كيم ثم كيم ثم كيم…
هناك أشياء يعتقد العالم أن وقوعها مستحيل، مثل قيام انقلاب في دولة مثل ألمانيا. لكن في السابع من ديسمبر (كانون الأول الماضي) قام 3000 شرطي ألماني بغارات على 130 منزلاً ومخزناً ومكتباً، بحثاً عن مجموعة من المتطرفين اليمينيين الذين أعدوا لمؤامرة الاستيلاء على الحكم. وقد تبين لاحقاً أن لهؤلاء شركاء في إيطاليا والنمسا. والأخيرة سمّتها الأمم المتحدة، للعام الثالث على التوالي، البلد «الأرقى مستوى معيشة» في العالم.
يلتقي اليمين المتطرف عند نقاط عدة؛ أهمها: الجهل الفكري، والعقم الإنساني، والحقد على كل ما هو سويّ. وهذا الحمق الأبدي له دعاته ومطبّلوه وحراس تفاهته في كل مكان وزمان. ولا علاقة لتقدم الأمم والشعوب بالظواهر المَرَضية المتكررة، يدعو لها وينضم إليها متطوعون في خدمة الطاعون لا في محاربته. وثمة فِرق عاملة على سطح هذه الأرض، أو في كهوفها، لا تكتب إلا في تبجيل الطغيان وتقديس الفشل والتهليل للقتل الجماعي. وتنشط هذه العقول وتزدهر في الأزمات المريرة، وفقدان الأمل، واختفاء حماة الإنسانية والحضارات والرقي البشري.
وأكثر ما ينطبق على هذه الفئة قول أديب إسحاق: «قتل امرئ في غابة / جريمة لا تغتفر / وقتل شعب آمن جريمة فيها نظر». ولولا حرصه على الشعر لقال «وجهة نظر». وخلاصتها عند سود القلوب، أن المندرين بمجرمي الإنسانية مخطئون في الأرقام. فالضحايا ليسوا 60 مليوناً بل 30، وليسوا ثلاثين بل خمس عشرة. أما الحقيقة فإن الأكثر جنوناً ومرضاً وحمقاً من أبطال الموت والعذاب البشري، هم مصفقونهم ومبررونهم وكتبة الخواء الإنساني.
هؤلاء لا يزالون يخوضون حروب بول بوت وهولاكو. هؤلاء في طباعهم وطبيعتهم اختاروا كاسترو بدل غيفارا، ووقت بوبسبيار بدل سماح جان جاك روسو، وسجون ومنافي ومقابر ستالين بدل حرية غورباتشوف. فكر واحد له مفسران: طبل أجوف يقرع حسداً وغضباً وافتراء واختلافاً وكرهاً، وناي يعزف أنشودة الألفة والرحمة ومقارعة الظلم والطغيان. هناك اشتراكية السويد واشتراكية بول بوت. وهو يتكرر في كل العصور، وفي أشكال كثيرة وخلق واحد، كارهاً للبشر، حاقداً على كل نجاح، ممجداً كل فشل.
نموذج لا يصدق لكنه موجود. مخلوق يخيَّر بين كوريا الجنوبية والشمالية، فيختار التحليق مع صواريخ كيم الحفيد. لا تناسب طباعه سوى هذا النوع: كيم أولاً، كيم ثانياً، كيم ثالثاً، والمجد ليوسف ستالين.
أخلاق ماكيافيللي
هل كان نيكولو ماكيافيللي أخلاقيّاً؟
طويلاً ما اختُزل الفيلسوف الإيطالي إلى عبارة «الغاية تبرّر الوسيلة»، إيحاءً بانتهازيّة لا تعبأ بالأخلاق.
الاختزال هذا لم يردع البعض عن الجواب بـ«نعم»: كان أخلاقيّاً. والمقصود أساساً أنّه خدم فكرة «التقدّم» ومركزيّة الإنسان التي قال بها عصره، عصر النهضة. فالرجل الذي يُنسب إليه تأسيس «علم السياسة»؛ خصوصاً كتابه الصغير «الأمير» (90 صفحة)، قدّم برنامجاً للحكم يستند إلى فلسفة في الطبيعة الإنسانيّة. فهو فصل أخلاقيّة السياسة عن الأخلاقيّات الدينيّة والميتافيزيقيّة، فلم يؤمن بقيود تفرضها معايير غيبيّة، إذ ليس هناك صلاح أخير سامٍ (Summum Bonum) يتعدّى البشر. المهمّ عنده بلوغ الهدف، والنيّاتُ إنّما تُقاس بالأعمال والنتائج.
ثمّ أنّ إيطالياه، إيطاليا القرن الـ16، كانت دويلات مستقلّة وغالباً متنازعة، وعرضة لاعتداءات الفرنسيين والإسبان. ولأنّ الضعف حائل دون «المجد»، فعلى الأمير أن يوحّدها. فمن يحكم دولة مدينة كفلورنسا عليه أن يغزو دولة مدينة أخرى، وهكذا دواليك حتّى يوحّد البلاد ويبعث الإمبراطوريّة الرومانيّة مجدّداً. ولتوحيدها وتحريرها «من البرابرة»، ختم كتابه مناشداً حكّام فلورنسا المديتشيين.
فالمُلحّ عنده مبارحة الكنسيّة القديمة والمفاهيم الأخلاقيّة الجاهزة للفضيلة والرذيلة. ذاك أنّ المسيحيّة تُضعف الدولة، والبابويّة، بسلطتها وفسادها يومذاك، سبب أساسي وراء عجز إيطاليا وتفتّتها.
الذين نفوا عنه كلّ أخلاقيّة رأوا في فلسفته تمجيداً للسلطة وللاحتفاظ بها ورفعاً للقسوة والخداع، متى كانا يخدمان الغرض، إلى مبدأ. فهو يقلب القيم رأساً على عقب ويعطي تقييمها مضموناً أداتيّاً ووظيفيّاً: ما ظنناه خيراً قد ينقلب إلى شرّ والعكس بالعكس. الظرف هو المقرّر.
فـ«الأمير» يرى أنّ الإخافة أفضل أسلحة الحاكم. فجيّدٌ أن يُحَبّ الأمير، لكنّ الإخافة هي ما يُعوَّل عليه لحفظ الإمارة. وإذا انحصر الخيار بين الإخافة والمحبوبيّة كان الخيار الأوّل المفضّل. أمّا الكذب وعدم الوفاء بالوعد فمحمودان متى أفادا.
نموذجه للسياسي الأمثل سيزار بورجيا، الجندي المرتزق والابن غير الشرعي للبابا ألكسندر السادس. سيزار هذا قتل أخاه الأكبر الذي اختاره أبوه للسياسة، وذات مرّة أرسل معاونه لفرض السلطة على منطقة عاصية، بعدما حرّضه على ترويع السكّان حتّى يستسلموا. لكنّ بورجيا قطّع جثّة مندوبه بعدما أنجز المهمّة. هكذا خاف السكّان في المرّتين، لكنّ كراهيّتهم لم تعد تستهدف بورجيا، بل استهدفت مبعوثه الذي نفّذ أوامره ثمّ عوقب وحده. فالمهمّ أن يُخشى الحاكم دون أن يُكرَه، لأنّه إذا كُره بات مهدّداً بالإطاحة والعزل.
بورجيا الذي يُعتبر قاسياً ومخادعاً أمّن لنفسه الحكم ولرعاياه السلام والازدهار. إذاً كان، في عرف ماكيافيللي، حاكماً فاضلاً.
تحبيذه هذا النمط في الحكم سببه أنّنا نعيش في غابة وفي كون بشع عديم الأخلاق. وهو أراد أن يحرّرنا مما اعتبره طفليّاً وشعوراً بالذنب لدينا حيال هذا العالم. فتلك مشاعر لا مبرّر لها طالما الطبيعة الإنسانيّة نفسها سيّئة ومتقلّبة، تماماً كالطبيعة حيث القوي يأكل الضعيف. فإذا كان لا بدّ من ظهورنا، لأسباب عمليّة، بمظهر الزاهد والمتقشّف فلا بأس، شريطة أن لا نكون في أعماقنا كذلك.
ولأنّ ماكيافيللي تحدّث عن الحياة «كما هي»، لا «كما تُتَخيّل»، ولأنّ الناس في عمومهم سيّئون، بل وحوش، بات ينبغي تكييف القيم مع هذا الواقع، فلا يُنظر إليها بتجريد وإطلاق. فهي ليست مهمّة بذاتها بل بمردودها على السلطة وعلى مشروعها السياسيّ.
صحيح أنّ الكرم أفضل من البخل، لكنْ إذا أدّى كرم الحاكم إلى إثقال السكّان بالضرائب، ومن ثمّ احتمال أن يغدو مكروهاً ويُطاح، فإنّ البخل الذي يُعفيه من فرض الضرائب يصير هو الكرم. لقد اتُّهم لويس الثاني عشر بالبخل، لكنّه خاض كلّ حروبه دون أن يفرض الضرائب، وهذا صار كرماً. والوفاء بالوعد خير من النكث، لكنّ بعض الظروف تفرض النكث بالوعود. فالبابا ألكسندر السادس لم يكن يفي بأي وعد لكنّه كان ناجحاً جدّاً. والرحمة خير من القسوة مبدئيّاً، لكنّ الفلورنسيين حين رفضوا التدخّل لقمع انتفاضة في بيسويا المجاورة، حرصاً منهم على الظهور بمظهر الرحيم، كانت النتيجة تدمير المدينة. إذاً القسوة، في حال كهذه، أرحم من الرحمة. والخير تالياً أفضل من الشرّ، لكنْ على الحاكم أن يجيد ارتكاب الشرّ متى كان ضروريّاً. وهو حين يفعل هذا ينبغي أن ينجح في تظاهره بأنّه عطوف وصادق ولطيف، بحيث ينخدع الناس الذين لا يتأثّرون إلا بالمظاهر وبالنتائج. وعليه أيضاً أن يبدو حاسماً في اتخاذ القرار وتطبيقه، وأن يتجنّب المدّاحين، ويُعدّ العدّة للعاصفة حين يبدو البحر هادئاً، فلا يُترك الأمر للحظّ والأقدار.
فالحاكم الجيّد يتعلّم من وحشين هما الثعلب والأسد: الأوّل، لأنّه يكشف الأفخاخ ويستخدم ذكاءه للبقاء، والثاني، لأنّه يستخدم قوّته وشجاعته للقتال وإخافة الثعالب. أمّا الذين يتصرّفون كأسود فحسب، ودائماً، فـ«بُلْه».
صحيح أنّ كتاب ماكيافيللي حرّر النظريّة السياسيّة من الإحالة إلى ضابط ميتافيزيقيّ، أكان «شكل الصلاح» الأفلاطوني أو الدين المسيحيّ. وهو، مدفوعاً بضعف ثقته بالإنسانيّة، أعفى سلوكنا من الرضوخ لإملاءات هذا المرجع. لكنّه باكتفائه بفعله هذا ألغى كلّ معيار أخلاقي للقياس، وبدل أن يتجاوز الأفلاطونيّة والمسيحيّة، ارتدّ إلى الموقف السفسطائي حيث السلطة وتلبية الرغبات الإنسانيّة هدف بذاته. لهذا كان الدين الذي أعجب ماكيافيللي هو الوثنيّة الرومانيّة كونها خدمت الدولة وجيشها، وهو أحبّ روما القديمة وتاريخها، إذ يكثر فيهما قادة كهؤلاء. فـ«الفضيلة» (أو بالإيطاليّة virtu وهي أوسع دلالة من «الفضيلة» في باقي اللغات، لشمولها العدل والرحمة والكرم وبلوغ المجد) إنّما تقيم في أبطال ملحميين ليس من محرّك يحرّكهم إلا الانتصار.
بهذا نقلنا ماكيافيللي من نظام قديم للاجتماع إلى عري الطبيعة، وعاملنا كأنّنا محكومون فحسب بالغرائز، إنّما مجرّدة من كلّ «أنا عليا».
وهذا، في عمومه، وصفة عبقريّة للاستبداد جعلت كتابه رفيقاً دائماً لهتلر وستالين.