أمين ألبرت الريحاني: الأديب العربي مهمّش لأنه بات قابلاً بصومعته
يصادف هذا العام مرور 80 عاماً على وفاة الأديب والمفكر الكبير أمين الريحاني. وهو مع ذلك لا يزال حياً، ويعاد إصدار كتبه، وتقام حولها الندوات وتكتب الرسائل الجامعية، كما صدرت أعماله الكاملة قبل سنتين، وترجمات مؤلفاته إلى لغات مختلفة لا تزال متواصلة. أمين الريحاني لم يمت والفضل الأكبر لابن شقيقة الشاعر والباحث الأكاديمي أمين ألبرت الريحاني، الذي يحمل اسم عمه وعبء إرثه الأدبي منذ عقود، وهو الذي يعنى بمتحفه الجميل في مسقط رأسه في الفريكة.
عمل أمين ألبرت الريحاني نائباً لرئيس الشؤون الأكاديميّة في «جامعة اللويزة» في لبنان. وهو حالياً رئيس «مؤسسة الفكر اللبناني» في الجامعة نفسها، له دواوين ودراسات عديدة، وعشق في متابعة مسار الأعلام، وعلى رأسهم عمه وإرثه الذي يعنى به منذ عقود. وهو بمناسبة ثمانين المفكر أمين الريحاني يحدثنا عن رؤيته إلى دور الأدباء المغيب هذه الأيام، رغم الأحداث الجسام التي تمر بها مجتمعاتنا، وتصوره لما يجب أن يكون عليه التعاطي مع تركات الكتّاب التي غالباً ما تهمل حد النسيان. وكيف تمكّن هو بشغف وصبر وعناد من إبقاء أمين الريحاني حياً في الذاكرة.
هنا حوار معه:
تهميش الأديب الكاتب نابعٌ من عدم أخذه مأخذَ الجِدّ. فمن جهة يكتفي الأديب بأن يكون أديباً جماليّاً بعيداً عن الشأن الفكري الذي يُفتَرَض أن يشَكِّلَ مدخلاً لانخراطه بهموم المجتمع، وباباً لالتزامه بقضايا الناس والوطن؛ ومن جهة أخرى يرتضي الأديب بأن يبقى داخل الإطار التقليدي، إطار القضبان المنعزلة عن الصفحات الثقافيّة والمنابر والمؤسسات والأندية مما يعزّز النظرة الخاطئة بأن الأديب كائن مُنزوٍ يهتم بشؤون اللغة والمادة المعجميّة والموسوعيّة والتاريخيّة، وإن ذهب بعيداً فهو يهتمّ بصياغة العبارة الجميلة بعيداً عن مشاكل الناس وهمومهم اليوميّة والمصيريّة. من هنا فإن الأديب بات منعزلاً في مكتبه أو منزله، مستقيلاً من دَور استنهاض المجتمع وإيقاظ المواطنين نحو مسارهم المستقبليّ. وهذا ما جعل الكاتب قابلاً بصومعته، كَسولاً رافعاً عن كَتِفَيه عبءَ القيادة الفكريّة والدور الطليعي والعمل على تكوين الرؤيا المستقبليّة التي تُشَكِّلُ دافعاً للتطوّر والتقدّم.
وهذا الواقع المؤلم، أدّى إلى تراجعه والاكتفاء بخطوات صغيرة أوّليّة كنشر مؤلّفاته نشراً تجاريّاً عشوائيّاً بعيداً عن الخطوات الجادّة التي تشمل التحقيق والتدقيق والتقديم والتوثيق في كلِّ عملٍ كتابي يقومُ به من أجل وضع نتاجه موضع المرجعيّة العلميّة المطلوبة. لذا أجدني في ملامة مباشرة للأديب الكاتب قبل أن أكون في ملامة للآخرين. يعني أن الأديب، هو المسؤول، بالدرجة الأولى عن تهميش المجتمع له وإبعاده وإهماله.
كذلك فإن إهمال الكاتب لدَورِه ونتاجِه يُشَكِّلُ سبباً رئيسياً لإهمال البرامج المدرسيّة للكُتّاب والأدباء ودَورِهم الاجتماعي والوطنيّ. وتصحيحاً لهذا المسار الخاطئ تبدأ من صاحب العلاقة المباشرة قبل الانتقال إلى خطوات أخرى منتظرة من الآخرين، وتحديداً من المدارس وبرامجها، والجامعات ومناهجها، والمجالس والجمعيّات والأندية ونشاطاتها الثقافيّة المختلفة.
> من تجربتك كأكاديمي، هل تُعطي المناهج الجامعيّة ما يكفي من زاد لجعل الطالب قادراً على اكتشاف ذاته وتراثه، وتعويض النقص المدرسي إن كان موجوداً؟
– التقصير الجامعي لا يقلّ عن التقصير المدرسي. لكنه أفدح، نظراً للتوقُّعات الكبرى من الجامعات. وذلك يعود إلى السبب الأوّل، أي تقصير الكاتب، أو المهتمين بإرثه من بعده، تجاه أعماله ونتاجه. وأكبر مثل على ذلك أن إصدار الأعمال الأدبيّة الكاملة لكاتب ما، قليلاً بل نادراً ما يأتي نتيجة جهد أكاديمي متواصل ومعزّز بالتوثيق والتدقيق والتحقيق والتقديم المدروس، إلى جانب تعزيزه بالفهارس والمسارد المطلوبة. عندئذ تجد الجامعات نفسها أمام حدث أدبي وفكري رصين لا يمكن تجاهله أو إهماله.
هل نعلم مثلاً أنّ غبريال غارسيا ماركيز يُعِدُّ العدّة لكتاب جديد له قبل ستة أشهرٍ من صدوره، والحملة تشمل النشر الموضوعي العلمي والإخراج المتقن، والاتصالات الإعلاميّة وتوثيق شبكة المدارس والجامعات، فيأتي الإصدار الجديد حدثاً قائماً بذاته ونتيجة جهد متكامل مع فريق مختص للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأفراد والمؤسسات والمنابر الإعلاميّة.
> قد يعترض البعض بحجّة أنّ ما ينطبق على أديبٍ عالمي، بقدرات ماديّة ومعنويّة فائقة، لا ينطبق على أدباء محلّيين، لا حولَ لهم ولا قوّة.
– قد يكون ذلك صحيحاً، إنما المقصود من هذا المثل لا علاقة له بالقدرات الماديّة والمعنويّة بل بالاستعداد للقيام بمِثْلِ هذه الحملات التي يجب تنظيمُها على المستوى المحلّي أولاً، وذلك ضمن نطاق لجان مصغّرة تضم المؤلف والناشر والموزّع وبعض الأصدقاء للقيام بهذا العمل الضروري والمُجدي.
بالمقابل أرى أنّه آن الأوان للجامعات في أن تعيد النظر ببرامجها ومناهجها المتعلقة بتدريس الأدب، فتدريس مقرّر «التذوّق الأدبي» لطلاب السنة الأولى الجامعية، أو السنة الثانية، لم يعد يلبّي طموحات الطلاب واهتماماتهم الفكريّة والأدبيّة. وقد يكون المقرّر الجديد حول موضوع «دَور الأديب في الحياة العربيّة» أقرب إلى رغبة الشباب الجامعي في اكتشاف ذاتهم الصغرى أوّلاً تمهيداً لاكتشاف ذاتهم الكبرى ثانياً. فمعرفة الذات شرط لمعرفة الوطن، ودَور الأديب مسألة حاسمة في هذا السياق، ودراسة معنى هذا الدَور ومضمونَه ومواقفَه من شأنه أن يساعد الطالب الجامعي على بلورة فهمِه لدَورِ الكاتب في المجتمع، وبالتالي على تعزيز اهتمامه بكُتّاب وطنه وحقيقة دورهم في استنهاض الهِمم وتكوين رؤيا جماعيّة وطنيّة مطلوبة لمواجهة الحاضر والتخطيط للمستقبل القريب والبعيد.
> ما هي السبُل لملء الثغرات؟
– ثمّة خطوات عدّة لا بد من اتخاذها كي يستعيد الأديب دورَه في المجتمع، في وطنه، منها ما هو مُلقَى على عاتق الكاتب نفسه، وبينها: 1) العمل على نشر مؤلّفاته نشراً علميّاً موضوعيّا موثَقاً. 2) تنظيم حملة توعية حول موضوع كتابه وأهميّة هذا الموضوع في استنهاض المجتمع في سبيل التقدّم والتطوّر. 3) العمل مع المدارس والجامعات لتنظيم حركة تواصل ثقافي مع الكاتب والأديب وتنظيم لقاءات معه يستكمل التلميذ فيها مطالعاته حول هذا الكاتب أو ذاك. 4) العمل على حركة إعلامية تتناول الكتاب الجديد ومؤلِّف هذا الكتاب من خلال ندوات تسلّط الضوء على مواقف هذا الكاتب وعلى أبرز خصائصه الكتابيّة ودَوره في الحياة الاجتماعيّة والوطنيّة. 5) صوتُ الكاتب في طرح القضايا الاجتماعيّة والوطنيّة لا يجوز أن يخفُت أو أن يتراجع. بل على العكس، إذ إن المطلوب من الكاتب أن يبقى محتفظاً بمكانته القياديّة الطليعيّة، وأن يستعيد إضرامها إن خفتَتْ وإلا فقد دَوراً لا يجوز التنازل عنه إن آمنّا أنّ الكاتب صاحبُ الموقع الأوّل في التوجيه والاستنهاض على المستويين الاجتماعي والوطنيّ.
> أنت تهتم منذ عقود بالحفاظ على إرث أمين الريحاني، ما الصعوبات التي واجهَتْكَ وأنت تحاول إحياء هذه التركة الثقافية الكبيرة؟
– كلّ أديب متشعّب الاهتمامات والأغراض الأدبيّة ويكتب بأكثر من لغة واحدة يواجه خطر عدم الاستيعاب الكلّي، وبالتالي يصعب فَهمُه ككُلٍّ متكامل. وقد لاحظت تدريجيّاً أن كثيراً من الباحثين أخذوا يتخصّصون في منحى واحدٍ من المناحي الفكريّة المتعدّدة والمتشعّبة لدى الرَّيحاني. وكانت النتيجة أنّ من يعرفه ككاتب مقالات لا يعرفه كقاص وروائي، ومن يعرفه كاتب قصص ورواية ومسرح، لا يعرفه ناقداً صاحب رؤية حيوية معاصرة للأدب، بل أكثر من ذلك، فمن يعرفه أديباً مُتحرّراً لا يعرفه مناضلاً سياسياً، وإن صدف وعرفه في الأدب والسياسة فهو لا يعرفه فيلسوفاً. وفي معظم الأحيان من يعرف فيلسوف الفريكة كاتباً باللغة العربيّة نادراً ما كان ليعرفه كاتباً وشاعراً باللغة الإنجليزيّة.
وإثر مراجعتي لمؤلّفاته العربيّة والإنجليزيّة لاحظْتُ أنّ قلّة منها تأتي على ذكر سائر مؤلّفاته العربيّة، والمسألة عينُها وجدتها في أعماله الإنجليزية. ففي مثل هذه الحال يصبح الكاتب مُوَزَّعاً مُشَرْذماً، بل مُشتّتاً مُبَعثراً بين جميع أغراضه الأدبيّة والفكريّة، وبين اللغتين الموزَّعتَين على مداد قلمه.
> وما كانت الوسيلة لجمع هذا الشتات؟
– سرعان ما أدركتُ أن الحل يبدأ مع مُحَقِّقي ودارسي مؤلّفات الرَّيحاني. وقد عمَدْتُ على توسيع الدراسات الرَّيحانيّة بحيث ألفتُ انتباه الباحثين والمُحَقِّقين، أو مَن ينشغِلُ بكتابة رسالة ماجستير أو ينشغِلُ بأطروحة دكتوراه في ناحية من نواحي الدراسة حول الرَّيحاني أن يوسعَ ملاحظاته وهوامشه لتشمل مجمل نتاج الكاتب في طبعة جديدة من كتبه أو في رسالة ماجستير جديدة، أو في أطروحة دكتوراه حديثة. وقد بدأَتْ ثمار هذا المشروع الجديد تَينَع.
وكان من أبرزها مشروع المؤلّفات العربيّة الكاملة للرَّيحاني حيث أدخلْتُ في المقدّمة، والهوامش، والإحالات، والمسارد، والفهارس كل ما يمكن مقارنته من الوجوه المختلفة، الفكرية والأدبيّة والفنيّة والسياسيّة والفلسفيّة، وباللغتين العربيّة والإنجليزيّة، عند الأديب الذي تمّ جمع نتاجه بلغة واحدة من لُغَتَيه تمهيداً لجمع مؤلّفاته التي تركها بلغة ثانية.
هكذا بدأ الدارسون يطرحون، لا غرضاً واحداً، بل ثيمائيّة واحدة يتابعون دراستها في مختلف الأغراض التي عالجها الأديب باللغتين العربيّة والإنجليزيّة. فالناقد الأدبي لا يستقيم أمره من دون الناقد الفنيّ، والشاعر بلغة معيّنة لا تكتملُ صورته من دون شِعره باللغة الأخرى. والفلسفة الصوفيّة كما عالجها في كتاباته العربيّة النثريّة لا تكتملُ صورتُها من دون الفلسفة الصوفيّة كما عالجها في شِعره الإنجليزي. ومفهوم «المدينة العظمى» كما تناولها في كتابه «الرَّيحانيّات» بالعربيّة تبقى ناقصة من دون العودة إلى «المدينة العظمى» وإنسانها المتفوّق كما ناقشها في كتاب «خالد»، روايته الفلسفيّة بالإنجليزيّة… ونزعته القوميّة العربيّة لا تقتصر على كتابه «القوميّات» إن لم نتابع تردداتها وصداها في كتابه «ملوك العرب».
> ألا تعتقد أن كثيراً من الأدباء في لبنان والمنطقة العربية، لم يكن لهم حظّ الرَّيحاني، وكيف لنا أن نعيد لهم هذا الحضور؟
– يمكن للجواب أن يكون على مستوَيين: الأوّل بالنسبة للأديب نفسه، والثاني بالنسبة للمؤسسات الثقافيّة ومراكز الأبحاث. فالأديب الكاتب يُتوقَّع منه أن يعزّز حضوره الأدبي ودَوره القيادي في المجتمع، بمعنى أن يكون ناشطاً أدبيّاً مماثلاً لما يُعرَف بالناشط السياسي والناشط البيئي والناشط الاجتماعي… فيشكّل حضوراً متواصلاً ومستداماً من خلال نشر المقالات أو المقابلات أو سائر الأغراض الأدبيّة مُرَكِّزاً على فكرة مكانة الكاتب ودَورِه في مجتمعه، خاصّة حين يواجه مجتمعه تحديّات صعبة على مستويات مختلفة، وجميعها يحتاج إلى رأي الكاتب وحضوره وتفاعله مع بيئته ومع ما يعانيه المواطنون اجتماعيّاً وسياسياً.
أمّا المؤسسات الثقافيّة ومراكز الأبحاث فيمكن لها أن تباشر بمشروع مماثل لما نقوم به نحن في «مؤسسة الفكر اللبنانيّ» في «جامعة اللويزة». بدأنا بدراسة أوّليّة لكل شخصيّة من كُتّاب لبنان وأدبائه منذ القرن السابع عشر حتى اليوم، هؤلاء الذين اعتبرهم عبد الرحمن بدوي طليعة الفلسفة العربيّة المعاصرة وطليعة الاستشراق في أوروبا، وبالتالي المؤسسين لحركة النهضة العربيّة.
هؤلاء الذين نعرف أسماء العَلَم لدى كُلٍّ منهم ولا نعرف أكثر من الاسم. انكببنا على مراجعة ما أنجزه كلُّ عَلَم من هؤلاء الأعلام المنسيين وانتهينا بسبعة فصول مخصصة لكلّ كاتب من هؤلاء الكتاب. والفصول السبعة تتوزع على المواضيع الآتية: 1) السيرة المفصّلة مع التدقيق بكلّ المعلومات السابقة وتصحيح الأخطاء التاريخية واللغويّة السابقة؛ 2) إعداد ثبت كامل بكلّ مؤلّفاته مع تصنيفها وتبويبها وضمّ كلّ المخطوطات والأعمال غير المكتملة بحيث يأتي الثبت كاملاً وشاملاً ليُشَكِّلَ مرجعاً موضوعيّاً لمؤلّفاته الكاملة بلغاتها الموضوعة المختلفة؛ 3) وضع ثبت كامل بالترجمات المختلفة التي قام بها، ثمّ ما تُرجِمَ له من مؤلّفات فتكتملُ بذلك حركة التأليف والترجمة لكلّ ما ترك من أعمال أدبيّة وفلسفيّة وتاريخيّة ولاهوتيّة وفقهيّة… 4) بيبليوغرافية شاملة، قدر المستطاع، حول كلّ ما كُتِب عنه من كتب وأطروحات ورسائل وفصول من كتب، ودراسات ومقالات بمختلف اللغات التي يمكن الوصول إليها؛ 5) نماذج من كتاباته بمعدّل ثلاثة فصول أو مقالات مختارة من مؤلّفاته؛ 6) أبرز ما قيل عنه بلغات مختلفة؛ 7) جدول إحصائي بمؤلّفاته؛ 8) جدول إحصائي بالمراجع عنه؛ 9) لائحة بالمراجع التي اعتمدناها في إعداد هذه الفصول.
> كيف يمكن الاطلاع على نتاج هذا المشروع؟
– شملَ المشروع حتى اليوم نحو خمسٍ وعشرين شخصيّة من كبار أدباء لبنان وكُتّابه، من القرن السابع عشر حتى اليوم، ونُشِرَت تلك الفصول لكلٍّ من هؤلاء على موقع إلكتروني باسم المؤسسة، باللغتَين العربيّة والإنجليزيّة. وسنباشر بنشرها أيضاً بالفرنسيّة في شهر أبريل (نيسان) المقبل، ثم بالإسبانية مع مطلع الصيف المقبل. هكذا نكون قد أعدنا الاعتبار إلى الكاتب والأديب في لبنان، ولو بصورة جزئية، تمهيداً لاستعادة مكانته ودَوره في مجتمعه وفي وطنه وفي الحياة العربيّة على السواء.