الثلاثاء الماضي سلمت شركة «بوينغ» آخر طائرة جامبو 747 تخرج من مصانعها. وداعاً للطائرة العملاقة التي غيّرت عالم السفر الجوي منذ تحليقها العام 1969. لقد أدت أدواراً كثيرة، منها أن تنقل 500 مسافر كل رحلة في جميع البلدان، ومنها شحن أطنان السلع، ومنها حمل عربات الصواريخ الهائلة في وكالة الـ«ناسا»، ومنها أن تحمل اسم طائرة الرئاسة الرقم واحدا، عندما يسافر صاحب البيت الأبيض في رحلاته الرسمية. قرأت لطيار سعودي أن الجامبو هي الأسهل قيادة بين الطائرات، ورغم حجمها الهائل، كأنك تقود سيارة عادية… لكن المؤسف أن هذه العملاقة تستهلك الكثير من الوقود بسبب محركاتها الأربعة. ولذلك انصرفت شركة بوينغ ومنافستها إيرباص خلال العقدين الأخيرين إلى تطوير الطائرات ذات المحركين. وهكذا حملت عملاقة الثلاثاء الماضي الرقم 1.574 خاتمةً عصراً جميلاً من عصور بساط الريح الذي ينقل عشرات الملايين من البشر كل عام، أما الطائرة الأخيرة فسوف تذهب إلى شركة الشحن الجوي (أطلس إير).
عمل نحو 50.000 موظف طوال 16 شهراً لإخراج الجامبو الأولى في مصانع بوينغ. وذهل العالم وهو يرى أمامه طائرة طولها 70 متراً، ويعلو ذنبها 6 طوابق عن الأرض، وأطلق عليها علماء الطيران آنذاك اسم «الحوت»، فيما سمّتها الصحافة «ملكة الأجواء».
امتلكت أول جامبو شركة «بان إم» الأميركية، التي سوف تغلق أبوابها بعد حادثة لوكربي الشهيرة. ثم أنتجت بوينغ نموذجاً متطوراً 747–400 أواخر الثمانينات قادرا على القيام برحلة تستمر 20 ساعة. مما يعني توفيراً شديداً في الوقود وسرعة أعلى في النقل من دون الحاجة إلى الهبوط في مطارات متعددة خلال الرحلة. عندما دخلت أول جامبو مسافراً إلى نيويورك 1973 أحسست بأنني أدخل إلى مبنى، أو دار للسينما، مع صف طويل من المسافرين، وكان ذلك بعد نحو 15 عاماً من بدء حياة في السفر على متن طائرة ذات أربعة محركات لها ضجيج، ولا تعلو كثيراً فوق الغيوم، مما يعرّضها للمطبات كلما لاحت غيمة بيضاء، والويل إذا كانت الغيمة سوداء حالكة وغاضبة.
وانتقلنا بعدها إلى طائرة «الكوميت» النفاثة البريطانية الصنع، وكانت مدهشة هي أيضاً بالمقارنة مع ما سبق، ثم صار الطيران كله نفاثاً، وكثرت المنافسات. ظهرت شركة إيرباص كمنافسة للبوينغ الجبارة. ومن ثم أطلق الأوروبيون «الكونكورد»، الأسرع من الصوت، التي مكنت رجال الأعمال من تناول الغداء في باريس والعشاء في نيويورك خلال ثلاث ساعات وربع الساعة. المؤسف أن الكونكورد أُخرجت من الخدمة بعد حادث مريع في مطار شارل ديغول. وعاد الإنسان يسافر خلف الصوت بدل أن يسافر أمامه.
لكن هذه الصناعة التي تشبه الأحلام والخيال معرّضة للخسائر والنكسات أكثر من سواها. كما يحدث عادة خلال الأزمات النفطية الكبرى، أو خلال جائحة عالمية رهيبة كالتي أقعدت الناس في بيوتها رعباً من الموت في جراثيم كوفيد19.
عاماً بعد آخر تتطور صناعة السفر الجوي مثل صناعة السفر البري في السيارة أو القطار. ويبدو أننا اقتربنا كثيراً من عصر التاكسي الطائر. وهناك الآن طائرة تحلّق حول الأرض بالطاقة الشمسية وحدها. كما أعلنت «طيران الإمارات» مؤخراً عن قيام أول رحلة مزودة بالوقود المستدام. ولا ندري على ماذا يعمل العلماء في مختبراتهم السرّيّة للانتقال بنا إلى عصر آخر أبعد -هو أيضاً- من قدرتنا على التخيل.
حازم صاغية:كاينز… أو الوعي المتفاوت!
في 1919 وقف الاقتصاديّ البريطانيّ جون ماينرد كاينز، موقفاً شجاعاً وحكيماً في آن. فبصفته عضواً في الوفد البريطانيّ المفاوض في فرساي، بعد الحرب العالميّة الأولى، كره التنازلات التي فرضها الحلفاء على ألمانيا، وحجم التعويضات المطلوبة التي ستُثقل على مدنيّي ألمانيا الأبرياء. هكذا استقال من الوفد ومن عمله الاستشاريّ في وزارة الخزانة التي مثّلها في المفاوضات. وهو سريعاً ما كتب «الآثار الاقتصاديّة للسلام»، مُظهراً أنّ الحرب دمّرت أساسيّات الاقتصاد الأوروبيّ بينما لم تفعل معاهدة فرساي شيئاً لإصلاحه، ومجادلاً بأنّ على ألمانيا ألّا تستجيب للعقوبات المفروضة، ولائماً الدول الكبرى على وقوفها وراء اتّفاقيّة غير أخلاقيّة، فضلاً عن توقّعه نتائج مُرّة للقسوة على ألمانيا. وإذ أزفت الثلاثينات، بدا واضحاً كم كان موقفه صائباً. فالصعود النازيّ، كما نعلم، كثيراً ما تغذّى على المذلّة والضائقة اللتين أنجبتهما فرساي.
وفي الثلاثينات نفسها، استوت الكاينزيّة مذهباً في المعالجة الاقتصاديّة والمقاربة الأخلاقيّة، فضلاً عن انهجاسها بامتصاص التطرّف. تمّ ذلك مع صدور كتابه الأهمّ «النظريّة العامّة للعمالة والفائدة والمال» (1936)، الذي أرسى أسس النظام الاقتصاديّ الغربيّ بعد الحرب العالميّة الثانية، أي مع وفاة كاينز في 1946 وبعدها. فـ«الثورة الكاينزيّة» كما سمّيت، صانعةً أحد أهمّ اقتصاديّي التاريخ، رأت أنّ من مسؤوليّات الحكومة ضمان العمالة الكاملة، أو ما يقاربها، وهو ما ينجزه تنشيط الطلب كردّ على الانكماش، أي الإنفاق العامّ في البنى التحتيّة والخدمات الاجتماعيّة (بناء طرق وجسور ومستشفيات إلخ…).
والكتاب أعاد التفكير في مسألة البطالة، بهدف إنتاج حلول جديدة لأزمات الثلاثينات، وللرأسماليّة عموماً.
فالاقتصاد الكلاسيكيّ قدّم ثلاثة أسباب للبطالة: تغيير العاملين والعمّال أشغالهم، واختيار الأفراد ألّا يعملوا بالاستفادة من تقديمات الدولة، وارتفاع الأجور بما لا يحتمله أرباب العمل. وفي الموديل الكلاسيكيّ يُفترض بالسوق الحرّة أن تصحّح هذا العامل الثالث آليّاً، بحيث يتساوى عفويّاً عرض العمل والطلب عليه، بلوغاً إلى العمالة الكاملة. لكنّ كاينز خالف النظريّات هذه: ففي الثلاثينات كان الملايين بلا عمل، ما يعطّل التفسير بالعوامل الثلاثة أعلاه. أمّا السبب، عنده، فليس تغيير العمل ولا رفض العمل والكسل أو تدخّل النقابات، خصوصاً أنّ الاقتصاد يومذاك لا يخلق فرص عمل أصلاً، فيما ارتفاع البطالة خلال الكساد الكبير يقلّص نفوذ النقابات. وأمّا الرهان على التساوي العفويّ بين العرض والطلب فيستغرق وقتاً طويلاً لن يبقى بعده، بين الأحياء الحاليّين، من يستفيد منه.
فمشكلة البطالة تكمن، إذن، في نقص الطلب أو انعدامه، والمطلوب بالتالي تدخّلٌ يكسر دورة الركود ويستعيد الازدهار. وإذا كانت الحكومات، إبّان التراجع، تتوجّه تقليديّاً إلى العرض، معوّلةً على أنّه ما يشجّع النموّ ويخلق العمالة، فقد رأى كاينز عدم جدوى العرض في ظلّ طلب بالغ الانخفاض. لذا ينبغي منح الأولويّة للطلب الذي تخلقه الدولة بمشاريعها، عبر الاقتراض لتمويل مشاريع عامّة واستثمارات في البُنى التحتيّة. وفي نقده، لم يغفل عن الشبه بين السلوك التقليديّ للحكومات والعقليّة الأبرشيّة الضيّقة للعائلة التي تميل إلى التقتير عند تبخّر المداخيل، مميّزاً بين إدارة الدول وإدارة البيوت.
أمّا السؤال عمّن ينبغي أن يسدّد القروض، فجوابه أنّ خلق الوظائف عبر المشاريع الكبرى إنّما يوفّر المال الذي كانت الحكومات ستنفقه معوناتٍ للعاطلين عن العمل، كما أنّ ازدياد عدد العاملين سيوسّع الإنفاق ويغذّي الضرائب، وإذ يتحسّن «البيزنس» في هذه الغضون، تتوافر العائدات التي تسدّد الدَّين.
فالرأسماليّة قد لا تكون حميدة، كما رأى آدم سميث، إلا أنّها ضروريّة بقدر ما هو ضروريّ كبح جماحها. وكاينز، برفضه المزدوج للشيوعيّة ولإطلاق يد السوق، كان متفائلاً بقدرة الحكومات، عبر الإنفاق العامّ والتدخّل التنظيميّ (regulation) على تذليل الأمراض التي تنجم عن الرأسماليّة، والرهان تالياً على عصر غير مسبوق في ثرائه.
وتفاؤله هذا بدا أوضح ما يكون في مقالة شهيرة كتبها عام 1930، في ذروة الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، وعنونَها «الإمكانات الاقتصاديّة لأجل أحفادنا». فبنبرة شبه خلاصيّة رأى أنّ معظم الأزمات قابل للتذليل، بحيث يحلّ عصر يغدو معه التحدّي الأعظم للكائنات الإنسانيّة: كيف نملأ أوقات فراغنا في ظلّ بحبوحة على نطاق جماهيريّ؟
إبّان الحرب العالميّة الثانية، قاد كاينز الوفد البريطانيّ إلى مؤتمر برِتون وودز، حيث عالجت الدول المتحالفة اقتصادات ما بعد الحرب. وهو، مجدّداً، كان متفائلاً بقيام نظام كونيّ لتنظيم الاقتصاد، مطالباً الدول، خدمةً للتجارة العالميّة، بتأسيس مصرف مركزيّ عالميّ وعملة سمّاها «بانكور». ولئن لم يؤخذ بالاقتراحات هذه، فإنّ اقتراحاته الأخرى أسهمت في تأسيس البنك الدوليّ وصندوق النقد لتشجيع التجارة الدوليّة.
والحال أنّ الكاينزيّة وأفكار «دولة الرفاه» سادت معظم الاقتصادات الغربيّة بين نهاية الحرب العالميّة الثانية وأواسط السبعينات، حين أسقطها ارتفاع أسعار النفط أربعة أضعاف، لتباشر النيوليبراليّة، بعد سنوات قليلة، صعودها الريغانيّ والثاتشريّ. لكنْ منذ أزمة 2008، وفي أيّامنا هذه تحديداً، يعاد الاعتبار للكاينزيّة مقروناً بالتساؤل عن صعوبات العودة إليها.
في الأحوال كافّة، فـ«اللورد كاينز»، وعلى عكس ما يُظنّ، لم ينتسب إلى حزب العمّال، بل عُرف بتأييده الحزب الليبراليّ. وهو، وإن غازل لاحقاً تيّارات عمّاليّة، حافظ على مواقف متعجرفة من النقابات، كارهاً كلّ حشد جماهيريّ بوصفه قطيعاً.
فمن عائلة ثريّة جاء كاينز، ودرس في مدارس النخبة وجامعاتها، كإيتون وكمبردج، وعلى مدى حياته ظلّ جزءاً من «الإستابلِشمنت» البريطانيّة. وبوصفه ذا اهتمامات أدبيّة وفنّيّة، ربطته صداقات ببعض ألمع المبدعين، وفي عدادهم فرجينيا ولف، كما انتمى إلى جماعة «بلومزبري» الليبراليّة للكتّاب والفنّانين والمثقّفين، التي قادت الهجوم، في العقدين الأولين من القرن الماضي، على القيم الفيكتوريّة في الجنس والاجتماع.
لكنْ ما بين انتقائيّة أفكاره ومحدوديّة زمنه ومعارفه، ناصرَ كاينز خرافة «علم تحسين النسل» (eugenics)، فكانت هذه شهادة أخرى على المسار المتفاوت للبشر. أوَلسنا جميعنا، في وعينا، متفاوتين؟