لم يكن الناس في حاجة إلى تفشي وباء «كورونا»، لكي يتوجسوا خيفةً من الشيخوخة، ويعملوا جاهدين على تأجيل استحقاقات أعراضها المؤلمة. وإذا كانت العلوم المعاصرة قد نجحت إلى حد بعيد في إطالة معدلات الأعمار وتوفير أوسع الضمانات الصحية والاجتماعية والنفسية للمسنين، فإن ذلك كله لا يبدل كثيراً من حقيقة كون الشيخوخة هي خاتمة الرحلة، كما هي خط التماس المباشر مع الموت. ولعل ما عمّق شعور المسنين، في الآونة الأخيرة، بوطأة الزمن، هو تأكيد الأطباء وأهل الاختصاص على كون أجسادهم الهشة قد باتت أهدافاً مثلى لوباء «كورونا» الممعن في استشرائه. في حين أن الأجيال الأصغر سناً تستطيع، بما لديها من حيوية ومناعة عالية، أن تتجنب بنسبة أكبر تبعات الوباء ونتائجه الكارثية. ومع أن الكثير من الدراسات والبحوث المعاصرة، كانت قد غيرت الكثير من الصور النمطية للشيخوخة، وخلصت إلى الاستنتاج بأن سعادة الإنسان الحقيقية تبدأ مع بلوغه الستين، إلا أن مثل تلك الاستنتاجات ظلت مشروطة بالوضع الصحي والمادي للشخص المسن، وبما توفره المجتمعات لكهولها المتقاعدين من أسباب الراحة والأمان والعيش الكريم. كما أن السعادة المشار إليها هي سعادة مثلومة بالمأساة؛ لأنها ناجمة عن جنوح الإنسان إلى الاستكانة والتسليم، بعد أن زالت الفوارق الفاصلة بين المتاح والمتخيل، كما بين الوقائع والأحلام.
وإذا كنا لا نملك مقاربة واحدة لهذه الحقبة الحرجة من العمر، فلأن الحقيقة دائماً ملتبسة وحمالة أوجه، ولأن الرؤية إلى الشيخوخة تتفاوت بتفاوت الوضع الصحي والنفسي والذهني لأولئك الذين يخوضون هذه التجربة على أرض الواقع. فلا يمكن أن يرى إلى هذه المرحلة بعين الأمل، من يكون مقعداً وعاجزاً عن الحركة وعالة على الآخرين. أو ذلك الذي تتقهقر حواسه ويضمر جسده وتشحب ذاكرته، بحيث يصح فيه قول الآية الكريمة «ومِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ»، بما يحول المسنين إلى عمال مياومين لدى الزمن، والشيخوخة إلى مجرد مناسبة للتدرب على الموت. والأدهى من كل ذلك أن نعمة التقدم في السن لا بد أن تتحول إلى نقمة، حين ينظر المرء حواليه ليتبين له أن أحداً من الذين شاطروه رحلة العمر لم يعد على قيد الحياة، وأن القمة الزمنية التي يتربع فوقها، ليست سوى مكان للوحشة والصقيع والوساوس المتلاطمة. لكننا لن نُعدم، في الجانب الآخر من الصورة، من يرى في الشيخوخة فرصته الملائمة لاستعادة تلك الوداعة الهانئة التي سلبتها منه سنوات العراك الضاري مع الحياة، أو من يرى فيها «طفولة ثانية»، وحدائق لرغد العيش شبيهة بتلك التي أحاطت بنا في مطالع العمر. أما الكتّاب والمشتغلون بالأدب والفن، فإنهم يرون إلى المسألة من زاوية مختلفة تتعلق بنضوبهم الإبداعي أو بقدرتهم على الخلق، حيث يمكن للشيخوخة في الحالة الأولى أن تداهمهم في سن مبكرة، بينما يتمكنون في الحالة الثانية من الاحتفاظ بجذوة الشباب عصية على الانطفاء.
من الطبيعي إذن أن تشكل الشيخوخة والتقدم في السن مادة دسمة للرواية، كما للشعر وسائر الفنون الأخرى. ذلك أن الفن في جوهره لا يعمل على مقارعة فكرة الموت فحسب، بل يعمل أيضاً على تشتيت المخاوف المتصلة بالشيخوخة وتصدع الحياة وفقدان الأمل. وإذا كان من المتعذر على مقالة واحدة أن تتعقب انعكاسات الشيخوخة في الرواية والشعر، فإن هذه المقالة ستكتفي بالحديث عن الأولى، في حين سيكون الثاني محوراً لمقالة لاحقة. والحقيقة أن الرواية باعتمادها على التذكر وتتبع تفاصيل الحياة المنقضية، تمتلك مساحة أوسع مما يمتلكه الشعر، لتتبع أحوال الناس في كهولتهم وشيخوختهم المتأخرة. على أن صوَر المسنين في الروايات كانت متباينة تماماً، بحيث بدوا في بعضها كائنات ضعيفة ويائسة يتحكم به هاجس الموت، فيما بدوا في بعضها الآخر مفعمين بالحيوية ومتشبثين بأهداب الأمل ومتنكبين لكل أشكال المصاعب والمغامرات. ففي بعض الأعمال الروائية شكّل الأبطال المسنون نماذج للعيش ولمجابهة الصعاب، عمل الكثير من القراء على التماهي معها أو الاقتداء بها، كما هو حال سانتياغو، بطل همنغواي العجوز في رواية «الشيخ والبحر»، الذي يبدو لشدة مراسه وعناده شبيهاً بأبطال الأساطير والملاحم القديمة. إذ هو يلح على انتزاع رزقه من جوف المياه العمياء، ويخوض مع البحر صراعاً لا هوادة فيه. وهو إذ تتقاسم أسماك القرش لحم سمكته العملاقة، يجهد في جرّ هيكلها العظمي إلى الشاطئ، لكي يقدم للوافدين أمثولة التحدي والإصرار على المجازفة، بصرف النظر عن النتائج. وفي روايته «ناراياما» يقارب الكاتب الياباني فوكازاوا مسألة الشيخوخة من زاوية مختلفة لا تشيع فيها مناخات العزلة وأحزانها فحسب، بل هي تظهر أيضاً روح القبول القدري بالصيرورة، وبتسليم راية العيش من جيل إلى جيل. فالأرض في مناطق الأرياف الفقيرة والنائية لا تستطيع التخلي، وفق فوكازاوا، عن شبابها المفعمين بالنشاط والقادرين على حراثتها وتجديد عهدها مع الخصوبة. لكن لا يضيرها بشيء التخلص من أعدادها الزائدة الممثلة بعجائزها وشيوخها المسنين. وحيث تشحّ المحاصيل في «القرية المقابلة» ولا تكفي لسد رمق الجميع، تصبح رحلة الحج إلى جبل ناراياما المقدس بمثابة ذريعة مثلى للتخلص من هؤلاء العجائز الذين ينافسون الأبناء والأحفاد على لقمة العيش.
لكن المعتقدات البوذية الشعبية التي تلجأ إلى المقدس الديني لحل أزمة الجوع، تبتكر طريقة مثلى لحث المسنين على الصعود، حيث إن الخيرين منهم هم وحدهم الذين يتمكنون من بلوغ القمة، ليُدفنوا تحت الثلوج ويتحولوا إلى زهرة لوتس، كما حدث لأورن، الأم الطيبة والحنون. أما اللص البخيل تامايان، الذي يصطحبه ابنه الأكبر قسراً إلى رحلة الموت، فهو ما يلبث أن يسقط في منتصف الطريق ليتحول إلى وجبة دسمة للغربان الجائعة.
وقد ظهر التباين نفسه جلياً وواضحاً في الروايات التي اتخذت من قضيتي الحب والشغف محوراً لها. ولعل الرواية الأشهر التي انتصرت للحب وحولته إلى تعويذة ناجعة لقهر الزمن، هي رواية غابرييل غارسيا ماركيز الشهيرة «الحب في زمن الكوليرا»، التي يُقبل الآلاف على قراءتها في هذه الفترة، ليس فقط لأن بطلها فلورنتينو يصر على انتظار المرأة التي أحبها فتياً وحُرم منها بسبب فقره، لستة عقود من الزمن، وليس فقط لأن ذلك الغرام المشبوب تكلل أخيراً بالزواج، بل لبعدها الرمزي العميق الذي يُظهر بأن الحب ليس جريمة يعاقب عليها القانون، لكي يسقط لاحقاً بمرور الزمن، بل هو الترياق الأنجع الذي نواجه به نكوص الجسد، ونهزم بواسطته تلوث الأرض واستشراء أوبئتها. وفي «ذاكرة غانياتي الحزينات» لا يتردد ماركيز في جعل بطله التسعيني يقع في غرام مراهقة دون العشرين، كطريقة وحيدة لمراوغة الموت وتضليله. لكن المسألة هي بخلاف ذلك في نظر الياباني ياسوناري كاواباتا، الذي يرسم في رائعته الروائية «الجميلات النائمات» صورة أكثر قتامة عن حال الإنسان في شيخوخته. فالنزل الذي أنشأه البعض للتسرية عن العجائز المسنين عبر السماح لهم، لقاء أجر محدد، بتأمل الشابات العاريات والمنومات بفعل التخدير، ليس سوى طريقة كاواباتا المبتكرة لرثاء الحياة الآفلة، بعد أن فقد أصحابها أهلية المشاركة في صنعها أو تذوق ثمارها. ولأن قوانين النزل لم تكن لتسمح للمسنين بأكثر من الملامسة العابرة للأجساد المنومة، بغية استرجاع فراديس الماضي، فإن تخطي تلك القوانين الصارمة من قبل الكهل إيغوشي، كان كافياً لنسف التجربة من أساسها وتحويلها إلى مسرح كابوسي ودموي .
لم تكن الرواية العربية من جهتها بمنأى عن قضية الشيخوخة، وما يصاحبها من تغيرات جسدية ونفسية. وإذا كان ثمة الكثير من الأعمال التي جعلت من قضية الزمن محورها الأساسي، كما في روايات نجيب محفوظ على سبيل المثال لا الحصر، فقد كانت رواية الكاتب اللبناني حسن داود «أيام زائدة» إحدى أكثر الأعمال الأدبية تجسيداً لمعاناة الإنسان المسن مع المرض والعزلة وهاجس الموت. وإذ يبرع الكاتب في تصوير تقهقر الجسد وافتضاحه أمام الفتاتين اللتين تتوليان العناية به، فإن الرجل العجوز الذي يتخلى عنه أولاده، يرفض القبول بهزيمته، ويصارع حتى النهاية وحش الموت وأنيابه القاتلة. أما الكاتب التونسي الحبيب السالمي، فيحول روايته «عشاق بية» إلى مرثية للصبا الآفل، تتقاطع فيها فنون السرد والتصوير والسينما والشعر. وهو باختياره طريق المقبرة كمكان يومي للقاء الكهول الأربعة الذين يلحون في أحاديثهم على استعادة أطياف الماضي، يبدو وكأنه يعطي للمكان دلالات رمزية قاتمة، ويسهّل على العجائز سبيل الوصول إلى حتفهم الأخير. على أن إدخال الفتاة المغوية بية على خط السرد، وافتتان اثنين من العجائز بجمالها الآسر، هو الذي أعطى للعمل بعده التراجيدي، حيث ما يلبث العجائز أن يقضوا نحبهم واحداً بعد الآخر، في حين يتمكن الابن الشاب لأحد الأربعة المتولهين بالفتاة، أن يظفر بها لنفسه.
قد تكون الثورات والحروب على أنواعها، أخيراً، أشبه بمناسبات دورية لتظهير الهوة القائمة بين أجيال الشبان، الذين يتصدرونها ويخوضون غمارها، وبين الأجيال السابقة التي لا تكاد تجد موطئاً لها في ظل الاحتكام إلى قوة الجسد واندفاعته الهوجاء. كما عمل وباء «كورونا» بوقاحة قلّ نظيرها، على تذكير المسنين بحقيقة كونهم الكائنات الأكثر هشاشة وضعفاً أمام هجماته الضارية. وقد لا يكون الأدب، بوجه عام، أرفق بالمسنين من الواقع، إلا أن الأمر يختلف تماماً مع غابرييل غارسيا ماركيز الذي انتصر للحياة، وللمتقدمين في السن على نحو خاص، كما لم ينتصر أحد. فقد ارتجل صاحب «الحب في زمن الكوليرا» سفينةً من بنات خياله، أمكنه بواسطتها أن يُخرج بطليه العاشقين من دائرة الخطر، بينما لم تفلح السفينة اليابانية المنكوبة في زمن «كورونا»، أن تخلص قبل أسابيع عجوزيها المماثلين من براثن الوباء القاتل.
شموس آفلة تبحث عن مدارات في المنفى
تبدو الشخصيات الرئيسية في رواية «منشدو كولونيا» لصلاح عبد اللطيف -دار «الكتب خان» للنشر والتوزيع في مصر- وكأنها تبحث عبثاً عن مدارات في قبة الاغتراب المرصعة بـ«النجوم الآدمية» (عنوان رواية سابقة للمؤلف)، ألقت بهم ظروف الحرب والقمع بين رحى المنفى في مدينة الدوم «كولون» الألمانية الشهيرة التي يعيش فيها عبد اللطيف منذ نهاية سبعينات القرن العشرين. ومعروف أن كولون هو الاسم الفرنسي لهذه المدينة الرومانية القديمة التي أراد لها الرومان أن تصبح مستعمرة «كولونيا» لهم في حوض الراين.
يفقد بعض المنفيين في مدينة كولونيا، مدينة العطور، روائحهم مثل البطل السلبي في رواية العطر للألماني باتريك زوزكند. ماذا يبقى من الإنسان حينما يعود بلا رائحة؟ يغرق بعضهم الآخر في دناءته وجشعه، وترتفع رائحته النتنة على رائحة «ماء الكولونيا» التي تعبق بها عاصمة كرنفال الراين.
عمل حسين البحر لفترة منشداً في فرقة الإنشاد العراقية ببغداد، ونراه ينشد مع كل الشخصيات العراقية في كولونيا حياته الماضية، وحياته الحالية، ومصيره، مثل أي أغنية عراقية حزينة. يروون، مرة على ألسنتهم، ومرة على لسان الكاتب، كيف ينخر المنفى فيهم، وكيف تختلف مصائرهم بين التطلع مشدوهين في مجرى نهر الراين السريع في المدينة، والنزول على عمق مترين تحت ترابها.
درس طالب المالكي في البصرة، قبل أن يقوده مصيره إلى ألمانيا، في بعثة دراسية في بداية سبعينات القرن العشرين. يضطر إلى مغادرة ألمانيا إلى ليبيا، بوساطة ابن عمه (رجل الأعمال) المقيم في ليبيا. يستقر في ليبيا، ويتزوج مصرية هي أخت زوجة ابن عمه. وترفض الزوجة منح دروس خاصة لقيادي في حركة «أبي نضال» في ليبيا، فيقرر مقاصصتها. يلفق لها، بالتعاون مع بعض ضباط الأمن الليبي، تهمة التجسس، ولا تنجح الزوجة في حل عقدة حبل المشنقة عن عنقها إلا بوساطة ونفوذ ابن العم. يهاجر المالكي إلى أميركا هرباً من ليبيا، ثم يعود ليلتقي بالآخرين في كولون.
وصل فاضل الأنباري إلى ألمانيا في ستينات القرن العشرين، واضطر للزواج من الألمانية ساندرا كي يضمن إقامته في ألمانيا. يعجز الأنباري، القادم من عائلة فقيرة تسكن بغداد، عن الاندماج في المجتمع الغربي، ويدمن الكحول، وينسى واجباته العائلية، ولا يرى الحياة، بحسب تعبير زوجته، إلا «من خلال الزجاجة». تفشل ساندرا في البحث عن روح فاضل في الصندوق الأسود لحياته المحطمة (التعبير لصلاح)، وتقرر الانفصال عنه.
يزور الأنباري العراق، مع زوجته وابنه المراهق ياسين. يقع الابن ضحية المتطرفين الإسلاميين بعد عودته إلى كولون، ويتحول تحت أنظار أبيه القلقة إلى إرهابي يلتحق بالمجاهدين في أفغانستان، ويلقى حتفه في عملية انتحارية.
بعد طلاقه من ساندرا، يلتقي الأنباري عراقية بعمر ابنته، وصلت ألمانيا بعد أن غرق زوجها في أوديسا التهريب بين بلجيكا وهنغاريا وصولاً إلى ألمانيا. تقترح عليه «زواجاً صورياً» منها كي تبقى في ألمانيا، ويستعيد شيئاً من سعادته، ويخرج من دائرة اكتئابه وعزلته، بعد الزواج منها.
تدرس «ياسمين» في جامعة كولونيا على حساب عائلتها الثرية المقيمة في بغداد. وتعجز العائلة عن مواصلة تمويل دراستها بعد ترحيل عائلتها «بملابسهم فقط»، ضمن حملة تهجير غير حاملي شهادة الجنسية العراقية إلى إيران. ترفض والدتها زواجها من سليم «القصير»، وتضطر للالتحاق بعائلتها في إيران، والزواج من شخص لا تحبه اختارته أمها لها. يفشل زواجها، وتنخرط في أكثر من علاقة جنسية مع إيرانيين آخرين، وتتحطم حياتها.
ربما أن حسين البحر، القادم من النجف، هو أكثر شخصيات الرواية إثارة ومأساوية؛ رجل يدمن الميسر، ويسعى بكل وسيلة وراء المال. يتزوج الألمانية ميلاني كي ينال الإقامة الدائمة في ألمانيا، وينجح فعلاً في تحقيق ثروة من بيع وشراء السيارات المستعملة. صار بعدها العراقي حسين البحر يتبرع للمجهود الحربي الإيراني، ويتقرب من حكومة الملالي في طهران، إلى أن يصبح عميلاً لهم يعقد صفقات السلاح مع الشركات الغربية. يتسلل بعدها عبر السفارة العراقية ببون إلى المخابرات العراقية، وينتهي عميلاً مزدوجاً للطرفين المتحاربين. تتركه زوجته بعد انكشاف دوره لها، ويفقد حياته في عملية اغتيال تطاله في عالم التجسس والعصابات المنظمة والفساد الذي ولجه.
يبدو المثقف الليبرالي سليم القصير أكثر شخصيات الرواية استقراراً ورؤية وقدرة على التكيف مع المنفى، رغم صدمة فقدان ياسمين. وصل القصير إلى كولون في نهاية السبعينات، وعمل في القسم العربي في الإذاعة الألمانية، ومترجماً لصالح سلطات اللجوء، واستقر نفسياً ومعنوياً بعض الشيء.
وفي نهاية الرواية، يلتقي سليم القصير والأنباري والمالكي وزوجاتهم في مدينة كولون، ويرفعون أنخاب «وجودهم» في ألمانيا، بعد أن تعذر عليهم معرفة ما إذا كانوا يعيشون في المنفى أم أنهم يوجدون فيه فحسب.
من الواضح لمن يعرف صلاح عبد اللطيف، أن «منشدو كولونيا» شخصيات حقيقية سبق لها أن عاشت في هذه المدينة واستنشقت عطورها. وربما يكمن هنا نجاح الكاتب في رسم هذه الشخصيات بسلاسة وواقعية كبيرة لا تخلو من شيء من الفانتازيا.
ويمكن القول إن المؤلف بنى روايته بناء درامياً كلاسيكياً أقرب إلى الكتابة المسرحية، بمعنى أنه عرض الشخصيات وصراعاتها وتفاعلاتها بعضها مع بعض، ثم اختتم العمل بكشف مصائر هذه الشخصيات. إلا أنه، كما يقول، فضل أن يقرّب بناءه الروائي إلى «سيناريو فيلم».
لم يهتم الكاتب كثيراً بالخلفيات السياسية لشخصياته، رغم الأجواء السياسية التي تحكمت بمصائر الشخصيات، وانصب اهتمامه على تسليط الضوء على دروب الحياة الشاقة في المنفى، وكيف يشقها كل منفي على طريقته. فجاءت مصائر بعض الشخصيات مأساوية جداً، ومصائر شخصيات أخرى أقل مأساوية، لكنها بقت كلها مأساوية. ثم جاء سرد الأحداث بلغة أنيقة بعيدة عن الاستطراد في متاهات الكتابة، وهذا ما يحقق مقولة الألمان أنها كتابة «بالعظم» لم يكسها الكاتب بكثير من الشحم والترهل.
وفي أحد أجمل فصول الرواية حبكة ودراماتيكية وفانتازية، ينهض حسين البحر من قبره في مقبرة «ميلاتن» في كولونيا، ويبحث بين الموتى عن ظهير له يعينه في الانتقام من قتلته. ينجح في «تجنيد» المغربي فريد لمساعدته في السفر إلى لندن، واختراق صدور من اغتاله بالرصاص. يعود بعدها إلى المقبرة: «فوق مقبرة ميلاتن، حلقت آلاف الطيور المهاجرة إلى جنوب خط الاستواء، إنه الخريف الذي يسبق البرد الأوروبي. ستقطع آلاف الكيلومترات بحثاً عن وطن جديد، كما فعل حسين البحر قبل ثلاثين عاماً. الأسراب الملونة مرت فوق المقبرة أكثر من مرة، أهو أمر مقصود، أهي تودعه وصحبه، وتتمنى أن تراهم في مكان آخر، أم أن اللعبة قد انتهت».
صدرت الرواية عن دار «الكتب خان» للنشر والتوزيع، في مصر، وتقع في 206 صفحات من القطع المتوسط؛ لوحة وتصميم الغلاف للفنان حاتم سليمان.
إبحار شعري في اليابسة
بعد «أخيراً وصل الشتاء» (2004)، و«أنظر وأكتفي بالنظر» (2007)، و«نيران صديقة» (2009)، و«بيتٌ بعيد» (2013)، و«عودة آدم» (2018)، يعود الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار إلى قرائه بديوان شعري جديد، عن «منشورات المتوسط» بإيطاليا، تحت عنوان «القبطان البرّي».
في إصداره الشّعري السّادس، الذي تتوزعه 11 قصيدة، ينطلق الخصار من وضعية السؤال، لكي يقدم نفسه، معترفاً، في قصيدة «أنا هو»، بأنه هو القبطان: «هل رأيتِ صياداً يهرع إلى البحيرة – يترك الأسماك لحالها – ويرمي الشّباك ليصطاد الماء؟ – أنا هو – وهذه القبعة التي أضعها على رأسي – لا لتحميني من الشمس – بل لتحمي الشمسَ من أفكاري». قبل أن نقرأ له في قصيدة «حروب داخلية»: «لا بِحارَ ولا سُفن – لا قواربَ ولا مجاديف – لا صواري ولا مِرْساة. – أنا القبطان البرّي – أُخرج الخوف من دولابي – وأبحر كلّ يوم في اليابسة. – خطواتي أمواج – يداي شراعان – ونظرتي تُبيد القراصنة».
يُكرِّرُ الخصار اعترافاته في صيغة عناوين وجملٍ، نلتقي خلالها، كما جاء في تقديم للناشر، بـ«ظلال رجالٍ تبنّى الشاعر قصصهم، وتجاربهم في الحبّ، والخيبة، والمغامرة على حافّة أزمنة مُنهارة، وأمكنة تُبدِّلُ أشكالها، وكائناتٍ وأشياء؛ يستدعيها إلى قصائدهِ فتتحوَّل إلى ذاكرة حيّة، لها ماضٍ وتاريخ وحضور غارقٌ في التفاصيل»؛ ومن ذلك أن نقرأ له في قصيدة «رجل مخفور بالصخور»: «عائداً من حرب مع لا أحد – حيث الحطامُ فحسب هو ما يحفُّني – أخفي الدخانَ والحسرة في جيوبي – وأعبر الزقاق إلى نهايته – (..) – رجلٌ يرفع يديه إلى السماء – كأنما يريد أن يحضنَ غيوماً – لكنّ قدميه عالقتانِ في الوحل». أو في قصيدة «لن أَدْلقَ حياتي على كتفٍ غير كتفي»، حيث نقرأ: «أنا قشّة تِبنٍ في ممر قصي – تدوسها قدمٌ وتتألم – (…) – حفنة تراب في قبضة عاشقٍ مخذول – مفتاحٌ يرتعش في يد رجل سكران – أنا رسالة قديمة تعبر المحيطَ في زجاجة – ولا تصل – (…) – أنا كلُّ هؤلاء – وأنا لا أحد». أو في قصيدة «نافذة تسكر بالموسيقى»، حيث نقرأ: «لستُ الرجلَ الذي خذلته امرأة – ولا الرجلَ الذي خذلها. – أنا بائعُ العطر الذي وجد نفسه في حفلِ عزاء – الجندي الذي قتله صديقُه بالخطأ – العابرُ الطيّبُ الذي مات في عراك – لأن يدَهُ امتدَّتْ بين يدين هاجَتَا – أنا أيضاً الرجل الذي ينفخ في الساكسفون – ويبكي أمام امرأة صمّاء».
في تقديم الناشر، دائماً، سنقرأ عن قصيدة الخصّار «المنشغلة عن العالم بالاشتغال على ذاتِها، لكنّها سرعانَ ما تعودُ لتكتب العالم ذاتَه، وقد استلزمت من صاحبها لغة مُنسابة، كنهرٍ يمضي في الشّعاب، يظهرُ حيناً ويختفي حيناً آخر، لرؤيا العين فقط، لكنَّه موجودٌ وراسخٌ وله أن يسردَ لنا قصصَ زوارق مرّت، وأخرى غرقت، وثالثة تاهت، سيحكي لنا عن ضِفَّتيْه، وبحرهِ المآل. ولكنْ، أي بحرٍ هذا الذي يجعلُ الخصّار يُعنوِنُ كتابهُ بالقبطانِ البرّي؟ إنها يابسة المدينة، والشوارع والأمكنة اللّزجة التي تنهمرُ عليها الخطى». وزاد التقديم أن هذا «الانشطار المقصود في المعنى، يمنحُ القارئ، مساحة للتفكير جمالياً في الطريقة التي يكتبُ بها الخصّار قصائده، هناك حضورٌ لافتٌ للموسيقى، لآلاتها وعازفيها، وأصوات المغنّينَ المنسيّين في زوايا معتمة، ومدنٍ بعيدة، حيثُ هناك دائماً امرأة تأتي وتغيب، هناك صوتُها، هناك أيضاً السّاعاتي والقيثار الإسبانيّ، والموت الذي يؤكّد لنا أنَّ حبلَ الأيام قصير».
وتحدث لنا الخصار عن مجموعته الشعرية الجديدة، مشيراً إلى أنها تتكون من نصوص مركبة؛ كل نص له تيمة موحدة، منتهياً إلى أن «القبطان البري»، في النهاية، هو الشاعر نفسه، المحيط هو الحياة، والأمواج هي تعاقب الليل والنهار. أما السفينة فهي حيلته في مواجهة الحياة بتقلباتها اللا منتهية.
وتشكل الموسيقى تيمة أساسية، في ديوان الخصار الجديد، حيث يهرب بنا الشاعر، بعيداً عن ضجيج العالم، إلى موسيقاه، إلى ذوقه الخاص. كما نكون مع تيمة الكتابة، حيث يقف الشاعر عند أسباب الكتابة، وعند تمنعها، وصعوبتها، ليكتب كمن يشرب الخمرَ لينسى وكمن يشرب القهوة ليصحو. فيما يرصد في قصيدة «حروب داخلية» ما يعتمل من معارك في ذاته، حيث نقرأ له: «ليلكَ مؤلمٌ وجارح – مثل رسالة من أبٍ – إلى ابنهِ الوحيدِ الميّت».
أما في نص «الموتى ينتظرونني على الطوار»، فنجده يتعاطف مع موتى «ما عاد أحدٌ يطرق أبوابهم – وما عاد العشبُ ينمو في غرفهم كما كان». قبل أن يطلب من الموت أن يتمهل قليلاً حتى ينهي بعض ما يشغله: «تمهل أيها الموت قليلاً – إذا أخذتني اليوم إلى مغاراتك التي لا ضوء فيها – فمن سيصحو غداً – ليشبِكَ يديه بيدي طفله الوحيد – ويتناوبا معاً على الغناء – والصراخِ والصَّفير؟».