اميركا… وسحر الشرق الأوسط
بين وقت وآخر يصدُر عن مفكرين وكتّاب وحتى رسميين أميركيين على مستويات عدة فكرةُ ضرورة مغادرة الشرق الأوسط، أو تقليل حجم الوجود المباشر فيه خصوصاً في الأماكن المشتعلة، وفق مقاربة بين الخسائر والأرباح وبين التقدم أو التقهقر، غير أن توجهاً كهذا – وإن كان في نطاق اجتهاد فكري نظري، أو سياسي على طريقة الرئيس ترمب الذي فكر فيه بصوت مرتفع وتحدث في القضايا الاستراتيجية بطريقة الاستثمار العقاري والحسابات التجارية – لم تنجُ من طريقته سلباً أو إيجاباً الدول العظمى مثل روسيا والصين، وأوروبا وحلف شمال الأطلسي.
إن توجهاً كهذا كانت تعوقه وحتى تلغيه نظرية مجربة على مدى وقائع ومسارات الشرق الأوسط تقول… حتى لو قررت أي دولة عظمى إدارة الظهر له فستجده أمامها، وإذا ابتعدت عنه فإنه سيجرها إليه؛ ففي شرقه وبحره وخليجه، أهم مخزون طاقة هو الأكثر تأثيراً في معادلات القوة والنفوذ، وفي قلبه كتلة النار دائمة الاشتعال؛ إسرائيل وسوريا ولبنان وقضية الصراع العربي الشامل معها، وفي غربه دول على التماس المباشر مع أفريقيا وأوروبا التي بفعل الحرب المشتعلة في وسطها، تقاربت فيها المسافات، وتداخلت القضايا والمصالح على نحو لم يحدث من قبل، وهذا هو سحر الشرق الأوسط، الذي كلما تعقدت أموره زادت جاذبيته، وكلما فكر أحد في الهروب منه، وجده أمامه كضرورة يستحيل تجاوزها.
الذي دعاني لمعالجة هذه الفكرة هو الجسر الجوي الذي حمل منفذي السياسة الخارجية الأميركية ذهاباً وإياباً إلى المنطقة ومنها، حيث بدأ الأميركيون بالحليف الأقرب إسرائيل، التي استقبلت هادي عمرو في زيارة أولية للملف المغلق الفلسطيني الإسرائيلي، وبعده بقليل جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، وبعدهما الرجل الذي يعد حقائبه للحضور الوزير بلينكن، ولم يبقَ سوى الرئيس بايدن الذي إن لم يزرْ فسوف يزار، وفي كل الحالات جدول الأعمال واحد، وأهم ما فيه مما يقوله الأميركيون عنه هو الذي لم يوضع كبند مباشر وصريح، وهو الوقوف من كثب على واقع التركيبة الحكومية الإسرائيلية المحرجة للأصدقاء، التي أفرزت أول ما أفرزت عدواناً صارخاً انشغل العالم به، وأداه الوزير بن غفير، حين بدأ عهده الحكومي باقتحام الأقصى، والدعوة لهدم منازل الفلسطينيين في المنطقة «ج»، التي هي أكثر من نصف الضفة الغربية غير القدس، والتبشير بنسخة ثانية من حرب حارس الأسوار على غزة، مع فتح قضايا كانت نائمة كقضية الخان الأحمر، وإذا كان هذا الأمر يحتل المرتبة الثانية أو الثالثة في الاهتمام الأميركي، إلا أن ما يجري داخل الدولة العبرية الحليفة من متغيرات جذرية في نظامها السياسي، واضطرابات واسعة النطاق في كل مكان من إسرائيل، أنتج قلقاً أميركياً يستدعي اهتماماً خاصاً على كل المستويات، ما دعا الإدارة الأميركية إلى التدخل المباشر فيه جنباً إلى جنب مع الملف الإيراني، وهو البند الثابت على جدول الأعمال الأميركي الإسرائيلي، مهما تبدلت الإدارات والحكومات.
الأداء الأميركي في الشرق الأوسط، يمتاز بنمطية بلغت مستوى الثابت الذي لا يتغير، أساسه التكيف مع السياسة الإسرائيلية في مجال النزاع العربي الإسرائيلي الذي أساسه القضية الفلسطينية وضبط الاندفاع الإسرائيلي في الملف النووي الإيراني، وهذه الطريقة في أداء السياسة لا توصل إلى حلول، ولا توقف التدهور، فضلاً عن أنها تؤدي إلى انخفاض مطرد في النفوذ يشكو منه الحلفاء والأصدقاء على حد سواء.
صناع السياسة في منطقتنا جعلونا ننظر لكيفية تصرف الأصدقاء التقليديين لأميركا، فيسجل لهم أنهم وسَّعوا دائرة حركتهم، وفق رؤيتهم الخاصة المدروسة والمحسوبة لمصالحهم، وعرفوا أين يضعون أقدامهم على الطريق المكتظ بالمتغيرات، وكيف يديرون سياساتهم من داخل شبكة المستجدات في العلاقات والتحالفات، وإذا كانت أميركا قد تعودت على أن يتكيف الآخرون معها، فقد آن الأوان لأن تتكيَّفَ هي مع سياساتهم المنطلقة من مصالحهم.
كشفت حرب أوكرانيا عن خبايا كثيرة وشديدة الخطورة. لعل أهمها حتى الآن الضعف العسكري الضارب في اثنتين من أقوى القوى في التاريخ الإمبراطوري والحديث: روسيا وألمانيا. الأولى لم تستطع حسم معركتها مع دولة متوسطة، رغم مرور عام على حرب شديدة الشراسة، ولا تزال الخاتمة بعيدة جداً. طبعاً أوكرانيا ليست وحدها ولا أحد يخفي الدعم الذي تتلقاه من دول الحلف الأطلسي.
أما الأخرى، أي ألمانيا، فكان العالم أجمع يصر على عدم توحيدها، وعلى تجريدها من السلاح، والآن يسارع الغرب في دفعها إلى التسلح بعدما اكتشف أن ألمانيا المعزولة السلاح خطر عليه وعلى أوروبا.
في اليوم الأول للهجوم الروسي على أوكرانيا، قال قائد الجيش الألماني ألفونس مايس «إن الجيش الذي لي شرف قيادته، هو مفلس بشكل أو بآخر، واتكال الحكومة على دعم الأطلسي محدود». وكان الجيش قد شارك مع القوات الأميركية في أفغانستان، وله قوة أخرى في مالي مع قوات حفظ السلام الدولية.
أمام هذا الوضع سارع المستشار أولاف شولتس إلى تخصيص 100 مليار دولار لتحديث القوة العسكرية الألمانية. وهذه المرة رحبت أميركا والغرب بالقرار، فيما كان تحديث قوة الشرطة الألمانية في الماضي يثير اعتراض العالم. كانت عودة ألمانيا إلى العسكرية تثير الذعر، أما بعد حرب أوكرانيا فقد أصبحت مطلباً، ولو اعترض عليه البعض مثل فرنسا. وبعدما كانت الحرب العالمية الثانية تساق كمثال ضد العسكريتاريا الألمانية، أصبح الخوف من حرب عالمية ثالثة محفّزاً في الدعوة إلى تسليحها.
الدولتان اللتان خرجتا مهزومتين من الحرب العالمية وجردتا من السلاح، تعودان الآن عن «ثقافة السلام». اليابان بسبب صواريخ كوريا الشمالية ومفرقعات كيم جون أون النووية، والآن ألمانيا التي يذكِّرها سيرغي لافروف كل يوم بأن الحريق النووي ليس بعيداً ولا مستبعداً.
في بداية «العملية العسكرية الخاصة» كانت الأحاديث عن احتمال نزاع نووي تبدو نوعاً من الدعاية الروسية بسبب تخلف قوتها التقليدية. لكن بعد عام من الدمار التقليدي المرعب، أصبح من الضروري أن نأخذ بجديّة أكثر معالم الغضب على وجه لافروف، وفي حنجرة الرئيس بوتين. ولا أحد يستطيع أن ينام مستريحاً إذا فقدت ألمانيا أعصابها. كما يبدو يوماً بعد آخر. كل ذكريات حروب أوروبا تعود إلى الذاكرة.