أدب الوباء كان موجوداً دائماً، لأن الأوبئة كانت موجودة دائماً أيضاً. ما يميز أدب الوباء، الطاعون، والجائحة هو الالتزام باكتشاف إن لم يكن نوعاً من التفسير فإنه نوع من المعنى المستخرج من التجربة الحية للذعر، الرعب، واليأس. السرد محاولة لإبعاد اللامعنى، وفي الفراغ الذي يحدثه الوباء، يضطلع الأدب بالسعي لإيقاف النزيف، مهما كان ذلك السعي يائساً. إن من المنطقي أن يكون العمل الأدبي الأكثر شهرة الذي أفرزه الوباء هو «الديكاميرون» (1353) لجيوفاني بوكاتشيو، بحكايته الإطارية المثيرة التي تتضمن 100 قصة جنسية داعرة وصاخبة ترويها سبع نساء وثلاثة رجال على مدى 10 أيام بينما هم معزولون في فيلاّ توسكانية خارج فلورنسا. وبينما يفتك الوباء بشمال إيطاليا يسلي شخوص بوكاتشيو أنفسهم بالحكايات المضحكة الفاضحة، ولكن الهدف المقلق لتلك النساء والرجال الذين عزلوا أنفسهم ضمن جدران مسقوفة هو أن «لكل شخص ولد في هذا العالم حقاً طبيعياً في الإبقاء والحفاظ والدفاع عن» حياته، بالقدر الذي يجعل القص مسكّناً ذاتياً يصم الآذان عن عويل أولئك الذين يموتون على الجانب الآخر من الجدران الحجرية المغطاة بأشجار اللبلاب.
إن وجود أدب الوباء ليس مقصوراً على تحليل الأسباب التي أدت إلى ذلك الوباء – قد لا يكون ذلك حتى هدفاً رئيساً من أهدافه. رواية القصص هي في حقيقة الأمر وسيلة للتذكير بأن العقل لا يزال موجوداً في مكان ما، أنه إن غاب المعنى خارج منطقة العزل، فإن ثمة معنى على الأقل داخل الحكايات المخترعة. الأدب عملية إصلاح تواجه ما يمثله المرض – وهو أن العالم ليس لنا. حسب ما يقول الراوي في رواية «الطاعون» لألبير كامي بينما يعيث المرض تدميراً في مدينة وهران في الجزائر الفرنسية، هناك «عنصر تجريدي ولا واقعي في المصيبة. لكن حين يبدأ التجريد بقتلك، فعليك أن تشتغل عليه». في مواجهة غرابة علم الأمراض، اعتباطية الإصابة، فوضوية المرض، علينا أن نواجه الواقع الذي يقول إننا لسنا سادة هذا العالم. لقد بدا أننا صرنا سادة للطبيعة إلى الحد الذي أدى بنا إلى تغيير المناخ نفسه، وأطلق الجيولوجيون على حقبتنا اسم حقبة الإنسانية، ومع ذلك يأتي فيروس بارد، ليمتلك من القوة ما يفوق جيشاً. المرض ليس مجازاً، أو رمزاً، أو حكاية رمزية، إنه ببساطة ذلك الذي يقتلك دون اعتبار. القصة محاولة لصنع ذلك الاعتبار الذي تتجاهله الطبيعة.
إن ضرورة الأدب في أعقاب الوباء تتضح على نحو مؤثر في رواية إيميلي سانت جون مانديل «المحطة الحادية عشرة». معظم أحداث الرواية تقع بعد بضع سنوات من تسبب «الإنفلونزا الجورجية» بقتل عدد ضخم من البشر على الأرض، وبعد انهيار الحضارة. تتتبع الرواية فرقة من الممثلين الشكسبيريين أثناء ترحالهم في عربات عبر منطقة البحيرات الكبرى المشوهة على جانبي الحدود الأميركية – الكندية. تقول مانديل: «تحسرنا على لا مبالاة العالم الحديث، لكن تلك كانت كذبة». «المحطة الحادية عشرة» رسالة حب بمعنى ما موجهة إلى عالم مفقود، أي العالم الذي يعيش فيه القارئ (حالياً). تقول إن وجودنا «لم يكن يوماً لا مبالياً أبداً»، والرواية تقدم ابتهالات مؤثرة حول كل ذلك الذي ضاع في رؤيا السرد، من المسابح بما فيها من كلور إلى حماقة الإنترنت. ثمة حب رقيق لكل وجه من وجوه عالمنا الغبي، ولذا فإن التفسير الوحيد لحدوث الأزمة يعود إلى حقيقة أننا كنا مترابطين بقوة: «كانت هناك دائماً بنية أساسية ضخمة وهشة من الناس، كلهم يعملون حولنا دون أن يلاحظهم أحد، وحين يتوقف الناس عن الذهاب إلى العمل فإن العملية تتوقف كلياً». وبينما يجاهد الباقون لإعادة البناء، فإن وظيفة السرد أن يوفر المعنى في الفراغ الذي تركه المرض، أو كما يقول الشعار المرسوم على عربة القافلة المسافرة: «البقاء لا يكفي». الحاجة إلى رواية الحكايات، إلى استعمال السرد لإثبات استمرار ماض محاه المرض، هو الهاجس الذي يحرك أستاذ اللغة الإنجليزية جيمس سميث، الشخصية الرئيسة في رواية جاك لندن ما بعد الرؤيوية والمنسية إلى حد بعيد «الوباء الوردي» (1912). يتخيل لندن، بظلال مستمدة من إدغار ألن بو، تفشي حمى نزيفية عام 2013 اسمها «الموت الأحمر». سريع العدوى والانتشار وقاتل، إنه مرض يقضي على معظم سكان العالم إلى حد أنه بعد ستة عقود من اكتشاف الوباء لا يستطيع سميث أن يصدق أن ما يتذكره عن حضارة كانت ذات يوم متطورة ليس مجرد وهم. ومع ذلك فإن المعلم السابق مضطر إلى إخبار أحفاده عن عالم سبق الموت الأحمر، حتى وإن بدا له أحياناً أن تلك مجرد أكاذيب. يقول لندن: «الأنظمة المتوارية تنهار مثل الرغوة. نعم – رغوة ومتوارية. كل كدح الإنسان على الكوكب كان مجرد رغوة».
ينتهي «الوباء الأحمر» في عام بعيد هو 2073، العام نفسه الذي تدور فيه أحداث رواية ماري شيلي «الإنسان الأخير» (1826) التي كانت رائدة لرواية الوباء. تلك الرواية، المنسية غالباً والأقل شهرة من رواية شيلي الأخرى «فرانكنشتاين»، تحقق فتحاً مشابهاً. مثل «المحطة الحادية عشرة»، هنا يتركز الاهتمام على الحكاية والطبيعة النصوصية للرواية؛ حين يذكر الإنسان الأخير أنه «اختار كتباً قليلة؛ الرئيسي من بينها هوميروس وشكسبير – ولكن مكتبات العالم مفتوحة لي»، ثمة إحساس بأنه حتى في نهائية موقفه لا تزال هناك طريقة يمكن للكلمات أن تحدد واقعنا، مهما كانت ضعيفة الآن. تخترع شيلي، بعدم الارتياح إزاء فكرة التخييل التي تسم روايات القرن التاسع عشر غالباً، خدعة مفادها أن ما تقرؤه مستنسخ من مخطوطة تحتوي على نبوآت قديمة اكتشفتها الكاتبة نفسها، بينما كانت تستكشف كهوفاً خارج نابولي احتوت ذات يوم معبد الكاهنات كيوماي.
شخصيتها الرئيسية شخصية ذكورية هي قناع لها، رجل أرستوقراطي اسمه لايونيل فيرني تمتد حياته من ظهور الوباء الكوني عام 2073 حتى بداية القرن الثاني والعشرين، حين يكتسب لقبه الظاهر في عنوان الرواية: «الإنسان الأخير». كل شخصيات شيلي تمثل أصدقاءها، أعلام العصر الرومانتيكي الغارب بسرعة، ابتداء بلورد بايرون الذي يتحول إلى لورد راندولف، وهو قائد متحمس وإن كان فاشلاً لإنجلترا بإفشاله ردة فعل بلاده تجاه الوباء، امتداداً إلى زوجها بيرسي الذي يصبح أدريان، ابن ملك سابق اختار مناصرة النظام الجمهوري. بحلول الوقت الذي يبدأ فيه فيرني رحلته المقدسة وحيداً عبر عالم مقفر، مصحوباً بأشباح هوميروس وشكسبير وكلب حراسة ألزاسي يتخذه صاحباً، نجده ما يزال يتحدث بضمير المتكلم الأول مخاطباً جمهوراً لا وجود له. «هكذا حول شواطئ أرض مهجورة، والشمس ما تزال مرتفعة، والقمر يخفت ضوؤه، والملائكة، وأرواح الموتى، والعين المفتوحة أبداً للعظيم، سيرون (الإنسان الأخير)». هكذا، في عالم خالٍ من البشر، يصبح فيرني الكتاب ويصير العالم الهامد القارئ.
استعمال ضمير المتكلم الأول لسرد «الإنسان الأخير»، الموجه ظاهرياً إلى عالم من الناس الغائبين الذين ما يزالون قادرين على قراءته فعلياً، ينقض سبباً أعمق لوجود اللغة من أن تكون لمجرد التواصل – بناء عالم على الأنقاض، لكي يكون شاهداً، حتى وإن كان معزولاً. ليس من الضروري أن تكون اللغة للآخرين؛ يكفي أن تكون لنا نحن. وهكذا يصبح الأدب تأكيداً؛ أكثر من أن يكون تمرداً، وسيلة للقول من خلال الوباء أننا وُجدنا ذات يوم، وأن الميكروب والبكتيريا لا تستطيع أن تلغي أصواتنا، حتى وإن ذبلت الأجساد.
* (هذه ترجمة لجزء من مقالة نشرت في صحيفة «ذا مليونز» الإلكترونية بدت مناسبة للظروف التي يمر بها العالم اليوم)
محاكاة الوباء سردياً
تهيمن سردية الوباء وتحلل الأفكار والقيمة والمعنى على أجواء المجموعة القصصية «مستعمرة الجذام» للروائي فتحي إمبابي، الصادرة حديثاً عن دار «ابن رشد» بالقاهرة، وتبدو وكأنها محاكاة تهكمية لتداعيات الوباء، مختزلة عبر قصصها الخمس تحولات واقع أصبح مشوهاً ومضطرباً ومخيفاً، لا جدوى فيه للصعود والهبوط بكل دلالتهما الطبقية والنفسية، سوى إحساس ممض بانعدام الأمل والطمأنينة… وقائع وأحداث بعضها واقعي حتى النخاع، يكاد يكون توثيقاً لتجارب خاضها البطل السارد الرئيسي، وأخرى تشارف تخوم الفانتازيا والأسطورة والواقع الافتراضي، مسكونة بروح من العبث والتهكم والسخرية، إنه زمن المسخ، مسخ كل شيء، الكائنات والأحلام والشعارات والنضال والثورات، بينما ينحصر صراع الإنسان وسط كل هذا في مجرد الحافظ على كينونته، وإحساسه بأنه ينتمي لجنس البشر. ومن ثم لا تقتصر رمزية الجذام، هذا الوباء الفتاك، على سكان البرك والمستنقعات الذين تحولوا تحت وطأة المرض إلى زواحف وقوارض، بل تمتد هذه الرمزية إلى سكان الأطراف من الطبقة العليا، المحيطين بحواشي الحكم والسلطة، وسط إحساس بالخوف والهلع يطارد الجميع، بينما تبرز الغرابة المقلقة، وكأنها قانون اللعبة، حيث يتسابق أبطالها في صناعتها وتدويرها لتصبح على مقاسه فقط، وطوع مصالحه ونزواته.
في القصة الأولى «الرجال الطبيعيون» يحدد صراع السطح والأعماق طبيعة الشخوص ونظرتهم للمستقبل وواقع الحياة من حولهم، وسط أجواء تتحول إلى كابوس بين أشخاص طبيعيين ممتلئين بذواتهم وأدوارهم، وآخرين متسلقين يبحثون عن دور، وعبثاً تحاول الذات الساردة فيما يشبه النجوى الداخلية الشجية أن تزيح عن كاهلها ظلال هذا الكابوس، فلا يبقى أمامها سوى السخرية منه، كقناع للتكيف والإذعان، يقول السارد الكاتب بعين الراوي العليم (ص 6): «لعنه الله على الذين ملأوا عقولنا بالآلهة الأبطال. وصراع الطبقات والأخلاق المستقيمة، وتلك الأساطير المسماة بالوطن والشعب، والطبقات الكادحة… الآن يتخبط الجميع هرباً من ذلك الانحدار الدامي وطلباً للصعود. الآن لا ألتقي سوى بالنوع الجديد من الرجال الصاعدين، ونحن لا نزال نتمسك بما يثقلنا عن الصعود لضوء شمس جديدة… إذ قيل لنا إن الشمس التي أمدتنا بالضوء لم تكن سوى شمس كاذبة..
ويستطرد الراوي، متسائلاً:
كيف يمكن؟
منذ أن بدأ هذا السؤال يطرق عقلي، وأنا أحث الجميع على التكيف مع الشمس الجديدة. الوحيد الذي كان متمسكاً بشمس الزيف هو أنا، ربما عن عجز، ربما أن هناك مثلي آخرين لا أعرفهم، وإذا ما التقيت بأحدهم، فسرعان ما تدفعه بعيداً قوة جذب قاهرة..»… لكن، من يملك الحقيقة بالضبط، ومن يصنع الوهم بها أو يتاجر بالاثنين معاً، ثم من يملك الإزاحة عما كان إلى ما سيكون، من يملك صناعة المستقبل، إنهم «الرجال الطبيعيون هم القادرون على أن ينشدوا الحياة من المستنقعات على جثث الضعفاء حين تغرق السفن» وهم أيضاً «الذين يستطيعون أن ينشدوا الحياة حتى لو كان الفساد طريقهم… أما أولئك الذين يقضون حياتهم في سبيل الغير فهم المنكوبون بالبلاد، المباعون في أسواق الوهم والنخاسة، المنسحبون من حلبات الصراع، كي يقل أعداد الناجين في حلبة الحياة، لتعظيم الفائدة… فماذا أبقي عليَّ… في دار الموت هذه… لست أعرف بالضبط».
هذا الشكل المدمر لقدرة الذات، لا يتمثل فقط في عجزها عن الانسحاب من الحياة، التي تحولت في زمن المسخ إلى دار للموت، وإنما يمتد إلى عجزها عن التساؤل والمراجعة. وكمحاولة للفكاك من هذا الكابوس، تطل فكرة القفز خارج المكان، لاستحضار الشبيه أو القرين أو الضد للمكان نفسه، وإضفاء مسحة من المصداقية على أجوائه الواقعية والمتخيلة، كما توسع من رقعة المشهد وسياقه المؤطر في نسيج السرد، ليشتبك مع حالات إنسانية أكثر اتساعاً وتعقيداً، تمنحه صفة الدوام والتناسل في دائرة من المقارنة الضمنية الشفيفة.
هكذا يبدو الحال في قصة «عزيزي تيمور… أيها المنتشر العظيم»، فالأحداث تقفز من المعتقل بحيزه الضيق كمعطى مكاني واقعي، لتشتبك مع حيوات أخرى أكثر رحابة واتساعاً في الخارج وفي الماضي، حيث تبرز القصة مشاهد من نضال الحركة الطلابية، عبر نخبة من رموزها من الطلاب والطالبات على رأسهم «تيمور الملواني»، وكيف يعيشون حياتهم داخل السجن، بما تنطوي عليها من مفارقات إنسانية، تعكس وجهاً آخر للنضال في مواجهة تعسف السلطة وقمعها… قصة عادية، بها نزوع توثيقي، يشبه المرثية للثورة، أو الثورات (ثورة الجوع وثورة الحرية وثورة الهوية) كما يرد في سياق النص. لكن الكاتب يدفع هذه المرثية إلى ما هو أبعد، ليشتبك السرد مع أسئلة الوجود والمصير، وكأنها صدى لجدلية الصعود والهبوط… «تتسع عيوننا بالاستغراب والغربة… يحدونا أمل بأن ثمة قاعاً للهاوية… ثمة لحظة للارتطام بالقاع… للتهشيم… فلا نجد سوى سقوط بلا قرار، سقوط بلا هاوية..»، في آخر النص يوسع القفز خارج المكان من فضاء هذه المرثية المكان، فيعلق في غبارها صور من رموز النضال في الماضي، «الحسين، وأخته السيدة زينب… وجيفارا»، تعضد هذه الرموز زمن القص الراهن، وتمنحه سمة الصيرورة الممتدة في التاريخ، يقول الكاتب مخاطباً رفيقه الملواني (ص28) «هل» مت بهدوء، أم أن جثتك مُثل بها، بعد أن سلخت في دروب مكة؟ هل مت معافى، أم أن إبهامك قُطع، قبل أن ينقل من أحراش بوليفيا إلى دهاليز المخابرات المركزية».
هذا الجو الذي يختلط فيه الوهم بالحقيقة، وتعلو الأسطورة كملاذ للخلاص، لا تسلم منه صبوات الجسد وغرائزه الطبيعية، فيتحول لقاء البطل بالمرأة ذات القوام والجمال الشهي الساحر إلى كابوس من الرعب، يتجرّعه على أنغام الموسيقي والشعر في القصة الثالثة «امرأة من مخمل»، حيث يبرز المشهد مرعباً، ويتناثر في ثنايا السرد، عابراً ضمير المتكلم الحاضر إلى ضمير الغائب المروي عنه كأنه كابوس يتنقل بعفوية وعادية من الداخل للخارج… «من كوة حائط جانبي أطلت رؤوس أطفال تربط بهم صلة دم، وقد بترت أعناقها، يمتصون من إبهامهم لبناً وردياً، خيط أحمر رفيع ينسكب من أفواههم اللينة الصغيرة على الأرض، مشكلاً كتلاً مخروطية لزجة من الدم المخثر… وللعجب كان دم».
إن الأمر لا يتعلق هنا بالمتخيل وطبيعته المرعبة اللامترامية، كما تجسده المجموعة، إنما يتعلق بواقع المتخيل نفسه، فكلاهما يفيض عن الآخر، ويلتصق به، ولا يقل رعباً عنه، كأنهما ابنا علاقة تنهض على التواطؤ، ما بين الماضي والحاضر، ما بين الذات والوجود، ليتسع أفق الغرابة المقلقة، ويصبح سمة طبيعة للكائن البشري.
يبرز هذا المنحى في قصة «المرأة الدينارية»، فالطبيبة الشابة بإحدى شركات الأدوية بجنوب البلاد تتوق للحظة من الحرية، ترفع عنها ربكة الأعراف والتقاليد المتزمتة، بينما يجسد ولع البطل المسؤول المتنفذ بقوامها الباذخ تحت نقابها الأسود الحريري الفضفاض تجسيداً لهذه اللحظ، فيسرب لها ورقة تنقذها هي وشركتها من تهم بالفساد والغش. وبعد أن تأنس له، وتجذبها شخصيته تسدد له ديونه التي طلبها في مقابل ذلك.
من العلامات الفنية اللافتة في هذه المجموعة الشيقة، الاحتفاء بالحضور الإنساني، حتى في أقصى لحظاته تناقضاً وتشوهاً، بخاصة في علاقته بالسلطة. وهو ما يطالعنا في قصة «مستعمرة الجذام» أطول القصص الخمس، حيث يبلغ التهكم والسخرية ذروتهما درامياً، من سلطة شائخة فاسدة تحولت إلى مستعمرة مليئة بالأوبئة والأمراض، لكن دائماً هناك جوقة تتمسح بها، لتنعم برضاها ومنافعها… يفضح التهكم كل هذا ويحوله إلى كرنفال من العبث، ويسرّب الكاتب السارد في طوايا السرد إشارات ورسائل ضمنية شديدة السخرية، عن معنى المثقف الحقيقي، وكيف تتحلل القيم والأفكار، وتصبح مرادفاً للفساد والتشيؤ، في مقابل رسالة أكثر عمقاً ونبلاً حرصت المجموعة على إبرازها، وهي أن سلطة المعرفة لا تنفصل عن سلطة الضمير.
ألبير كامو… الطاعون والعبث والحب
تشير أرقام مبيعات الكتب إلى زيادة ملحوظة في الإقبال على الروايات التي تتحدث عن الأوبئة، وخاصة في إيطاليا، حيث تضاعفت مبيعات مثل هذا الروايات ثلاثة أضعاف.
ومن هذه الروايات، «ستاند» لستيفن كنغ، و«ووهان 44» لدين كونتز، التي صدرت عام 1981 التي، ويا للمفارقة، تتناول حصار مدينة بعدما هاجمها فايروس خيالي.
أما في بريطانيا، فقد سارعت دار «بنغوين» الشهيرة إلى إعادة طبع رواية «الطاعون» لبيير كامو، التي مر أكثر من 70 عاماً على صدورها عام 1947. والمعروف أن أحداثها تجري في وهران الجزائرية. ويصادف هذه الأيام أيضاً مرور 60 عاماً على رحيل كامو بحادث سيارة في العاصمة الفرنسية.
هنا قراءة في روية «الطاعون» ومجمل أعمال كامو وفكره.
بدا لبعض الوقت بأن ألبير كامو (1913 – 1960) الفيلسوف والروائي الفرنسي الشهير وملك أدب العبث المتوّج قد استنفد أغراضه وأصبح أسير الشّحوب، بعدما قتل النقّاد أعماله الأدبيّة تقديماً ومراجعة وتحليلاً، وصارت معاركه الفكريّة والأدبيّة والسياسيّة – بخاصة مع رفاق الوجوديّة الألمع جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار – أرشيفاً لمرحلة سابقة لم تعد اليوم ذات صلة اللهم إلا عند المتخصصين بتاريخ النظريّة والأدب، وثلّة من أسرى نوستالجيا القرن العشرين.
لكن الذّكرى الستين لغيابه المبكّر (عن 44 عاماً) أعادت الرجل إلى دائرة الاهتمام مجدداً، ليس فقط بسبب من تجدد المزاعم التي يرّوجها الكاتب والشاعر الإيطالي جيوفاني كاتيللي حول تآمر مخابراتي سوفياتي – فرنسي للتخلّص من صوت كامو العالي الذي كان يتسبب بصداع للطرفين من خلال انتقاداته المريرة للسياسات السوفياتيّة في وقت كانت فرنسا تحاول تجنّب عداوة موسكو، بل لراهنيّة مستعادة لأعماله الأدبيّة التي تطرح ببرود قاتل عبثيّة تجربة الوجود البشري برمتها وتستدعي كوابيسها، وفوق ذلك كلّه فلسفته بالتمرّد والثورة في مواجهة الأقدار المظلمة المحتمة كالتي انتهينا إليها – فردياً وجماعياً – في ديستوبيا العيش المسمى عصر الرأسماليّة المتأخرة هذا.
كان كامو – الذي حاز جائزة نوبل للآداب عام 1957 – قد ترك عدداً من المسرحيّات والروايات المفصليّة في تاريخ الأدب كـ«الغريب – 1942» و«الطاعون – 1947» و«السقطة 1956»، ضمنّها مواقفه الفلسفيّة الصادمة سرعان ما عُدّت – بعضها على الأقلّ – كلاسيكيّات خالدة تطرح ثيمات إنسانيّة عابرة للحدود والثقافات والأزمنة. عندما كتب مثلاً «الطّاعون» بعد الحرب العالميّة الثانية وقرأها كثيرون بوصفها سجلاً لأجواء مدينة باريس تحت الاحتلال لحظة خضوعها لألمانيا النازيّة – رغم أن مسرحها وفق الرّواية مدينة وهران بالجزائر (الفرنسيّة) المحتلة – رسم كامو – الذي ولد بالجزائر لأبوين فرنسيين وتلقى فيها تعليمه الجامعي – مشاهد قاتمة مستوحاة من أحداث حقيقيّة لتراكم القمامة وجثث الفئران والجراذين في الشوارع العامّة والبنايات السكنيّة متعددة الطوابق ما تلبث تتسبب بانتشار وبائي للطاعون بين سكان المدينة التي تُخضع عندها لحجر صحي عام فلا يسمح لأحد بالدخول إليها أو الخروج منها. وتناضل شخصيات أبطال الروايّة كلٌ على طريقته في مواجهة تكاد تكون عبثيّة مع الأوقات المظلمة فيما تتفاقم صناعة «الأخبار الكاذبة» لدى السلطات وفي الصحافة نكراناً لتفشي الوباء أو ادعاء محدوديّة تأثيره على صيغة «لا توجد فئران في هذه البناية» التي تفوه بها ناطور البناية فيما كان السكان أنفسهم يخرّون موتى من الطاعون. هذه الرّواية ولوهلة تبدو وكأنها تستلهم على المستوى الرّمزي المحض واقعنا المعاصر بكل سلبياته وإيجابياته في مواجهة الوباءات الجديدة من إيبولا إلى سارس، ومن حمى الوادي المتصدّع إلى كورونا.
لكنّها وكما كل عمل عظيم في دنيا الأدب تتجاوز غاية كاتبها المباشرة وتقدّم للأجيال قراءات مفتوحة على مستويات مجازية متعددة عن كل طاعون ممكن: الثّقافة المنحطّة، أو الأفكار الفاشيّة، أو الخزعبلات الدينيّة، أو حتى الرأسماليّة المتوحشة.
لكن ورغم هذا الموت الكثير المتناثر في «الطاعون» – كما غيرها من أعماله -، وكذلك سمعته القاهرة كفيلسوف كئيب يصارحنا بعبث تجربة العيش كلّها، إلا أنّ كامو في الحقيقة كان كمن يرسم شبابيك على السّتار الأسود الثقيل يتسرّب منها الضّوء. فبينما يقع «هاملت» شكسبير مثلاً في الحيرة، والجمود مع مواجهة صخب الحياة انتظاراً للموت المحتّم، فإن أبطال «الطّاعون» يختارون الانخراط في معركة يعلمون أنّها خاسرة بالمطلق، فيتمردون ثائرين على العبث بعيش حياة تستحق الاسم الذي تحمله: تمرّد أخذ في أعمال كامو المتلاحقة أشكالاً مختلفة: في الفنّ، والسياسة، والحبّ أيضاً. ألاّ تتمرد عنده، فتلك حالة «انتحار فلسفيّ» وهزيمة ذاتية تامّة وانحياز إلى العدم.
وإذا كان كامو وجهاً مألوفاً في فضاءات الثّورة والحريّة، فإن للمرء أن يتساءل عن حضوره – وهو من هو بين المتفلسفين المتشائمين – عبر فضاء الحبّ تحديداً، الأمر الذي لا يسهل القبض عليه في أعماله الأدبيّة عموماً. ولذا لا بدّ من التنقيب عبر تراثه المكتوب كلّه للوصول إلى مفهوم واضح لشبّاك الحبّ المقترح هذا، لا سيّما يومياته المنشورة، وحديثاً في رسائله الشخصيّة الكثيرة التي أفرج عنها للعموم حديثاً، ومنها 1400 صفحة من المراسلات الغراميّة الطابع مع عشيقته الإسبانيّة الأصل الممثلة ماريّا سيزاريس التي طُبعت في نسخة أنيقة بباريس، وطرحت احتفاء بالذكرى الستين لوفاته– رفقة ناشره بحادث السيّر المشؤوم – .
كتب كامو «إذا كان علي أن أضع يوماً كتاباً في الأخلاق، فسيكون في مائة صفحة تسع وتسعون منها خالية، وفي الصفحة الأخيرة سأكتب أنني أقرّ بنوع وحيد من الواجب الأخلاقيّ: أن نحبّ». والحبّ هنا لا مناص أبعد من أن يقتصر على مفهومه الرومانسي ليمتد لعلاقة الشغف الإيجابي تجاه الأبناء والأصدقاء والعائلة والمحيط – التي قد تكون أحياناً أكثر تطلباً من الحبّ بين رجل وامرأة – . فكامو سمح لنفسه فيما يبدو بتفسير خاص متفرد للحبّ الرومانسي تحديداً. فهو كان يحتفظ بثلاث عشيقات حسناوات يراوح بينهن بعد أن يطمئن على سفر زوجته وأولاده بالقطار.
ولذلك فإن استعادتنا له في فضاء الحبّ ينبغي أن تؤخذ على السياق الأعم. عنده الحب خيارٌ نقترفه بمحض إرادتنا في مواجهتنا القاسية مع العالم المشغول من عبث ليمنح فعل الحياة قيمة سيفتقدها من دونه بينما نحملق في هاوية الواقع التي تفغر فاهها أمامنا. ولعل شخصيّة سيزيف الأسطوريّة التي جعلها كامو ثيمة مقالته الفلسفيّة الطويلة «أسطورة سيزيف – 1942» تفسّر لنا تلك الصورة عن الحبّ. فملك كورانثوس الذي خَدع – وفق الميثولوجيا اليونانيّة القديمة – إله الموت ثاناتوس مما جلب عليه غضب زيوس كبير الآلهة، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل جبل إلى أعلاه، كلّما وصل القمة تدحرجت منه إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا إلى الأبد، رمزاً لعذاب البشريّة السرمديّ. لكّن كامو يراه أكثر متمرداً على عبث الوجود، اختار عمداً عشق الحياة حتى الثمالة، وهو يعلم أن ثمنها قد يكون باهظاً في حسابات الآلهة – الأسطوريّة -، ومع ذلك فهو يمضي عازماً، ولعله عندئذ لا يجد غضاضة بتقديم متطلبّات حبّه تعباً جميلاً مستمراً، من أجل عيون الحبيب. فالنضال ذاته في رحلة الصعود تلك كفيل بملء قلب الملك بالسعادة ونشوة الانتصار على الموت. فالعطاء المستمر لمن نحبّ – وفق كامو دائماً – ليس نوعاً من تكرار مضن لمهمات فرضتها الأقدار نؤديها بصمت وقبول، بل يجب أن يكون – فلسفياً – اتّباعاً واعياً لمسار مفعم بالشّغف المشتعل والمتجدّد والمعطاء والفخور مهما كانت تبعاته. أن تحبّ – وفق كامو – ليس استسلاماً للهوى، بل هو فعل إرادة تام ورفض إيجابي للانكسار، وانتصار للدمّ على جبروت سيف العبث الذي يهزأ بنا، ولا يتوقع منا إلا خضوعاً نهائيّاً ذليلاً. أن تختار الحبّ وأنت تعلم نهايته – ألماً، أو فاجعة فقدان الذين نحبهم – شجاعة تجعل من الانتصار على الموت ممكناً. هؤلاء الشجعان وحدهم – عند كامو – تليق بهم الحياة، ويليقون بها.