… سوى الروم
وقد وقع ذلك، جنابك، حوالي الثالثة فجراً. والفجر هنا إشارة إلى الوقت لا إلى علاماته أو معالمه. فما كان ضياء ولا شروق في الانتظار، وإنما سُحُب سوداء ملبدة بحمولاتها من المياه. ترمي الماء، ثم تعبئ، ثم تفرغ. تصخب وتضج وتغضب وتحلك وتنفلت ولا ترف ولا تكف، بل تندفع سريعة أينما حملها جنونها.
ثم الريح تعوي وتشتد وتحني الأشجار من أعناقها عنوة، وفجأة يخترق العتم بريق كهربائي قادم من مغاور الرعب، ثم يكون رعد هائل ودوي عظيم.
ماذا حدث للأرض؟ وماذا حل بالسماء؟ وإذ تنقبض الدنيا على نفسها ويختل توازنها، تنغلق وترسل صوتاً مرعباً وتنهار المباني وترتج الناس في أسرتها وتقوم مذعورة مولية الأدبار إلى الفلاة خوف تداعي الجدران وسقوط السقوف. ولقد خطر لي، جنابك، اللحاق بالخائفين، ولكن إلى أين؟ الأمطار أطنان في السماء، وعلى الأرض بحار. والبرد سكاكين، والظلام عماء كاسح يشل كل شيء. خير لك البقاء مكانك حيث لست مشرداً أو لاجئاً أو نازحاً أو أياً من مسميات الذل البشري، حيث تنمق الجريمة بألفاظ قانونية وبنود شرعية.
في هذه المحنة التي لا وصف لها، ليس لك سوى شاعر العصور: «وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ». مأزق مسدود في كل اتجاه. وبعد طلوع الصباح وظهور شيء من الحركة في الخارج، تبدأ الأنباء بالتسرب. احمد ربك، لأنك حيث أنت. على بعد منك الناس تموت بالآلاف، والمباني تنهار بالمئات، والمنازل أكفان العائلات والأطفال. والدنيا عجز والقوة هوام. العتاة والقساة والمتجبرون، هوام حول ضوء شحيح، يطلبون النجاة. يطلبون ما يرفضون إعطاءه، الرحمة والرأفة والعفو.
راحت الأنباء تتتالى من تركيا وسوريا. ألف ثم ألفان ثم ثلاثة، ثم توقف العد. لكن الزلازل لم تتوقف. ظلت تدك تركيا، وترتد في سوريا، ويشعر بها في مصر والأردن. الهائجة بعد الجائحة. جرثومة صغيرة لا ترى وزلزال هائل لا تقوى على رؤيته.
في ذلك الصباح، جنابك، تعلن تركيا أن عدد سكانها بلغ ارتفاعاً جديداً: 85 مليون نسمة. هل من الضروري إعلان ذلك الآن؟ عدم المؤاخذة. البيان كان معداً ومنتهياً في السجل. ولا بد من إذاعته.
بين عدد الولادات وعدد الوفيات يضيع العدد الأكبر والأهم: ألوف المشردين والمعذبين والبؤساء، الذين لا سقف ولا بساط وقنديل.
حازم صاغية:«المثال الزهديّ»: السلطة لنا والموت لكم!
في المقالة الثالثة والأخيرة من كتابه الصغير «أصل الأخلاق» (1887)، تناول فريدريك نيتشه ما سمّاه «المثال الزهديّ»، كما يتجسّد في الكاهن، بالغاً أعلى تجلّياته في القدّيس. فهو الذي يتطوّع لإنزال الألم بنفسه عن طريق العزلة والعفّة وإماتة الجسد والسعي وراء العذاب وتمجيد الفقر… وفي عرفه ينبغي نبذ العالم ومعاملته كما لو كان خطأً وارتكاباً، كما ينبغي الانشداد إلى ما وراء العوالم (hinterwelt) وما بعد الحياة.
وهذا «المثال الزهديّ» عند الكاهن (وهو ما يجده نيتشه في الفيلسوف والعالِم أيضاً) إنّما هو امتداد لموقفه الشهير من المسيحيّة الذي عبّر عنه في غير موضع وكتاب. وإذا كان لا مهرب، في كلّ تلخيص لأفكار معقّدة كأفكار نيتشه، من الوقوع في درجة من التبسيط والابتسار، فهذا الاحتمال يتزايد في حالة فيلسوف العدميّة الألمانيّ الذي يتداخل في نصّه التحليل والتأمّل والشعريّة ومخاطبة القارئ والتناقض المقيم في بعض عبارات النصّ نفسه (oxymoron).
يبقى، على أيّة حال، أنّ نيتشه رأى في الأخلاقيّة المسيحيّة نقيضاً لأخلاقيّة روما القديمة التي كان يعبّر عنها السيّد المحارب والأرستوقراطيّ الذي تصدر قراراته في الحياة عن قوّته، لا عن ضعفه. أمّا المسيحيّون واليهود ممّن كانوا، في ظلّ الإمبراطوريّة، مسحوقين عديمي القوّة، فحين فشلوا في السيطرة المادّيّة على عالمهم حوّلوا ضعفهم إلى فضيلة، تماماً كمأثور الثعلب الذي لم يستطع الوصول إلى العنب في أعلى الشجرة فقال إنّ العنب حامض. فالأخلاقيّة المسيحيّة، عند نيتشه، أخلاق عبيد وقطيع، يعتنقها الضعفاء والمستَعبَدون وذوو النقص من كلّ نوع. لكنّ تلك الأخلاقيّة هي التي سادت التقليد الثقافيّ والقيميّ الغربيّ على مدى ألفي عام، وقد قدّمت للغرب فكرة خطيرة مفادها أنّ الناس كلّهم متساوون في نظر الله بغضّ النظر عن قدراتهم، هكذا، ومع انتصار «يهودا على روما»، ألحقت المسيحيّة بالثقافة الغربيّة أكبر الإساءات. ونيتشه، لئن شاء أن يضع حدّاً لهذه الحال، كان بديله الرجوع إلى أخلاقيّة البطل الهوميريّ والقيم الحربيّة للعالم القديم. فهذا وحده ما يتيح إنتاج كائنات إنسانيّة متفوّقة ومتحرّرة من براثن أخلاقيّة العبيد ومن ضوابط أيّ إلزام ميتافيزيقيّ.
ذاك أنّ المسيحيّة، كإحدى ثمار اليهوديّة، دينُ كهّان، وقد توجّهت إلى جماهير المسحوقين انتقاماً من السادة المحاربين الذين يقهرونهم عبر خلقها منظومة قيم مضادّة لقيمهم. فالرومان سبق لهم أن أقاموا منظومتهم بالاستناد إلى القوّة والرغبة في السيطرة، ولم يتردّدوا في إنزال الألم بمن لمسوا الضعف فيهم، نابذين ثنائيّة الخير والشرّ، ومعوّلين على ثنائيّة القدرة والعجز التي تنتج النمط الأعلى والأشدّ تفوّقاً من الكائن الإنسانيّ. لكنْ من خلال المسيحيّة، التي قالت لهم إنّ لا عدالة أصلاً على هذه الأرض، وإنّ العدالة تقيم في عالم آخر، انتقم المقهورون فمجّدوا ضعفهم واعتبروه قوّة. والحال أنّ الأفكار هذه ما هي، في تأويل نيتشه، سوى إحباط العبيد وغضبهم وعجزهم وقد حُوّلت تلك الصفات إلى أسطورة تسمح لهم بأن ينتقموا من مضطهِديهم إن لم يكن في هذا العالم، وهو بائس على أيّ حال، ففي العالم الآخر.
والتأويل المسيحيّ هذا إنّما يؤدّي إلى تصغير الحياة والتقليل من شأنها، وإلى احتقار من هم عباقرة ومبدعون ومنجزون وأقوياء من البشر، وتالياً حرمان البشريّة منهم، وذلك لمصلحة ثقافة الشفقة، ولاختراع ثنائيّة «الخير والشرّ»، حيث «كلّ ما يرفع الفرد إلى ما فوق القطيع يُسمّى شرّاً»، فضلاً عن اختراع مفهوم «الضمير»: فإذا كان من الطبيعيّ في البشر أن يسعوا إلى القوّة، وأن يرغبوا في الإفادة من ضعف الآخرين، فإنّ الضمير هو بالضبط ذاك الألم الذاتيّ الناجم عن قمع هذه الرغبة، والكفّ من ثمّ عن إنزال الألم بالآخرين، بحيث يتّجه إلى نفس صاحبه.
لكنّ صاحب «هكذا تكلّم زرادشت»، رغم كرهه للكاهن بوصفه وسيط هذه العمليّة، لا يخفي استحسانه له. فعنده أنّ المهمّة التي يؤدّيها إنّما تستدعي هي أيضاً «إرادة القوّة»، أي نظريّة نيتشه الأثيرة التي رآها التعبير الأرفع عن الإنسان حين يهزم فوضى الحياة ويفرض نظامه عليها.
فرجال الدين هؤلاء إنّما يوظّفون ثقافة القطيع والعبيد لمصلحة سلطتهم التي لا يقيم فيها شيء من الزهد. وهذا إنّما يظهر واضحاً في استعدادهم السخيّ لتكفير الآخرين أو الحكم عليهم بالموت، كما أنّهم إذ يقودون الجماهير في تمجيدها للألم وإنكارها للحياة، وفي تمكينها عبر إسباغ قيمة قصوى على ضعفها، يحتفلون بسلطتهم هذه على الجماهير ويغدون مرجعيّتها المطلقة في تقرير نظامها الأخلاقيّ والقيميّ. هكذا يسيطرون على القطيع ويحكمونه باستخدامهم أنواعاً مختلفة من الأساطير والتقنيات الكلاميّة التي لا تعزّز إلاّ مواقعهم. فإذا شكّل الغضب والرفض الحافز لأخلاقيّات العبيد، استحوذ الكاهن على هذه المشاعر وعاود صياغتها بطريقة ميثولوجيّة قبل أن يستخدمها لفرض السيطرة على القطيع وإلزامه بثقافة يتصدّرها شعور بالذنب على ما لم يقترفه أحد.
بلغة أخرى، يكبر رجل الدين بنتيجة تصغيره الآخرين واستضعافهم.
لقد أثّرت أفكار نيتشه في عدد من أبرز مثقّفي أوروبا، وكان في عدادهم سيغموند فرويد وكارل يونغ وألفرد أدلر، وفي تيّارات وجوديّة ثمّ ما بعد حداثيّة، فضلاً عن قافلة ضخمة من الشعراء والرومنطيقيّين. لكنّ موقفه هذا، إذا ما طرحنا منه سوبرمانيّته وتعاليه وساديّته ومحاولته سَوقنا مجدّداً إلى الطبيعة، يبقى منه ما يذكّرنا بمواقف نعرفها جيّداً في يومنا هذا. فهناك دائماً، في حياتنا وفي مجتمعاتنا، مَن يتولّون تَكريه الناس بالحياة ودفعهم إلى الموت والشهادة، لكنّهم، باليد الأخرى، لا يقتصدون في إصدار أحكام تتّصل بـ«الحياة الدنيا» تكفيراً وتخويناً لسواهم، ماضين في تعزيز سلطتهم المطلقة على قطيعهم الممتثل. وهؤلاء أنفسهم، إذ يرسلون غيرهم إلى الموت، لا يموتون ولا يستشهدون.
هل يستحقّ هؤلاء إدانة نيتشويّة؟ نعم. هل يستحقّون استحساننا لامتلاكهم «إرادة قوّة» يبنونها فوق جثثنا؟ لا.