كتب سمير عطا الله:حرب المناطيد
تبدأ مسرحية «فخر الدين»، للأخوين رحباني، بمشهد الممثل روجيه عساف جالساً في مكان عام يحاول الإصغاء إلى ما حوله. يشتبه أحدهم بأمره فيسأله: «شو عم تعمل هون؟» فيجيب بسذاجته الواضحة «عم اتجسس».
في الوقت الذي بلغت تقنيات التجسس الجوي مستويات وأدوات أبعد من الخيال، عاد الصينيون إلى زمن المناطيد يرسلونها في فضاء القارة الأميركية من أجل تصوير الشواطئ والسواحل. مع أن البنتاغون يصر على أن المنطاد كان يحلق فوق «مدن حساسة» في غرب الولايات المتحدة. وفي المقابل، يصر أبرياء الصين على براءة المنطاد الذي يساوي حجم ثلاث باصات، ويقولون إنه كان يتفقد أحوال الطقس، لكنه تاه في الفلوات السبع، وهي حمله الهواء، أو الهوى، إلى أجواء أميركا.
شكراً للتوضيح. ولكن يا عزيزي المستر تشو وانغ تشي، كنا نعتقد أنه يمكن الحصول على أحوال الطقس من أي نشرة أخبار صباحية، أو مسائية. لذا اعتقدنا أنها دعابة صينية مسلية.
غير أن المسألة بدت خطرة حقاً عندما أسقط الأميركيون بعد المنطاد «جسماً» ضخماً في شيكاغو، ثم جسماً مخروطي الشكل في بلاد الإسكيمو. إذن، المسألة أكثر جدية من بالونات ضيعت طريقها. وهكذا، عادت المخيلات والأدلة إلى زمن الكائنات الفضائية التي ملأت أخبارها الأرض طوال سنين، من دون العثور على أثر لها. وقيل فيما بعد إنها كانت جزءاً من حرب الأعصاب مع الروس.
لكن الكلام حول المشاهدات الفضائية الأخيرة رسمي كله، وصادر عن وزارة الدفاع. وهو لا يستبعد أن تكون الأجسام الطائرة مرسلة من الكائنات المجهولة. وقد أسقطت ثلاثة منها يجري البحث في بقايا واحد أمكن العثور عليها.
حالة طوارئ من أقصى الأجواء الأميركية إلى أقصاها. والمستر بايدن متهم بالتقصير لأنه تردد في إعطاء الأوامر بإسقاط الأجسام، أما البيت الأبيض فقال إن القرار اتُّخذ بقصف «الجسم» فوق البحر، خوفاً من أن يكون حاملاً مواد مشعة تؤذي السكان، ولذا كان التأخير.
في كل حال، قصة طريفة لم نسمع بمثلها منذ اختراع المنطاد منتصف القرن التاسع عشر. وارتبطت سيرته منذ البدايات بالحكايات الرومانسية، وأشهرها الرواية التي كتبها الفرنسي جول فيرن (1876) بعنوان «حول العالم في ثمانين يوماً». وكان الفرنسي من رواد رواية الخيال العلمي فوق الأرض وتحت البحار.
عثمان ميرغني:حرب الأجسام الطائرة
لولا جدية وخطورة إسقاط الولايات المتحدة وكندا 4 أجسام طائرة «غامضة» خلال الأيام القليلة الماضية، لشبّه المرء أجواء الإثارة التي رافقتها بأفلام الخيال العلمي التي تنتجها أستديوهات هوليوود. فشريط الأحداث، منذ رصد منطاد ضخم في أجواء الولايات المتحدة أواخر الشهر، ثم إسقاطه بصاروخ من مقاتلة أميركية في 4 فبراير (شباط) الحالي، وما أعقب ذلك من الإعلان عن رصد 3 أجسام طائرة غامضة، وإسقاطها في أميركا وكندا، خلق أجواء الإثارة والترقب بين الناس، خصوصاً مع التغطية الإعلامية المكثفة للتطورات.
لكن الأحداث أثارت في الوقت ذاته كثيراً من التساؤلات بشأن العلاقات الأميركية – الصينية التي تشهد توتراً متزايداً بات يثير القلق من أن يخرج عن السيطرة، ويتحول من حرب باردة إلى مواجهة خطرة في أي من الجبهات المفتوحة بين القطبين المتنافسين.
أميركا اتهمت الصين بشكل مباشر في موضوع المنطاد الذي رجحت أنه كان للتجسس، لكنها تركت موضوع الأجسام الثلاثة الأخرى محاطاً بكثير من الغموض والأسئلة. الأمر الذي غذى التكهنات التي سرت بين الناس حول ماهية هذه الأجسام، إلى الحد الذي جعل كثيرين يتساءلون في وسائل الإعلام الأميركية عن فرضية «كائنات من الفضاء الخارجي».
تصريحات أحد جنرالات قوات الدفاع الجوي الأميركية سرت كالنار في الهشيم في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى كثير من وسائل الإعلام، لأنها زادت الغموض حول ماهية هذه الأجسام الطائرة. فالجنرال غلين فانهيرك، قائد قيادة الدفاع الجوي لأميركا الشمالية (نوراد) التي تضم الولايات المتحدة وكندا، عندما سئل عن فرضية أن تكون هذه الأجسام الطائرة من الفضاء الخارجي، أي من كوكب آخر، لم يتبن نفياً قاطعاً، بل ترك الباب مفتوحاً أمام «جميع الاحتمالات».
إمعاناً في الغموض، قال الجنرال فانهيرك إنهم لم يتمكنوا من تحديد ماهية هذه الأجسام، ولا مصدرها، أو الكيفية التي تحلق بها، ولذلك استخدموا تعبير «أجسام طائرة» وليس مناطيد في الحديث عنها.
البيت الأبيض سعى لإخماد نيران هذه التكهنات بإعلانه أنه لا وجود لأي دليل على أن الأجسام الثلاثة الأخيرة التي أسقطت لها علاقة بأي نشاط خارج كوكب الأرض، أو أنه توجد أي مؤشرات على وجود كائنات فضائية. كذلك صرح المتحدث باسم البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي جون كيربي، أول من أمس، بأن أجهزة الاستخبارات الأميركية ترى أن هذه الأجسام لم تكن ذات أهداف «خبيثة» وأنها قد تكون نوعاً من المناطيد المرتبطة بأغراض تجارية أو أبحاث علمية. الأهم من ذلك أنه أكد عدم وجود ما يدل على أن هذه الأجسام مرتبطة بالصين.
كلام كيربي بدا متناقضاً مع تصريحات تشاك شومر، زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، الذي قال إن المنطاد الذي أسقط في 4 فبراير والأجسام الطائرة الثلاثة الأخرى التي أسقطت فوق الولايات المتحدة وكندا خلال الأيام الماضية، كانت كلها «مناطيد مراقبة».
السؤال المحير هو؛ لماذا كل هذه الضجة الآن؟
فليس سراً أن الصين لديها برامج تجسس على أميركا وحلفائها، مثلما أن أميركا لديها برامجها للتجسس على الصين وروسيا وكثير من الدول. فالتجسس بين الدول أمر متعارف عليه ويحدث بانتظام، ونفاجأ أحياناً بأنه يحدث بين الحلفاء، مثلما حدث عندما تفجرت ضجة حول عمليات تنصت قامت بها الاستخبارات الأميركية إبان رئاسة باراك أوباما على مكالمات قادة أوروبيين، من بينهم المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل. وليس هناك أدنى شك أن أميركا والصين تستخدمان مختلف الوسائل التقليدية وغير التقليدية للتجسس، إحداهما على الأخرى، من استخدام العملاء على الأرض، إلى توظيف جميع أشكال التكنولوجيا المتطورة لجمع المعلومات، بما في ذلك استخدام الأقمار الاصطناعية واختراق شبكات الكومبيوتر وأنظمة الاتصالات.
وخلال الضجة الأخيرة، اتهمت بكين الولايات المتحدة بأنها أطلقت أكثر من 10 مناطيد منذ مايو (أيار) 2022، حلقت على ارتفاعات عالية، وأن بعضها انتهك المجال الجوي فوق الصين ودول أخرى، وهو الأمر الذي نفته السلطات الأميركية.
واشنطن ذاتها أكدت هذا الأسبوع أنها تعلم منذ فترة بأن الصين لديها برنامج مناطيد تحلق على ارتفاعات عالية لجمع المعلومات الاستخباراتية، وهو الأمر الذي يفسر التصريحات التي نقلتها صحيفة واشنطن بوست عن مسؤولين أميركيين هذا الأسبوع بأن أجهزة الاستخبارات الأميركية تابعت على مدى أسبوع رحلة المنطاد الصيني منذ لحظة انطلاقه من جزيرة هينان الصينية حتى دخوله الأجواء الأميركية. أكثر من ذلك أن أميركا رصدت قبل ذلك عدة عمليات تحليق لمناطيد صينية فوق غوام وهاواي، وكان الرأي السائد هو أنها تابعة للجيش الصيني، وأنها مخصصة لجمع معلومات استخباراتية عن المواقع والمنشآت العسكرية الأميركية.
من هذا المنطلق، فإن أميركا تعاملت مع المنطاد الأخير على أنه لم يكن مخصصاً لدراسة الطقس مثلما أعلنت بكين، وإنما كان جزءاً من عمليات المناطيد التي كثفت منها الصين خلال السنوات الأخيرة، في ظل التوتر الشديد بين القطبين. الأمر غير الواضح هو ما إذا كان المنطاد قد أرسل عمداً ليحلق فوق مناطق عسكرية حساسة في العمق الأميركي، منها مواقع نووية في مونتانا، أم أنه دخل الأجواء الأميركية نتيجة انحرافه عن مساره بسبب الرياح، كما قالت بكين. في كل الأحوال، فإن السلطات الأميركية اتخذت قرار إسقاطه، ليس باعتباره تهديداً للملاحة الجوية كما قيل، وإنما لأنها صنفته تهديداً أمنياً، بدليل أنها تركته يحلق لأيام فوق أجوائها منذ رصده لأول مرة في 28 من الشهر الماضي، حتى إسقاطه في 4 فبراير. الأمر الآخر أن إدارة بايدن قررت أن ترسل إشارة قوية لبكين، وفي الوقت ذاته لم تكن تريد أن تبدو ضعيفة أو مترددة في نظر الأميركيين، ولا سيما أن الرئيس بدأ استعداداته للترشح لانتخابات 2024.
التضخيم الإعلامي الذي رافق عملية المنطاد منذ رصده، وطوال فترة تحليقه فوق الأجواء الأميركية قبل إسقاطه، ربما لعب دوراً أيضاً في تحفيز الإدارة الأميركية لكي تقوم بخطوة تكون رسالة للصين وللداخل الأميركي بأن الحكومة لديها القدرة على الرصد والرد بحسم. فالرد كان عسكرياً بإسقاط المنطاد، ودبلوماسياً بإلغاء الزيارة التي كان من المقرر أن يقوم بها وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى بكين.
قضية الأجسام الطائرة صبّت بالتأكيد مزيداً من الزيت على النيران، ورفعت درجة الحرارة والتوتر بين الصين وأميركا، مثلما حفزت كثيراً من الدول لمراجعة بعض إجراءاتها الأمنية لمواكبة المتغيرات في سبل ووسائل التجسس. المهم؛ إلى أين تتجه العلاقات الأميركية – الصينية من هنا؟ فالضجة التي أثيرت خلال الأيام الماضية تبدو كأن فيها شيئاً من التضخيم، وقياساً على ذلك يمكننا أن نتوقع فصولاً أخرى في المواجهة التي لم تعد صامتة في معركة السباق على الريادة في المسرح الدولي بين أميركا التي تقاتل لاستمرار هيمنتها، والصين التي بدأت «تفرد عضلاتها» بشكل متزايد مع نمو قوتها الاقتصادية والعسكرية.