هدى حمد: أستلهم حكايات جدَّاتي لتحقيق واقعية سحرية موازية
تعد الكاتبة هدى حمد أحد أبرز الأصوات الأدبية على الساحة العمانية حاليا. بلغ مجمل إنتاجها الأدبي خمس مجموعات قصصية وثلاث روايات. روايتها الجديدة «لا يُذكرون في مجاز» تستلهم حكايا الجدات الشعبية لصنع عالم من «الواقعية السحرية»، فضلا عن اعتماد تقنيات سردية تذكّر بأجواء «ألف ليلة وليلة». استفادت كثيرا من عملها في مهنة الصحافة لكنها في لحظة ما هربت مما تسميه «محرقة العمل الصحفي اليومي». حازت روايتها الأولى «الأشياء ليست في أماكنها» جائزة «الشارقة» للإبداع الأدبي. ومن أعمالها القصصية «نميمة مالحة» و«ليس بالضبط كما أريد»… هنا حوار معها حول روايتها الجديدة وهموم الكتابة:
> تتناول روايتك الجديدة «لا يُذكرون في مجاز» وقائع قرية أسطورية تُحرِّم على أهلها المعرفة أو الكتب ومن يتمرد يتم نفيه، هل ثمة إسقاط على واقع ما، عربيا كان أم عالميا؟
– تأتي الإسقاطات في مرحلة لاحقة لعملية الكتابة، وعادة يخترعها القراء والنقاد، فيدخل النصّ في تأويلات لا محدودة. نهضت «مجاز» على القصص الشعبية والتي لم تكن تعدو أن تكون التماعة صغيرة تُحدث ذهولا سريعا ثم تمضي للاختفاء، ولذا قمتُ بتغذية الشخصيات والأحداث لإعطائها أسبابا كافية لدخول متن الحكاية. كنتُ مسحورة بجملة من الحكايات، سردها الأجداد والجدات في أوقات مختلفة من حياتي، بعضها يعود إلى طفولة بعيدة. وكلما قرأت عملا من أعمال الواقعية السحرية من الأدب المترجم أكلتني الحسرة والندم على تفويت كتابة ما سُرد على مسامعي من جداتي حيث أراه نصا موازيا ومدهشا. الأمر اللافت، هو أنّ الحكايات التي تُستمد من الفولكلور الشعبي، يمكن أن نجد فيها ارتداد صورتنا إلى اليوم، ولذا يمكن سحب «مجاز» من محدوديتها إلى أفق محلي وعربي وعالمي.
> هل ثمة دلالة وراء اختيار أسماء الأماكن في الرواية، فالقرية تُدعى «مجاز» أما المنفى فيسمى «جبل غائب» و«جبل المنسيين»، أم أن الأمر لا يعدو كونه مجرد لعبة فنية؟
– في الحقيقة كنتُ مشدودة لجرس كلمة «مجاز»، وجدتها تخلقُ التباسا يخدم مقاصدي. فالمجاز اللغوي هو: «صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى ليس له علاقة مباشرة بالمعنى الحرفي». وفي الحقيقة، كنتُ ألعب على المعنيين الظاهر والخفي لهذه المفردة… فهل مجاز هو اسم لمكان حقيقي؟ أم يحتمل المعنى الآخر: «التجاوز والتعدي؟». كذلك هو الأمر بالنسبة «للمنسيين» الذين تقع عليهم لعنة النبذ، و«جبل الغائب» الذي يحمل دلالات واضحة بالغياب والمصير الغامض الذي ينتظر الشخصيات، خصوصا فيما لو ذهب القارئ إلى ما وراء طبقات الحكي الكثيفة، فبمجرد دخوله إلى هذه القرية، يجد أنّ المجاز والنسيان والغياب يطالُ حياتهم وملامحهم، ونظرتهم لثنائية الحياة والموت.
> تداخل الحكايات في الرواية، حكاية داخل أخرى، يذكرنا بتقنيات الحكي في «ألف ليلة وليلة»، إلى أي حد تتأثر كتاباتك بالتراث العربي عموما؟
– الواقعية السحرية يمكن أن تكون شكلا من أشكال مواجهة الحياة المتوحشة الآن والتي لا سبيل لإيقاف تسارعها إلا عبر الفن والحكي، كما كانت «ألف ليلة وليلة» وسيلة نجاة لشهرزاد من جز الرأس. في الحقيقة كان عقلي الصغير عاجزا عن تفسير التلاقي المدهش بين ثقافات العالم في الحكاية الشعبية، فأخذ السؤال يكبر بداخلي: ما الذي يجعل الجغرافيا العُمانية المعزولة قبل التلفاز والإذاعة تتلاقى مع سرديات شعوب أخرى؟ وربما كان هذا السؤال أحد مُحرضات الكتابة. تبدو الشخصيات في رواية «لا يُذكرون في مجاز» منفصلة خارجيا كما هو حال الشخصيات في «ألف ليلة وليلة»، فلكل شخصية حدوتة مختلفة، ولكن شخصيات «مجاز» على اختلاف حكاياتها مُتصل بعضها ببعض بجذر عميق، اسمه الذنب، الذي مهما بدا مختلفا لكنه يقود لمصير واحد. وأيضا لقد استعرت من «ألف ليلة وليلة» التكنيك والتقنيات التي تجعل النقلات الزمنية والمكانية والتحولات العجائبية أمرا مستساغا.
> أصدرت العديد من المجموعات القصصية، كيف ترين الانطباع السائد بأن القارئ العربي لم يعد يقبل على هذا اللون من الإبداع، وبماذا تفسرين عدم حماس دور النشر لها؟
– علينا ألا ننكر أنّ دور النشر حقا لم تعد تتحمسُ للقصّة القصيرة، رغم أنّها فن كتابي مستقل عن الرواية ولها قراؤها، ولكن للأسف لم يعد هنالك من ينصفُ هذا الفن، رغم فوز الكندية «أليس مونرو» بجائزة نوبل للأدب 2013، باعتبارها أحدثت ثورة في بنية القص وأعادت الاعتبار لفن القصة. لقد قرأتُ لها أعمالا شديدة العذوبة إلا أنّ الانجراف العام من قِبل النقاد والجوائز وتحيز دور النشر يجعلان القراء أيضا يضلون الطريق عن القصص التي يمكن أن تلفت الأنظار للجوانب الإنسانية المُعقدة، بأقل قدر من الكلمات وبأكثر الأساليب ثراء وكثافة.
> هل تصبح القصة القصيرة مجرد «نزوة إبداعية» في مسيرتك؟
– لطالما قلتُ إنه لا يمكننا التعامل مع القصّة باعتبارها مجرد تمرين لكتابة الرواية لاحقا. ما زلتُ أقرأ القصّة القصيرة باستمتاع هائل سواء أكانت لكتاب كلاسيكيين أو حداثيين. ما زلت أكتب القصّة القصيرة وأحبها وثمّة مجموعة قصصية أوشكتُ على الانتهاء منها.
> كيف ترين استقبال النقاد لمجمل نتاجك؟
– سأتحدثُ بصفة عامّة عن النقد وليس عن تجربتي الشخصية، فالنقد بمعنى الإشادة والثناء كثير، أمّا النقد بمعنى الفحص العميق والتحليل وكتابة النص الموازي للنصّ الأصلي، فهو قليل إن لم يكن نادرا. وأجد النقاد إمّا يختبئون خلف التنظير ويُسقطون نظريات المدارس النقدية كأثواب جاهزة على النصوص، وإمّا يلمسون النصوص من السطح والقشور. وليس علينا أن نُنكر وجود تلك الأقلام التي تُناضل لتعيد اكتشاف النصوص وتضيف إليها تأويلات ومساحات غير مُفكر فيها. وليس المُتهم هو الناقد وحسب في هذه القضية الشائكة، إذ يُطالعنا على الضفة الأخرى الكاتب الجائع والمُتلهف للإطراء، وإلا فسيسدد أسهم غضبه على النقد والنقاد.
> برأيك، هل شبت التجربة الإبداعية النسائية في سلطنة عُمان عن الطوق؟
– لا أميل إلى تصنيف الأدب، أدب امرأة وأدب رجل، فهي إما أن تكون كتابة جيدة أو لا. ولكن إن مضيتُ معكِ في هذا السؤال، فسنجد أنّ المرأة الكاتبة في عُمان لديها مشروع رصين، فقد أحدثت نقلة نوعية تحديدا في الرواية، ويكفيكِ أن أذكر اسمين جلبا أنظار العالم والوطن العربي إلى هذه البقعة التي لطالما نظر إليها الآخر كهامش خارج الرهانات الكبرى، وأعني جوخة الحارثي وبشرى خلفان، بالإضافة إلى تجارب مُهمة في القصّة والشعر والترجمة.
أستطيع أن أسمي عددا جيدا ممن تبلورت تجاربهن ومشاريعهن ولديهن دأب ومثابرة واستمرار. في البدايات الأولى ربما نشعرُ بفجوة زمنية لها أسبابها بالتأكيد، فأول مجموعة قصصية عُمانية صدرت في 1981 للقاص أحمد بلال، بينما أول قاصة عُمانية ظهرت بعده بـ18 عاما، هي القاصة خولة الظاهري في مجموعتها القصصية «سبأ»، وفي الرواية كانت أول رواية لعبد الله الطائي «ملائكة الجبل الأخضر» في عام 1958، بينما أول رواية للمرأة كانت «الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي عام 1999.
> إذن، بماذا تفسرين هذا السبق الزمني في تجربة الكاتب الرجل؟
– في اعتقادي أنّ مرد الأمر يعود إلى شكل الحياة قبل السبعينات من القرن الماضي، وفرص الرجل الأوفر حظا بالدراسة والعمل في الخارج، الأمر الذي أنضج تجربته وانفتاحه على العالم بصورة أسرع، نقيض المرأة حبيسة البيت والعادات والتقاليد، لكن ما إن ظهر جيل الجامعة حتى عوضت المرأة هذا التأخر بصورة فارقة ولافتة. وفي زمن قياسي أيضا.
> من يلفت نظرك من الكاتبات الخليجيات وتتوقفين عند تجاربهن بشكل خاص في الأجيال السابقة عليك؟
– منذ مرحلة باكرة من حياتي، كنتُ أكثر ميلا لقراءة الأدب المُترجم من ثقافات شتى من العالم وأقل انتباها للإصدارات العربية والخليجية بطبيعة الحال. لكن بما أنكِ حصرتِ الخيارات في منطقة الخليج وفي التجارب السابقة لتجربتي، فقد قرأتُ لرجاء العالم، وبدرية البشر وليلى الجهني من السعودية، قرأتُ لفوزية السالم من البحرين، ومن الكويت: ليلى العثمان، بالتأكيد قرأتُ لجوخة الحارثي وبشرى خلفان من عُمان، وأخريات قد لا أتذكرهن الآن على وجه الدقة، كما أود أنّ أشير إلى وجود جيل مُهم من الروائيات الشابات يفرضن حضورهن الآن بأعمال لافتة على الساحة.
> مارست العمل الصحافي بشكل احترافي، إلى أي مدى أثرت الصحافة على تجربتك الإبداعية سلبا أو إيجابا؟
– علينا ألا ننكر الموقع الذي يتمتع به الصحافي، إنه على اتصال بالسلطة، كما توفر له نسيجا من العلاقات الجيدة التي تساهم بطريقة أو بأخرى في جعله تحت الضوء. ولكن كل هذا يبقى في كفة والإبداع الحقيقي وعمق التجربة في كفة أخرى، حيث إنّ العلاقات الجيدة لا تصنع مبدعا أصلا. ما توفره الصحافة لي هو التمرين الدؤوب على الكتابة، ونفي خرافة انتظار الشياطين أو لحظة الإلهام المقدسة. رهنُ الكتابة بعامل الوقت والزمن الذي يجعلنا نجلسُ لننجز شيئاً ما في وقت محدد، وهذا أعظم ما وهبتني إياه الصحافة. إضافة إلى أمر لا يقل أهمية وهو التخلص من الثرثرة المجانية والحشو، فالصحافة تجعلك تذهب تماما إلى مقاصدك بأقل قدر من الكلمات. كما جعلتني على تماسٍ يومي مع الأخبار والأفكار المُحرضة – بطريقة أو بأخرى – لديناميكية السرد. أمّا السلبية الوحيدة التي كنتُ أخشى منها، فتكمن في مهابة الوقوع في فخ المباشرة والفجاجة، وعندما شعرتُ بإمكانية حدوث ذلك في محرقة الصحافة اليومية، انتقلتُ إلى مجلة نزوى الثقافية لأحمي كتابتي الأدبية التي أراها الأبقى والأهم بالنسبة لي.
> حظيت روايتك الأولى «الأشياء ليست في أماكنها» باحتفاء شديد ونالت عددا من الجوائز، كيف ترين إشكالية الجوائز في ثقافتنا العربية وما تثيره من جدل دائم؟
– لا يمكننا أن نقلل من أهمية الجوائز على الصعيدين المعنوي والمادي، فالكاتب يذهب جُلّ عمره منكبا على مشاريعه. كما أن الجوائز باتت أشبه بتأشيرة المرور إلى العالم عبر الترجمة وإلى المحافل الأدبية الكبيرة. تقدم الجوائز للكاتب إلى جوار المبالغ المالية، التسويق الجيد ولفت أنظار النقاد والقراء إلى الكتاب. أما الوجه الآخر للجوائز فيظهر عندما تصبح لدينا انحيازات لأسباب أخرى غير الأدب، أعني عندما يحكمها نمط من العلاقات والصفقات.
جلعاد النجار والبعد الاستعماري للصهيونية
هو بالإنجليزية Gil Anedjar، ومعرّباً «غل أو جل أنيجار»، لكن أحد دارسي الجماعات اليهودية أخبرني أنه يهودي مغربي واسمه الأصلي «جلعاد النجار»، وتضيف بعض المصادر أنه فرنسي أيضاً. يهوديته الإثنية – وهي غير الانتماء الديني – محل اهتمامه ومنطلق دراساته هو، وربما من أسباب عنايته بتاريخ الأديان والصراعات الدينية، حيث يمارس التدريس في جامعة كولومبيا في نيويورك؛ إذ يعمل أستاذاً لتاريخ الأديان والأدب المقارن في عدد من أقسام تلك الجامعة.
يعد النجار حالياً من أبرز دارسي الأديان الإبراهيمية في الولايات المتحدة، لا سيما ما يتصل منها بالعلاقات التاريخية الثقافية التي ربطت الجماعات اليهودية بأوروبا من ناحية، وبالعرب من ناحية أخرى. كتابه الأشهر «اليهودي، العربي: تاريخ للعدو» (2003) دراسة بالغة الأهمية، وسأعرض لها بعد أن أشير إلى أن له كتباً أخرى مهمة أيضاً منها «الساميون: العرق، الدين، الأدب» (2007)، و«دم: نقد للمسيحية» (2014)، فضلاً عن مشاركاته في عدد من الكتب وترجماته لعدد آخر.
وللنجار مواقف سياسية مثيرة للجدل تتضمن في المقام الأول، ومما يهمنا في الوطن العربي، نقده لإسرائيل بوصفها مشروعاً صهيونياً استيطانياً، ومؤازرته للفلسطينيين مؤازرة تتضح من مطالعة كتابه «اليهودي، العربي» الذي يفتتح بقصيدة لمحمود درويش من مجموعته «لماذا تركت الحصان وحيداً؟». أدى ذلك الموقف إلى قيام ديفيد هوروتز، الأستاذ بجامعة هارفارد، وهو يهودي معروف بيمينيته وصهيونيته المتطرفة، بضم النجار إلى 101 من أساتذة الجامعات الأميركية الذين يتهمهم باليسارية أو الشيوعية، والتأثير على الطلاب من خلال تلك الاتجاهات الفكرية والسياسية، التي منها معاداة اليهود وإسرائيل.
المتأمل في آراء النجار يجده فعلاً معادياً لإسرائيل، ولكن ليس لليهود، معادياً للفاشية الصهيونية وجرائمها في الأراضي الفلسطينية المحتلة وخطابها المليء بالادعاء والكذب. وهو في هذا لا يختلف عن نعوم تشومسكي (أحد الذين ضمهم هوروتز للقائمة المرفوضة من قبله)، أو توني جُت أو جودث بتلر وآخرين ليسوا بالقليلين وقفوا وقفات صارمة ومؤسسة في الوقت نفسه على حجج وأسانيد منطقية ووقائعية مستمدة من التاريخ وممارسات الحاضر.
غير أن نقد النجار لإسرائيل ينطلق، كما هو لدى جُت وبتلر وغيرهما، من القلق على وضع اليهود، القلق المنبعث من الانتماء الإثني والإنساني إلى تلك الفئة. يتضح ذلك من دراسة النجار لعلاقة اليهود بأوروبا من ناحية وبالصهيونية من ناحية أخرى. ففي تلك العلاقة يبدو اليهود جماعات إما مضطهدة وإما توظف لأغراض آيديولوجية/دينية وسياسية. يدرس النجار تاريخ تلك العلاقة بين اليهود ويحلل تمظهراتها السياسية والدينية، مركّزاً على التاريخ الفكري، وليس الاجتماعي أو الديني. فهو معنيّ بمفهوم العدو وتطوره في التاريخ الأوروبي، وفي تحليله يظهر اليهود بوصفهم أعداء دينيين بالقدر الذي أدى في القرن التاسع عشر إلى ولادة مفاهيم مثل السامية وآيديولوجيات مثل الصهيونية تسعى إلى التعامل مع ما عرف بالمسألة اليهودية إما عرقياً (السامية) وإما سياسياً ودينياً (الصهيونية). تصنيف اليهود إلى ساميين جعلهم في موقف الاختلاف تجاه العرق الآري، وسمح فيما بعد بظهور آيديولوجيا التطهير العرقي لدى النازيين، الآيديولوجيا التي استغلها زعماء الحركة الصهيونية لترحيل اليهود إلى أوروبا بوصفهم جماعات غير مرحب بها في تلك القارة «الآرية» أو المسيحية البيضاء.
من هنا تظهر إسرائيل بوصفها صناعة تضافر فيها العداء الأوروبي لليهود والرغبة في التخلص منهم إلى جانب الآيديولوجيا الصهيونية التي وجدت في ذلك العداء تشريعاً لإعادة توطين اليهود في الشرق الأوسط. يقول النجار في حوار أجرته معه إحدى الدوريات بأن أوروبا أقنعت «الصهاينة بأنه ليس لليهود مكان في أوروبا، أو حتى في العالم، وهو موقف ما زال يتبناه بعض الذين يقيمون في أوروبا وغيرها، في أي مكان ما عدا إسرائيل». لكن اقتناع الصهاينة بذلك أو ترحيبهم به لم يعن أن تلك هي الحقيقة لا سيما في العصر الحديث. يؤكد جلعاد النجار ذلك، في الحوار المشار إليه، حين يعبر عن قناعته هو بأن اليهود لا يعانون من وضع أقلوي أو مهدد بالخطر في أوروبا الحديثة، أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية: «أريد أيضاً أن أوضح أن من السخف وعدم المسؤولية القول بأن اليهود في أوروبا الآن أقلية في خطر…». إن كانت هناك أقلية في خطر، يقول الباحث، «فالمسلمون في خطر… وكذلك هم الفقراء والعاطلون عن العمل…».
يواصل النجار تحطيم هذه الأساطير الصهيونية ليقلب بعد ذلك الطاولة على من يتبنونها ويشيعونها في الخطاب السياسي الغربي، فيؤكد في الحوار المشار إليه البعد الاستعماري في المشروع الصهيوني في فلسطين: «الرأي الذي أود التعبير عنه هو أن من المهم جداً أن نواصل التأكيد على البعد الكولونيالي أو الاستعماري للصهيونية، الاستعماري بالمعنى الحصري، المعنى المطلق. من السخف الادعاء بأن إسرائيل لم تقم على أساس استعماري. كان الناس مواطنين في دول، وكانوا يعملون لحساب قوى غربية، وكانت القوى الغربية تعرف ذلك تماماً. كما عرف ذلك هرتزل بالطبع وآخرون».
الأسطورة الأخرى التي يثبت النجار هشاشتها هي أن إسرائيل ليست دولة دينية: «تدعي إسرائيل، على نفس المستوى، أنها دولة علمانية لكن بالطريقة التي تثبت فيها (الجنسية) – مميزة إياها عن (المواطنة) – فإن إسرائيل تؤكد البعد الإثني – بل العرقي – لليهودي وتمحو الاختلاف الديني الذي يظل أساسياً لأساطيرها وسياساتها». هذا البعد الديني يتضح حين ندرك، حسب النجار، أن «الحاخامية هي التي تملك سلطة تحديد من هو اليهودي، الأمر الذي يخلق مشاكل عديدة. الحاخامية تملك السلطة على قانون الأسرة، القانون الذي تتخذ بمقتضاه القرارات (السياسية) المهمة».
هذا التفكيك لهوية إسرائيل والآيديولوجيا الصهيونية التي تحكمها يتواصل في موضع آخر، ومن زاوية مختلفة، حين يتناول جلعاد النجار ما يسميه «دولة الانتحار». هنا يقتبس عبارات لأحد أشهر المدافعين اليهود الأميركيين عن إسرائيل، نورمان بودهورتز، رئيس تحرير مجلة «كومنتري» لعدة عقود، المجلة التي تعد أحد أبرز المنابر للآيديولوجيا الصهيونية في الولايات المتحدة. في تلك العبارات يقول بودهورتز إن إسرائيل تتذكر دائماً قصة «قلعة مسعدة» وانتحار المئات من اليهود حين حاصرهم الرومان قبل ألفي عام، مشيراً إلى أن إسرائيل اليوم ترى في تلك القصة أنموذجاً لما يمكن أن تفعله لو حوصرت، لكن بودهورتز يشير أيضاً إلى أن لدى الإسرائيليين خياراً آخر أو أنموذجاً مختلفاً هو شمشون الذي تقول الحكاية إنه دمر المعبد ليموت هو وأعداؤه.
في ورقته البحثية التي تتناول إسرائيل من حيث هي دولة انتحار، يرى النجار أن ما يقوله بودهورتز يوضح هوية إسرائيل من الزاوية التي يتضح منها أنها كيان سياسي مرتبط عضوياً بالعسكرة، أي الدولة من حيث هي كيان عسكري بالقدر الذي يتجاوز ما تضمنته نظرية المفكر الألماني كارل شمت حول الحرب وعلاقتها بـ«السياسي»، أو ما هو سياسي. يتحدث النجار عن عنف مرتبط بالسياسي وبالدولة ويتمثل بتدمير الذات، التدمير الذي يشير إليه بودهورتز بوصفه خياراً أمام دولة إسرائيل. فالدولة العبرية من ذلك المنظور دولة انتحارية أو مهيئة لتكون كذلك. ويتساءل النجار عن السبب وراء هذه النزعة الانتحارية فيقترح، مستشهداً بآخرين، أنها «تمثل تخلياً عدوانياً من قبل مجتمع عن الذات السلبية المثالية لدى اليهودي الأوروبي القديم»، أي أن اليهودي الإسرائيلي لا يريد أن يكون الضحية مرة أخرى: «ربما يمثل نزوعاً كامناً لدى الإسرائيلي الحديث للقتل العكسي، أي أنه لو اتضح أن كارثة وطنية مثل تلك التي حدثت في الحروب الماضية ستحل أو لو أن أميركا أو قوى أخرى ستقف على الحياد أو تتخلى عن الاستقلال الإسرائيلي، فإن جاهزية إسرائيلية للموت في الحرب ستمثل رغبة إسرائيل في تدمير أميركا أيضاً».