على وقع الصمت الذي يعم البلاد من شمالها إلى جنوبها بسبب جائحة كورونا، والتي حولت لبنان كغيره من دول العالم إلى مدن وقرى أشباح، جاء قرار المحكمة العسكرية بتبرئة المواطن الأمريكي ذي الأصول اللبنانية، عامر فاخوري أحد أبرز جلادي مرحلة الاحتلال الإسرائيلي، صادماً في الشارع اللبناني. خصيصاً أن لبنان يعيش حالياً عهد نفوذ حزب الله وحلفائه الذين يضعون يدهم على الدولة اللبنانية منذ سنوات.
فكيف تم الإفراج عن فاخوري؟ وما هي كواليس الضغوط الأمريكية على الحكومة اللبنانية، وأين دور حزب الله وحلفائه من ذلك؟
ما الذي حدث؟
مساء الخميس 19 مارس/آذار، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن مواطناً أمريكياً لبنانياً كان موقوفاً لمدة ستة أشهر في لبنان بتهمة تعذيب سجناء عندما كان قياديا في ميليشيا “جيش لبنان الجنوبي” أو جيش “لحد”، الذي تواطأ مع إسرائيل أثناء احتلالها لجنوب لبنان، هو “في طريقه” إلى الولايات المتحدة برغم قرار قضائي في لبنان بمنعه من السفر، حيث تم إخراج فاخوري بطائرة هليوكبتر من السفارة الأمريكية ببيروت الخميس، فيما أكدت وسائل إعلام أمريكية وصوله لمنزله الجمعة، على سرير متنقل.
وأقام عامر فاخوري على مدى عشرين عاماً في الولايات المتحدة. ولدى عودته إلى لبنان في أيلول/سبتمبر الماضي، أُوقف وأطلق القضاء العسكري آلية ملاحقة بحقه، لكن المحكمة العسكرية اللبنانية قررت الإثنين إطلاق سراحه.
وبعيداً عن خطاب “المقاومة”، يرى اللبنانيون أن المحكمة العسكرية تخضع لنفوذ حزب الله منذ سنوات، حيث يمارس الحزب من خلالها “ممارسات ابتزاز المعارضين له” والتي باتت مطلباً أساسياً لمعارضيه بكف يدها عن محاكمة المدنيين وحصرها بالعسكريين. ويعتبر إطلاق سراح آمر سجن الخيام في جنوب لبنان في عهد الاجتياح الإسرائيلي، نقطة مفصلية في تاريخ مرحلة حكم الحزب ومشروعه المبني على المقاومة والممانعة ضد إسرائيل وحليفتها أمريكا.
ضغوط أمريكية وخوف لبناني
كان عامر فاخوري مادة التجاذب بين نواب الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي في الكونغرس الأمريكي مؤخراً، وقد أجمع نواب الحزبين على وجوب إطلاق سراحه واستعادته، وصولاً إلى حدّ التقدم بمشروع قانون إلى الكونغرس ومجلس الشيوخ لفرض عقوبات على لبنان، بسبب احتجاز “حرية مواطنين أمريكيين”.
فيما هدد وزير الخارجية مايك بومبيو أكثر من مرة بأن “لبنان سيكون أمام عقوبات قاسية، بحال استمر في احتجاز فاخوري”. وقد أجرى الوزير الأمريكي أكثر من اتصال بالمسؤولين اللبنانيين لإيجاد أي ذريعة لإطلاق سراحه.
وبحسب مصادر عربي بوست، قبيل مغادرة السفيرة الأمريكية إليزابيث ريتشارد لبنان، لمناسبة انتهاء مهامها، طالبت كل المسؤولين بإطلاق سراح فاخوري، وأملت أن يرافقها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لكن رجاءها لم يتحقق، فيما حصلت على وعد بأن يتم العمل على إطلاق سراحه سريعاً. وصلت السفيرة الجديدة دورثي شيا إلى بيروت. وعند لقائها مع رئيس الجمهورية والمسؤولين الآخرين، جددت المطالبة بفاخوري، محذرة من أن يؤدي استمرار توقيفه إلى مزيد من التشدد الأمريكي تجاه لبنان.
استمرت واشنطن في ممارسة الضغط، حيث كان اجتماع الغداء الذي جمع الوزير السابق جبران باسيل مع السفيرة الأمريكية السابقة، والتي غادرت لبنان منذ مدة قصيرة حافلاً بقضية فاخوري، بعكس ما أشيع عن الموضوعات المتناولة على طاولة منزل باسيل، وبحسب المصادر، كانت السفيرة الأمريكية تجدد القول لباسيل إن مفتاح الحل لإعادة تواصله مع واشنطن يمر عبر فاخوري، لأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتابع عن كثب قضية الرجل ويشدد على أهمية إطلاق سراحه بسرعة وإلا “فإن لبنان لن ينعم هانئاً في ظل وضعه المتردي جراء سياسات إيران وحزب الله”.
باسيل طلب من حزب الله إنقاذ الموقف
وتلقى رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل أكثر من رسالة، حول ضرورة إنهاء هذا الملف. طلب باسيل من حزب الله ثلاث مرات مساعدته على إطلاق سراح فاخوري. لكن الحزب لم يعط جواباً واضحاً، مفضلاً عدم التدخل بهذا الموضوع، لأنه لا يمكن التساهل في هكذا قضية ستثير اللبنانيين.
كما أن الحزب لم يكن مستعداً لتكرار تجربة العميل فايز كرم (قيادي في التيار الوطني الحر). أصر باسيل على طلبه. فطلب مساعدة حزب الله له بشكل شخصي، لأن استمرار توقيف فاخوري سيؤدي إلى فرض عقوبات على باسيل، خصوصاً أن هناك رأياً أمريكياً بأنه تم تشجيع فاخوري على العودة في ظل إثارة ملف إعادة المبعدين من إسرائيل، ولكن تم توقيفه والجميع أراد التنصل منه.
كرر باسيل مطالبه، لتجنب تعرضه لعقوبات أمريكية. وهو كان يبحث مع حلفائه السياسيين في كيفية تحسين علاقاته الخارجية، واتخاذ مواقف تؤدي إلى إعادة تعويمه دولياً، بعد كل المشاكل التي عاناها سابقاً، والتي بحال استمرارها ستؤدي إلى المزيد من محاصرته.
“مخرج قانوني”
ظل حزب الله على موقفه الرافض من الموضوع لأنه بات يدرك أن سمعته السياسية على المحك في التعاطي مع هذا الملف الحساس لبيئته، لكن يبدو أن أحد مستشاري باسيل همس في أذنه، ليتم إخراج الملف بشكل “قانوني”، من خلال اقتراح صيغة تم تطبيقها على مقاتلي الحرب الأهلية، بذريعة سقوط الاتهامات الموجهة إليه بفعل مرور الزمن.
أقنع باسيل قيادة حزب الله بالصمت حيال إخراجه، ولهذه الغاية، عقدت جلسة المحكمة العسكرية بشكل سري يوم الأحد 15 مارس/آذار، وطرح ملف فاخوري على التصويت. وصوّت لصالح إطلاق سراحه ثلاثة قضاة بينهم رئيس المحكمة العسكرية العميد حسين العبدالله المحسوب على حركة أمل، والمدعي العام القاضي بيتر جرمانوس المحسوب على التيار الوطني الحر.
وفيما حاول أهل الحكم قبل فترة الضغط على القاضية نجاة أبو شقرا المحسوبة على الزعيم الدرزي وليد جنبلاط لإطلاق سراحه، أو تحميلها ومن خلفها جنبلاط مسؤولية الإبقاء على توقيفه، ليتعرض إلى ضغوط أمريكية، إلا أن أبو شقرا صوتت ضد القرار. وفي الأساس، هناك إصرار من قبل أهل الحكم على تبديلها من منصبها بسبب قرارها الأول الذي طلب إنزال حكم الإعدام بحق فاخوري.
حزب الله يمرر الملف
تؤكد مصادر مطلعة لعربي بوست، على “استحالة صدور حكم بهذا التوصيف، وبما له من وقع ثقيل على القضاء وعلى القوى السياسية وما له من أثمان شعبية، ما لم يكن حظي بمباركة “حزب الله” أو غضّ الطرف عنه”. ولا تستبعد المصادر أن يكون الحزب، الذي يحتفظ بالوكالة الحصرية للمقاومة، ويتعهّد دائماً بتعقب العملاء وعدم التساهل معهم، “أمر بتمرير الضوء الأخضر إلى المحكمة العسكرية الخاضعة كلياً لسلطته، عبر رئيس مجلس النواب أو مقرّبين منه”.
ولم تجد المصادر في البيان الشديد اللهجة الصادر عن “حزب الله” صباح الثلاثاء، وبعد ست ساعات على إعلان “الحكم الفضيحة” ونشره، إلّا “محاولة لحفظ ماء الوجه، وتبرئة نفسه من تبعاته”
مخالفات قانونية بالجملة
يرى المحامي محمد صبلوح وهو المتابع لقضايا المحكمة العسكرية أن المخالفة القانونية الأولى كانت بالسماح لفاخوري بالاقتراع في العام 2018 في السفارة اللبنانية في واشنطن، حيث إن على الرجل مذكرات توقيف تمنعه من حقه في الإنتخاب، ثم مجيئه إلى لبنان على الرغم من وثائق الاتصال بحق فاخوري والذي يعني اعتقاله مباشرة فور وصوله إلى لبنان. في حين أن جهاز الأمن العام اللبناني أجرى معه تحقيقاً في المطار ثم صرفه مباشرة.
يقول صبلوح لعربي بوست: فور شيوع نبأ وصول فاخوري إلى لبنان وجد حزب الله نفسه محرجاً أمام جمهوره الأمر الذي دفعه للطلب من الجهات المختصة باعتقاله وتحويله للمحكمة العسكرية، ويشدد صبلوح أن القاضي بيتر جرمانوس مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية حاول مراراً التهرب من ملف فاخوري لما يشكله من تصادم مع الأمريكيين، وحاول في مرات عديدة تحويل الملف لمفوض مساعد له، فيما يتشدد جرمانوس ويتفرد بملفات الموقوفين الإسلاميين.
وفي النهاية، يرى صبلوح أن رئيس المحكمة والذي استقال صباح الجمعة 20مارس/آذار، عبارة عن كبش فداء لصفقات أهل الحكم مع واشنطن لتمرير طموحهم الشخصي ولتجنب الغضب الأمريكي.
من هو الفاخوري “جزار الخيام”؟
كان فاخوري (57) عاماً، يعتبر قيادياً في ما كان يعرف بـ “جيش لبنان الجنوبي”، وهي ميليشيا مسلحة كانت تتعامل مع جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان خلال الثمانينيات والتسعينيات.
ويتهم فاخوري بالعمالة للاحتلال، والتعاون في قضية خطف مواطنين لبنانيين واعتقالهم وتعذيبهم داخل سجن الخيام عام 1998، وتعذيب عشرات آخرين. واعترف فاخوري خلال التحقيق بتعامله مع “إسرائيل”، وبحصوله، بعد فراره إلى تل أبيب، على هوية وجواز سفر إسرائيلي، غادر به المنطقة، واستقر في الولايات المتحدة.
تم إسقاط جميع التهم
بحسب صحيفة الغارديان البريطانية، تم انتشال فاخوري من السفارة الأمريكية في الضواحي الشمالية لبيروت في وقت مبكر من مساء الخميس، على متن مروحية أمريكية من نوع V-22 اوسبري.
وتقول محامية فاخوري، سيلين عطاالله، لصحيفة الغارديان إن موكلها عمل في السجن لكنه لم يتورط في التعذيب أو أمر به، وقالت: “كان موقفه في سجن الخيام لوجستياً بحتاً، لم يكن لديه اتصال بالسجناء”.
وأكدت المحامية للصحيفة البريطانية، أنها “حصلت على تأكيدات من مسؤولين رفيعي المستوى في لبنان بأن التهم أسقطت”.