في العادة تستغرب الناس أن يقع في العالم الأول ما يحدث في العالم الثالث. الآن فوجئ الناس باقتحام البرازيليين لمبنى الرئاسة والكونغرس، كما حاول مناصرو دونالد ترمب اقتحام الكونغرس. الفارق أن أهل العالم الأول كانوا أكثر شراسة وهمجية. أما السبب فكان واحداً: رفض نتائج الانتخاب لأنها هذه المرة لم تتفق مع الرغبات.
رفض الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو فوز لويز إيناسيو لولا دا سيلفا (لولا)، مع أن الرجل دخل تاريخ البلاد كأول رجل يُنتخب رئيساً ثلاث مرات. ويعتبر لولا سياسياً أسطورياً ليس في بلاده فحسب، بل بين رؤساء العالم. لم يتعلم الرجل القراءة إلا وهو في العاشرة. ومذ كان في الثامنة عمل «بياع شوارع» وماسح أحذية، ثم أصبح عاملاً في مصنع مسامير في ساو باولو. وفي هذه المرحلة تعرف إلى الحركة النقابية وانضم إليها. وحين بلغ التاسعة عشر عاماً خسر خنصره الأيسر أثناء العمل، مما زاد في حماسه للعمل النقابي، الذي كان طريقه إلى العمل السياسي منذ بداية الثمانينات، وإلى معارضة الديكتاتورية العسكرية. غير أن عهود لولا اتسمت بالفساد وحكم عليه بالسجن برغم نجاحه في خفض البطالة ونسبة الفقراء وتحديث الاقتصاد. وكان مشروعه الأساسي «إلغاء الجوع»، ولذا مد العائلات الفقيرة بالمساعدات المالية البسيطة، وأقام المشاريع الإسكانية. وفي ولايته الأولى وحدها انخفضت نسبة سوء التغذية عند الأطفال 46 في المائة.
في ولايته الأولى أيضاً، منحه برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة لقب «بطل العالم في محاربة الجوع». وفي عهده لم تعد البرازيل دولة مدينة للمرة الأولى في تاريخها بعدما كانت من أكثر الأمم ثقلاً بالديون، واحتلت المركز الثامن في اقتصادات العالم.
أعاد البرازيليون انتخاب لولا الشهر الماضي وأخفق بولسونارو في الحصول على ولاية أخرى. أيضاً للمرة الأولى في تاريخ البلاد. ليس اقتحام الريو في أهمية اقتحام واشنطن بالتأكيد. لكن عودة لولا إلى الحكم وهو في السابعة والسبعين من العمر، حدث مفصلي في حياة «القارة» البرازيلية وأميركا اللاتينية برمّتها أيضاً. وأما مشاهد الاقتحام (بدل التظاهر) فمسألة تعني العالم أجمع. مسألة عدم القبول بالقاعدة الأساسية وهو حق الاختيار. وفي خسارة بولسونارو خسارة لحليفيه الأساسيين: أميركا وإسرائيل.
روبرت فورد:أوهام عملية سوريا
اندلعت مظاهرات ضخمة، قبل أيام، في مناطق من سوريا، رفضاً للتقارب بين حكومة بشار الأسد وتركيا.
ربما أكون شديد الارتياب والتشاؤم، ويتعيَّن عليَّ كذلك الاعتراف بالأخطاء الكثيرة التي اقترفتها عندما عملت في الملف السوري منذ عشر سنوات، لكن رأيي باختصار هو أن هذه لعبة سياسية بين الأتراك في عام انتخابات، بجانب مساعي الرئيس إردوغان للفوز ببعض المزايا لحساب المصالح التركية الحيوية في شمال سوريا، في مواجهة دمشق وموسكو والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
أولاً: لا تخلو السياسات الانتخابية من صعوبة أمام إردوغان. ومن بين القضايا السياسية التركية، تحظى مسألة إطلاق بداية جديدة مع سوريا بشعبية في أوساط الشعب التركي. وتبعاً لاستطلاع رأي أجرته في ديسمبر (كانون الأول) مؤسسة «متروبول بلس»، أعرب 59 في المائة من الأتراك عن رغبتهم في دخول إردوغان في محادثات مع الأسد، في الوقت الذي عارض 29 في المائة هذا الأمر. وتبدو التحديات القائمة هنا واضحة، ما بين أهمية عقد اجتماع مع الأسد، وتعهد إردوغان للناخبين الأتراك بإطلاق سياسة جديدة تجاه سوريا، بجانب التحدي المتمثل في قضية اللاجئين.
ويحتاج إردوغان ليُظهر، على الأقل، أن ثمة عملية سياسية تبدأ. وتذكروا هذه الكلمة جيداً: «عملية».
واليوم، هناك بعض مجموعات العمل الجديدة ثنائية الأطراف التي تشكلت في أعقاب اللقاء الذي جمع وزراء الدفاع الروسي والتركي والسوري. ومن المحتمل أن يعقد وزراء خارجية الدول الثلاث لقاءً مشابهاً، بل وربما يلتقي رؤساء الدول الثلاث قبل الانتخابات، أو أن يطلق إردوغان تعهداً بمقابلة الأسد. ويمكنه أن يدّعي وجود عملية قائمة.
في تلك الأثناء، من الواضح أن الأسد لا يروق له إردوغان ولا يثق به. ومع ذلك، يضغط الروس على الأسد كي يقبل ببناء عملية، وسيطلب هو منهم مكافأة مقابل ذلك.
وفي سياق متصل، زار وزير الخارجية الإماراتي دمشق من جديد، وربما ناقش هناك سبل إقناع الأسد بعقد اجتماع. ويذكرني الأمر بالتركيز الأميركي الشديد على فكرة وجود عملية تفاوضية في عهد إدارتي بوش الأب وكلينتون منذ ثلاثين عاماً مضت، في خضم مساعي الإدارتين لإقرار سلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
الواقع أننا شهدنا الكثير من مجموعات العمل، وحزم المساعدات واللقاءات بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وبالفعل، تفرز مجموعات العمل واللقاءات صوراً عظيمة، لكن اسألوا الفلسطينيين عما أنتجته العملية التفاوضية. وحدها التنازلات والحلول الوسط والاختيارات الصعبة قادرة على تحقيق تقارب دائم، إلا أنه حتى هذه اللحظة، لم تقدم كل من دمشق وأنقرة تنازلات أو تسويات حقيقية.
وفي تصريحات لوسائل إعلام تركية في 6 يناير (كانون الثاني)، قال وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، إن بلاده لن تقبل موجة جديدة من اللاجئين من سوريا، الأمر الذي يحمل خلفه ثلاث رسائل واضحة: الرسالة الأولى أنه يخبر دمشق وموسكو بأن أنقرة لن تقبل مسألة شن هجوم روسي – سوري للسيطرة على إدلب وشمال حلب. وجاءت الرسالة الثانية في توقيت مثالي تماماً، ومفادها أنه داخل الأمم المتحدة في نيويورك، هذا الأسبوع، لا ينبغي لموسكو إعاقة جهود توصيل مساعدات إنسانية من تركيا لإدلب وشمال حلب، الأمر الذي سيستفز آلاف السوريين المشردين، ويدفعهم إلى محاولة دخول تركيا، هرباً من التضور جوعاً. أما الرسالة الثالثة، فجاءت ضمنية بدرجة أكبر، ومع ذلك ظلت واضحة: الاحتلال التركي في شمال سوريا سيبقى حتى يجري التوصل لترتيب تقبله أنقرة، وكذلك السوريون المشردون.
في المقابل، فإنه لأسباب سياسية «واقتصادية» واقعية، لن يرحب الأسد بعودة اللاجئين في المستقبل المنظور.
وفي تصريحاته التي أدلى بها في السادس من يناير، قال آكار أيضاً إن تركيا ستمضي في القتال ضد الإرهابيين، وأشار مباشرة إلى منطقة الحكم الذاتي في شمال سوريا، الخاضعة لسيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي السوري، وميليشيا «وحدات حماية الشعب» المرتبطة بالعدو الأول لتركيا؛ «حزب العمال الكردستاني».
وأعلن آكار أن قوات الأسد ليس بإمكانها تدمير إدارة الحكم الذاتي، وأن سوريا الأسد ضعيفة اقتصادياً وعسكرياً، وأن هذه الحقيقة لن تتبدل. وبذلك، أقر آكار بالقيمة المحدودة للتقارب مع دمشق من منظور أنقرة.
ومع ذلك، فإنه بالنظر إلى أن اعتبارات المشهد السياسي الداخلي في تركيا تطالب ببناء عملية سياسية، قَبِلَ آكار في أثناء وجوده في موسكو فكرة تسيير دوريات مشتركة جديدة بالتعاون مع الروسيين والسوريين على طول الحدود المشتركة.
ومن المحتمل أن تقيد الدوريات المشتركة إدارة الحكم الذاتي التابعة لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» بعض الشيء، لكنها لن تقضي عليها تماماً.
وعلى أقصى تقدير، يمكن أن نشهد تعاوناً بين أنقرة وموسكو ودمشق من أجل معاونة القوات السورية الضعيفة والقوات الروسية للسيطرة بدرجة أكبر على منبج وتل رفعت في شمال وسط سوريا. ومع هذا، فإنه على امتداد المستقبل المنظور، ستبقى إدارة الحكم الذاتي، وبالتالي الاحتلال التركي، بغض النظر عن اعتراضات الأسد.
ونظراً لأن إدارة الحكم الذاتي و«وحدات حماية الشعب» و«قوات سوريا الديمقراطية»، ستبقى؛ جاءت استجابة واشنطن معتدلة. وكرر المبعوث الأميركي لدى سوريا، الأسبوع الماضي، أن واشنطن لن تقدم شيئاً لسوريا، وأن الأميركيين ليس لديهم ما يقدمونه لتركيا بخصوص القضية السورية.
ومع ذلك، تخيّل لو أنه جرى فتح سفارتين تركية وسورية في العاصمتين. بالطبع، ستعترض واشنطن، وماذا بعد ذلك؟ ستستمر «وحدات حماية الشعب» و«قوات سوريا الديمقراطية» في الترحيب بالتعاون الأميركي والمساعدات الاقتصادية والحماية الأميركية، وستمضي واشنطن بالتعاون مع شركائها من «قوات سوريا الديمقراطية» في محاربة فلول تنظيم «داعش» التي تظهر في شرق سوريا. والواضح أن البعثة الأميركية ليس باستطاعتها تسوية مشكلة «داعش» في سوريا، أو الصراع السوري.
وتعي واشنطن هذا الأمر جيداً، لكن اعتبارات السياسة الداخلية لديها تطالب هي الأخرى بعملية سياسية في سوريا.