كروفت يستعمل عنصر المؤامرة لإضفاء طابع الإثارة على حبكاته الروائية كان مواطنه الأميركي دان براون يؤمن بكل النظريات التآمرية الواردة في كتاباته، بل يسعى جاهداً إلى الترويج لها. فهو الذي كتب في مقدمة روايته «شفرة دافنشي» أن كل ما كتب في الرواية موثق ومستوحى من أحداث واقعية، رغم أن كثيراً من الأساتذة والباحثين أثبتوا بالدليل القاطع عكس ذلك تماماً.
وفي عمله الأخير قبل رحيله عام 2016 «العدد صفر» اقترح إمبرتو إيكو الروائي الشهير وصاحب الرواية المعروفة «اسم الوردة» كتابة جديدة للتاريخ، حيث عرض على لسان شخصية رومانو الصحافي حقيقة أخرى بخصوص الزعيم الفاشي موسوليني، حيث لم يكن هو الذي أعدم في 28 أبريل (نيسان) 1945، بل كان شبيهه! لماذا رفض الدوتشي مقابلة عائلته في كومو؟ لأنها كانت ستلاحظ الخداع. لماذا أرادت بيتاتشي، عشيقة الديكتاتور، أن تموت مع موسوليني المزيف؟ لإنقاذ الحقيقي، تم تسليم الشخص الأصلي إلى رئيس أساقفة ميلانو، ومثل الفاشيين الآخرين، تم شحنه إلى الأرجنتين بمساعدة الفاتيكان، حيث حظي بحماية الغرفة الماسونية بي 2 (الموجودة فعلاً في الواقع)، والتي حاولت إعادته إلى السلطة عام 1970. كل هذه النظريات يشرحها إمبرتو إيكو على مدى عشرين صفحة، وبصرامة تعطي انطباعاً بأن الكاتب هو نفسه مقتنع بغموض التاريخ.
في رفوف مكتبة «التآمر» نجد أيضاً الروائي جيمس ألروي صاحب الرواية الشهيرة «الداليا السوداء»، وهو مع دون دوليلو أهم الكتاب الأميركيين الذين تناولوا في أعمالهم حادثة اغتيال الرئيس جون كينيدي. ألروي عرض نظريته التآمرية في رواية الخيال السياسي «أميركان تابليود»، رابطاً فيها اغتيال الرئيس جون كينيدي بالحكومة الكوبية وجهاز المخابرات الأميركي، مضيفاً إلى العقدة عصابات المافيا والممثلة مارلين مونرو. وكل أحداث روايات جيمس ألروي تقع على خلفية مؤامرات سياسية خبيثة تنتهي بنهايات غامضة وغير مؤكّدة تجعل القارئ يتساءل عمّا إذا كانت الخيوط التي يتقفّى أثرها مجرّد خُدَع أو تمويهات.
الملاحظ أن بعض هؤلاء الكتاب حقّقوا عودة مميزة في الفترة الأخيرة رغم أن إنتاجاتهم الأدبية قد صدرت منذ عقود. تقارير صحافية كثيرة كشفت بأن رواية جورج أورويل «1984» التي ترسم صورة عالم شمولي مبني على شيوع ثقافة المراقبة، وهدم كل أشكال الثقة التي قد تتشكل بين الأفراد، قد عادت بقوة إلى رفوف المكتبات العالمية، وعرفت رواجاً كبيراً بعد أكثر من سبعين عاماً على صدورها، وبالأخّص بعد وصول الرئيس الأميركي ترمب إلى الحكم، حيث كانت من أكثر الروايات مبيعاً على منصّة «أمازون» في الولايات المتحدة وروسيا. وفي فرنسا كشفت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية أن رواية أورويل «1984» كانت من أكثر الكلمات بحثاً في محرك البحث «غوغل»، وقد اقترن اسم هذه الرواية الديستوبية بجائحة «كورونا»، حيث إن هاشتاغ «كوفيد» كان الأكثر تداولاً في تلك الفترة، لدرجة أن الرواية عرفت حياة ثانية، بل أصبحت رمز مقاومة لكل أنصار الأطروحات التآمرية الذين روجوا بشكل واسع لفكرة مفادها أن الوباء أكذوبة كبيرة صُممت لإلهاء الشعوب.
الباحث بيتر نايت، أستاذ الأدب في جامعة مانشستر، ذهب لأبعد من ذلك حين ربط بين الأطروحات التآمرية التي تعرضها هذه النوعية من الأعمال وتبعات خطيرة وغير منتظرة في الواقع المعيش، حيث يبدو حادث الاستيلاء على مبنى الكونغرس الأميركي (الكابيتول) في واشنطن في 6 يناير (كانون الثاني) 2021، وكأنّه محاكاةٌ لـ«دفاتر تيرنر»، وهي رواية صادرة عام 1978، تغوص في عالم المؤامرة، وتتخيّل انتفاضة مروّعة يقوم بها العنصريّون المنادون بتفوّق البيض. الرواية من تأليف ويليام لوثر بيرس، وهو كاتب وباحث معروف بانتماءاته العنصرية الموالية لحركة «وايث باور» النازية. وقد كان لهذه الرّواية المناهضة للحكومة تأثيرها على تيموثي ماكفاي، الذي فجّر في عام 1995 مبنى فيدرالياً في أوكلاهوما سيتي، أسفر عن مقتل 168 شخصاً.
أخبار ذات صلة
ثمار غادة نور الدين
لا تتمّ التحوّلات الحاسمة في حياتنا عن تصميم أو تدبير مسبق، وإذا جرت بهذه الصورة يكون مصيرها متأرجحاً بين النجاح والفشل. الإزاحة الحقيقيّة في مصير المرء يقرّرها القدر، أي مجمع الآلهة بتعبير شعراء العالم القديم. وهكذا استيقظت هالة نور الدين ذات يوم وهي في عمر الشباب الثاني ـ المرأة لا تمرّ بعمر الكهولة، فهل سمعتم يوماً بامرأة كهلة، ولك أن تعدّ أرقام يفاعة الأنثى حتى الاثنتي عشرة ـ لفت نظر غادة في تلك الصبيحة أمر لم تنتبه له سابقاً، وهو البهجة في الحياة، تكون في أعلى مراتبها في الثمار، وكانت تعيش معها في حديقة بيتهم بـ«كفر رمان» في لبنان زمانَ الطفولة والصبا. اختفت الحديقة، وهاجرت غادة نور الدين. وفي تلك الصبيحة كانت الأجواء هادئة ولطيفة في شقتها الأميركية، يستطيع المرء أن يرى ذرّات الراحة والدَّعة في ضوء الشمس. ومع هذا كانت الكآبة تشتدّ، تطأ بأقدامها الثقيلة الروح والبدن والعينين كذلك. أغمضت غادة عينيها، وواتتْها رغبة أن تضيع في حقل من البهجة اللمّاعة تشبه ما في لوحات «فان غوخ» وهو يرسم حقل قمح أو زهرة عبّاد الشمس. ثمة حياة نراها عند إغماض العينين، فالبصر مثل السمع، بما أن هناك أصواتاً فوق صوتيّة لا تدركها أذن الإنسان، لا بدّ أن نرى عند العمى ما لا نميّزه بوضوح والعين تنظر. تذكّرت غادة قصّة قرأتها عن امرأة تفقد بصرها منذ الطفولة، ثم تُجرى لها عملية جراحية لمّا تقدّم بها العمر، ويتمكّن الأطباء من شفائها من العاهة، وها هي تجرّب النور أوّلَ مرة. كانت الصحافة حاضرة والتلفزيون والأطباء والممرضون، بالإضافة إلى الأهل والأصدقاء والأقارب. وفي لقطة مسرحيّة أزالوا الضماد عن عينيها، وتغلغلت ذرّات الضوء أولاً في البؤبؤين، ثم شاهدت صورةً غائمة أولاً وواضحة بعد هُنيهة. وعندما تأكّد لديها أنها فقدت نعمة البصر الأولى، وأمام دهشة الجميع، طلبت المرأة الكفيفة من الطبيب إعادة الغَمامة إلى مكانها، وعادت بذلك إلى الجنّة التي كانت تمتلكها، وأفقدها طبيب العيون، وهي إرسال النظر الأكيد والواثق إلى ما لا يُرى. القصّة غير واقعيّة ومبالَغ فيها، وسخرت غادة نور الدين من مؤلّفها حين قرأتها، لكن الرسالة قد أبلغها الطيرُ اللحظةَ. علينا أن نغمض أعيننا عن الحياة التي تدور من حولنا عدداً لا بأس به من السنين كي نكتشفها. وبهذه الطريقة اكتشفت الفنانة ثمار حديقة بيت الأسرة في «كفر رمان». الصورة التي نراها تحمل فكرة تظلّ تنمو في قلبنا بمرور السنين، كأن الأشياء من حولنا ثمار تنضج شيئاً فشيئاً، وببطء يستغرق عشرات السنين، من أجل أن تكتمل الصورة وترسخ في العين، كي نراها ونحن ننزل ستارة الجفنين عن البصر. وهذا القانون يصحّ لدينا، ساكني بيت الأدب، فلا نستطيع الكتابة عن موضوع طالما هو حيّ في دمائنا، وينتظر الواحد منّا فوات الزمن الذي تستغرقه الفكرة كي تنشف تماماً من مجرى العروق، ثم تستقرّ في اللحم، وبعد مكابدة طويلة ترسب بين خلايا عظامنا، وتنتظم، ثم تصير الأفكار كلماتٍ صلبةً تحتكّ مع بعضها، وتقدح، وهذه إشارة بدء ساعة التنزيل. بخلاف ذلك تكون التجربة فرديّة، وشخصيّة، ولا تهمّ أحداً غير مُدبِّجِها، مثل خواطر التلاميذ في عمر المراهقة. بهذه الطريقة بدأت غادة نور الدين مشروعها الفنّي، والانفعال الذي تمنحنا لوحاتها يشتمل، بالإضافة إلى المتعة الجماليّة، شيئاً من الصبغة الدينية وشيئاً من الشعر، للجلالة السارّة التي تظهر فيها والغنائيّة المُسكِرة التي تبلغ المشاهد. إنها ترسم العجب الذي لا حدود له في التفّاحة والليمونة والتينة المفلوعة إلى نصفين، وبعد أن تنتهي من اللوحة تعلّقها في بيتها، أو تُهديها إلى الأصدقاء، وتنشر نتاجها على صفحتها في «فيسبوك»، ولا شيء أكثر من ذلك. لم تقم معرضاً، ولم تذهب إلى الصحافة والنقاد، ولم يسمع بها أحد من تجّار الفنّ وسماسرته ومزوّريه. هل نقول إنها ترسم لنفسها وللأقربين؟ عندما يبلغُنا الإغراء القديم والفاتن للحياة تصير السعادة القديمة سعادة جديدة، وهذه رسالة الفنّ في كلّ زمان.
تفّاحة غادة حمراء بلون نار الحطب، رسمتها قبل نشرة الأخبار العالميّة ونشرة الطقس في آخر الليل، واحترق اللون الأخضر في أثناء الرسم وصار أصفر وأبيض ليس كمثل بياضه شيء. ثم فتحت عينيها وشاهدت ما صنعت يداها في الظلمة، وكانت الريح تزمجر في الخارج، والثلج يسّاقط نُدَفاً في نوافذ الشقّة ببلد المهجر. كانت في الغرفة رائحة التفاحة ورائحة البيت ورائحة أبيها. بل إن رائحة التفاحة راحت تطرقُ السكون الثلجيّ في الخارج، وألوانها تصعد في لهب النار.
في الأيام التالية، استطاعت الفنّانة أن تبلغ حِكمة مفادها أن الأشياء من حولنا تكون مثيرة للحواسّ عندما تلفّها حالة البهجة من جميع أركانها، وعادت إلى لوحتها التي تحسب أنها أنجزتها، ومرّت عليها بالفرشاة الناشفة. التفاحة التي نراها في لوحة غادة بعد هذا التعديل الأخير، في كينونتها السامية لا تقع عليها عين السنجاب أو الحمار أو الطير. ثمة وشوشة تأتي من خلف النوافذ. إنها الريح، تهبّ الآن من حدائق بيوت «كفر رمان»، من تراب ورودها ومن أعشاش الطيور، وهي تطرق النافذة راغبة في الدخول كي تدفّئ نفسها.
التجربة الفنّية الجديدة تكاد تكون جنوناً حقيقيّاً يقضي على صاحبه عند أول فرصة سانحة، وهكذا انتحر «فان غوخ» و«مودلياني» وضاع «غوغان» بين أكواخ تاهيتي، وأعمال «بيكاسو» ما هي إلّا تعبير عن جنون شديد لا تخفّفه ذرّة عقل راشد. النساء بصورة عامة، حتى ربّات البيوت منهنّ، لا «يفكّرن»، وإنما يبقينَ داخل أعمالهن التي يغلب عليها طابع الفنّ، في نطاق ما يمكن بلوغه. ولأنهن مجبولات على عادة الخلق منذ أمّنا حوّاء، يزداد الهوس الذي يمكن أن ندعوه بالإيجابي لدى الفنانات العاشقات لعملهنّ، ويغدو الإبداع لديهنّ نزوعاً دهرياً لا ينثلم ولا ينقطع مهما كانت الظروف.
ليمونات غادة مرسومة بلون أصفر طريّ وجديد وفخم، ويترك أثراً جميلاً في النفس واحتفالياً كذلك، تُباهي الشجرة أوراقها الخضراء به، وتبدو الليمونة في الطبيعة جافّة وفارغة إذا قُورنت بثمرة غادة. نور داخليّ وهّاج يشعّ من اللوحة، ومعبّر عنه بهدوء وبساطة، وغرض الفنّانة من وراء ذلك هو أن تبذل فاكهتها إلى جميع البشر، خصوصاً الفقراء الذين ينظرون إلى الحاجات بعينهم لأن لا قدرة لديهم لشرائها. اللوحة ليست طعاماً بالطبع، لكنها وعدٌ به، حتى لو تأخّر موعدُ تحقيقه إلى الدنيا الآخرة. ويبلغنا الشعور الديني نفسه ونحن نتأمل ثمار «سيزان» وأزهار «فان غوخ»، إذ تقدّم الزهرة والثمرة روحها وجسمها ودمها إلى من يشاهدها ولا يمتلك ثمن شرائها من السوق، وتبذل له كلّ شيء بنفس درجة اللون والروح الخبيئة. لكنّ المفارقة تكمن في واقع أن الأغنياء هم من يقتنون هذه التحف الفنّية، بينما يُحرم الفقراء منها، وهي في الأصل رُسمتْ لهم.
حقيقة أخرى ينبغي قولها، وهي أن لوحات غادة نور الدين سوف يكون لها دور، في حال انتشارها، في تثبيت الاعتقاد لدى المتديّنين، وزرعه لدى غيرهم، بأن وعد الجنّة قائم لا ريب فيه، وهذا دليل لا يُدحض على وجود الله ومشيئته.
أتون. أتون! هذه المفردة تلخّص ما أريد قوله عن لوحة التينة المفلوقة. كما لو أن الثمرة شُقّت بسكّين. ثمة وقت في هذه اللحظات كانت السماء مستعدّة كي يسقط المطر. لكنّ غراباً كان يحوم في الأعالي، ولا يبين في اللوحة، يهدّد الجميع بهلاك محتوم، أو بالنوم مشرّدين، واقفين تقريباً. نرود الشوارع وجميعنا كنا خائفين من أن نتنفّس، ونتوسّل في أعماقنا بالآلهة أن ترحمنا، ولا أحد منّا يظهر في اللوحة.