لم تكن العلاقة العاطفية التي جمعت بين الشاعرة الروسية المعروفة آنا أخماتوفا، والرسام الإيطالي الشهير أميديو موديلياني، منبتة تماماً عن سياق «الغزو» الأنثوي الروسي للقارة الأوروبية في القرنين الفائتين. فقبل علاقة أخماتوفا وموديلياني بعدة عقود كانت هناك لو سالومي التي خلبت لب نيتشه وريلكه وفرويد وعباقرة آخرين. وبعدها بسنوات كانت ليلي بريك تكسر قلب ماياكوفسكي شاعر الثورة البلشفية، وتوقع في حبائلها عدداً من كتاب الغرب، تماماً كما كان حال أختها إلسا تريوليه التي عبر قلبها محطات عدة قبل أن يستقر عند أراغون، وحال غالا التي كانت حبيبة بول إيلوار، قبل أن تقع في غرام سلفادور دالي وتقضي معه بقية حياتها.
أما آنا أخماتوفا المولودة في أوديسا الأوكرانية عام 1899 فكانت خليطاً مثيراً للحيرة بين الفتنة الجمالية المندفعة باتجاه الحياة وبين التراجيديا المؤلمة التي كانت تهيئ لأعظم شاعرات روسيا مآلها القاتم. وقد عمدت الشاعرة المولودة تحت اسم «آنا غورينكو» إلى تبني اسم جدتها التترية أخماتوفا، بعد أن زجرها أبوها العسكري المحتج على نزوعها الإباحي قائلاً «لا توسخي اسم العائلة النبيلة بأبيات وقحة ومنحطة» لتجيبه من جهتها دون خوف «اسمك هذا لست بحاجة إليه». وقد تفتحت موهبة آنا في القرية القيصرية القريبة من بطرسبورغ، كتبت آنا بتأثر بالغ وهي تتمشى في الحدائق التي ذرعها من قبلها شعراء روسيا العظام، بينهم بوشكين «كم على هذه الأغصان من وجدانيات معلقة».
وإذا لم يكن نيكولاي غوميليوف، الذي وقع في غرام آنا، يمتلك أي قدر من الوسامة، فالأرجح أن ذكاءه الحاد وموهبته العالية، فضلاً عن رغبتها في الانعتاق من سطوة الأب، هي العوامل التي دفعت الصبية الحسناء إلى الإصرار على الزواج منه رغم المعارضة الشديدة للعائلة. وإذ قررت أن تقضي شهر عسلها المرتقب بين الربوع الفرنسية والإيطالية، كان القدر من جهته يلعب لعبته الخطرة ويمهد لها سبل اللقاء بموديلياني أحد أعظم الفنانين التشكيليين في العصور كافة. فقد كان أميديو قد قدم من إيطاليا إلى باريس بهدف استكمال دراسته في الفن عام 1906، حيث تجمع أكثر الروايات على لقائه بأخماتوفا عام 1910 في مقهى روتوندا الذي كان ملتقى للكتاب والفنانين في ذلك الوقت. وحيث أعجب كل منهما بالآخر لم تأبه أخماتوفا بالوضع المادي المزري لشريد المدن البوهيمي، الذي تروي عنه أنه اضطر أن يقاسمها مقعداً حجرياً في إحدى حدائق باريس لأنه لم يكن يملك المال اللازم لدعوتها إلى المطعم المجاور.
أما زيارتها لمنزل الفنان فتؤكدها اعترافاتها الشخصية، وقولها في وقت لاحق «كان بيته مليئاً بالرسومات من الأرض حتى السقف، وكنا ندردش عن الشعر لساعات، نتلو خلالها أبياتاً لبودلير وأبولينير وفيرلين ومالارميه الذين نحفظ أبياتهم عن ظهر قلب». فيما أعرب أميديو عن افتتانه بالزرافة الطويلة التي تشبه الملكات الفينيقيات بشعرها الأسود وأذنيها الملتصقتين وأنفها المعقوف. وحين عرض عليها رسم بورتريهات لها لم تتأخر في الموافقة، لكنها لم تقر بتعريها أمام الفنان، معلنة أنه رسمها من عنديات خياله المحض، نافية في الوقت ذاته أي تواصل جسدي بين الطرفين.
وحين عادت أخماتوفا لتعيش مع غوميليوف ووالدته في غرفة ضيقة في تسارسكوي سيلو، لم يكن لنشاطهما الشعري المشترك أن يزيل من مخيلتها الأطياف الساحرة للفنان الإيطالي الوسيم. وإذ بدأت علاقتهما بالترنح بفعل التنافس الشعري الضمني، وبفعل فائض الرغبات والتعلق المرَضي بالحرية، استغلت آنا سفر زوجها إلى أفريقيا ومكوثه أشهراً معدودة لممارسة هواية الصيد، وعادت بمفردها إلى باريس، حيث كان موديلياني ينتظرها على أحر من الجمر، ليقضيا معاً أوقاتاً مترعة بالحب، وليصطحبها وهو المعجب بالفن الفرعوني إلى متحف اللوفر، محاولاً أن يوفر لها معرفة أفضل بفنون التشكيل، فيما قرأت له نماذج من شعرها حازت على إعجابه.
«كان له رأس جميل وعيون تلمع كالذهب ليس له مثيل في العالم كما أنه شخص حزين، كتوم، ذو سر مشوق»، كتبت آنا عن موديلياني في أحد اعترافاتها المتأخرة، كما تنقل أماني غيث في كتابها المميز «ملكة النيفا، آنا أخماتوفا». وإذا كانت الأسئلة المتصلة بالأسباب الفعلية التي حالت دون استمرار العلاقة وقتاً أطول لا تجد أجوبة شافية لها، لكن الأرجح بأن التباعد الجغرافي بين المبدعين العاشقين، وإصرار أخماتوفا على عدم مغادرة وطنها الأم، فضلاً عن دخول موديلياني اللاحق في غير مغامرة غرامية، هي من بين العوامل التي أوصلت العلاقة إلى فصلها الختامي. ولعل تكتم آنا على العلاقة ولجوئها إلى إحراق رسائل موديلياني إليها، هو البرهان الأكثر دلالة على الظروف القاسية التي عاشتها. وقد ذهب البعض إلى القول بأن جهاز المخابرات السوفياتي بالذات هو الذي أحرق مكتبة الشاعرة ورسائلها وأوراقها الشخصية أثناء مداهمته لمنزلها.
وإذا كانت أقدار العاشقين المتغايرة لم تتح لقصة حبهما الغامضة أن تستمر طويلاً، إلا أنها رسمت لهما مصيرين ملبدين بالآلام ومتشابهين في مآلهما المأساوي. فموديلياني رسام الشخصيات الطولية والعيون معدومة البؤبؤ الناظرة أبداً إلى الداخل لم توفر له وسامته وموهبته المفرطتان سبل السعادة والراحة اللتين نشدهما بلا طائل. ومع أنه دخل في علاقة عاطفية مع الرسامة وعارضة الأزياء جان هيبوتيرن، إلا أن مزاجه العصبي والمتقلب حول تلك العلاقة إلى دوامة من المشاجرات العنيفة والصاخبة. وحين قرر الزواج منها بعد أن ولدت له ابنة حملت اسم أمها نفسه، كان مرض السل قد أنهكه بالكامل إلى أن فارق الحياة عام 1920، إلا أن المأساة لم تقف عند هذا الحد، بل تمثل فصلها الأكثر قتامة بانتحار عشيقته جان التي كانت حاملاً في شهرها التاسع، ليتم دفنها مع موديلياني في القبر ذاته.
أما آنا التي لم تكف يوماً عن نسج علاقات غرامية مع الرجال، التي كتبت في مقالة لها «إن ثقافة المرأة تقاس بعدد عشاقها»، فقد تزوجت عام 1918 بعد انفصالها عن غوميليوف من فلاديمير شيليكو، الشاعر وعالم الحضارات دون أن تعثر بسبب غيرته الشديدة على الطمأنينة المنشودة، لتنفصل عنه بعد سنوات ثلاث، أي في السنة ذاتها التي أعدم فيها غوميليوف بتهمة التآمر على نظام الحكم. ثم لتتزوج للمرة الثالثة من المؤرخ نيكولاي يونين، الذي صمدت علاقتها به طويلاً، ليضع لها نظام الاستبداد الستاليني حدها المأساوي بموت يونين مريضاً ويائساً في أحد معتقلاته النائية. على أن خسارات آنا لم تتوقف عند هذا الحد، بل إن هذا النظام بالذات ما لبث أن اغتال ابنها ليف، ودفع من لم يقم باغتيالهم من شعراء روسيا الكبار إلى الانتحار. ومع أن قلب أخماتوفا التي رحلت عن هذا العالم عام 1966 كان مكتظاً بالعشاق، إلا أنها في العمق الأخير من روحها كانت قد أفردت لموديلياني مكاناً لا يدانيه أحد. صحيح أن الشواهد الفنية على العلاقة قد اقتصرت على بضع قصائد عاطفية وبورتريه واحد نجا من الإتلاف، وصحيح أن كلاً منهما قد دفن بعيداً عن الآخر، لكن الصحيح أيضاً أنهما كانا قد تعاهدا على الموت معاً، وفق ما عبرت عنه آنا في قصيدتها «أغنية اللقاء الأخير»، التي جاء فيها:
«كانت خطواتي يومها رشيقة وخفيفة
رغم البرودة والعجز في صدري
ومن دون أن أنتبه وضعت في يمناي قفازي الأيسر
وسط الأشجار سمعت الخريف يهمس لي: موتي معي
لقد خذلني اليأس
وأعرف أن الحزن والوجع هما قدري
ولذا أجبت:
عزيزي: وأنا أيضاً أرغب في أن أموت معك».
أخبار ذات صلة
الشعر جوهر العالم وترياق الوجود!
عندما أتعب من الفلسفة والعلوم الإنسانية، عندما أتعب من كل ما هو منطق أو عقل أو نقل أرمي بنفسي في أحضان الشعر. في تلك اللحظة لا شيء يعزيني أكثر من قصيدة لأبي تمام، أو بودلير، أو مالك بن الريب التميمي:
«خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعــــــــــباً قياديا
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي وردا على عيني فضل ردائيا»
إلخ… قصيدة عصماء تكفي وحدها لتخليد شاعر… لا أعرف أصلاً فيما إذا كان قد كتب غيرها. لا أعرف عنه أي شيء سواها… إنه شاعر القصيدة الواحدة. وكفاه ذلك فخراً.
ثم ماذا عن سحيم عبد بني الحسحاس؟ ماذا عن قصيدته التي مطلعها:
«عميرة ودع إن تجهزت غادياً
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً»
أغلى من الذهب. لقد شهرته وخلدت اسمه على صفحة الآداب العربية. وبالتالي فيمكن اعتباره هو الآخر أيضاً شاعر القصيدة الواحدة وإن كان قد كتب غيرها. ومعلوم أنه كان عبداً أسود يخدم عند الناس ولكن مولاته وقعت في حبه وحصل ما لا تحمد عقباه. وعلى أثر ذلك قتلوه. هل يحق لعبد أسود أن يضاجع مولاته وهي من النساء المحصنات الحرائر؟ ولم يكن اسمها «عميرة» وإنما «غالية» ولكنه لم يتجرأ على ذكر اسمها الحقيقي لأنها كانت من أشراف تميم، أي من عائلة عربية أرستقراطية، وهو لا شيء. وفيها يقول هذا البيت الذي يساوي ديواناً كاملاً من الشعر العربي وحتماً هو الذي قتله:
«توسدني كفًّا وتثني بمعصم
علي وتحوي رجلها من ورائيا»
ثم يردفه بهذا البيت الذي يساوي ديواناً آخر:
«فما زال بردي طيباً من ثيابها
إلى الحول حتى أنهج البرد بالياً»
وماذا عن المثقب العبدي؟ وهو لمن لا يعرفه شاعر جاهلي كبير من البحرين. يقول لها معاتباً في قصيدة مشهورة:
«أفاطمُ قبل بينك متعيني
ومنعك ما سألتك أن تبيني
فلا تعدي مواعد كاذبات
تمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي
خلافك ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني
كذلك أجتوي من يجتويني»
حلو. عبقرية الشعر العربي…
أتذكر أني قرأت هذه القصيدة لأول مرة في الثانوي. وإذا لم تخني الذاكرة فقد قرأتها من خلال ما كتبه الدكتور طه حسين عنها في كتابه الشهير «حديث الأربعاء». وكم هو ممتع أن تقرأ شرحها وتحليلها على يد طه حسين! لحظات لا تنسى. تدوخ دوخاناً. يسكرك الأسلوب والصوت الخالد لعميد الأدب العربي. وأعتقد أنه توقف عند هذين البيتين حيث يتصارع الشاعر مع ناقته التي تعاتبه بمرارة لأنه يتعبها دائماً بالسفر والترحال ويكلفها ما لا طاقة لها به:
«تقول إذا درأت لها وضيني
أهذا دينه أبداً وديني
أكل العيش حلٌ وارتحال
أما يبقي عليّ وما يقيني»
ثم توقف أيضاً عند هذين البيتين، حيث يهدد شاعرنا أحد أصدقائه قائلاً له بكل صراحة ودون أي لف أو دوران:
«فإما أن تكون أخي بحق
فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني
عدواً أتقيك وتتقيني»
أعود إلى السؤال: هل أصبحت الحياة كلها صحراء قاحلة ما عدا بقع قليلة من الشعر، من الضوء؟ ربما. هنا أشطب على السياسة العربية، على العصر العربي كله وأتموضع خارجه. وربما سيجت نفسي بالأسلاك الشائكة وانقطعت عن العالم. أكثر مما أنا منقطع ومسيج؟ لم يبق لك حل آخر أصلاً. وها أنذا سارحاً، هائماً على وجهي في الطرقات والدروب فقط مع ظلي (المسافر وظله، نيتشه). هل يستطيعون أن يفصلوك عن ظلك؟ ولكني لا أقصد بالشعر هنا فقط القصائد بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. وإنما أقصد أيضاً الرواية، الأدب، السينما، الدلال، الغنج، الفاتنات الحاسرات هناك في الربيع الباريسي. ولكن ماذا عن الجمال العربي – الأمازيغي؟ لا يضاهى. إنه الجمال المتغطرس الفتاك الذي «يحيي العظام وهي رميم». بصراحة الحياة حلوة يا جماعة. الحياة أكثر من حلوة. وأخشى ما أخشاه أن أموت يوماً ما.
أقصد بالشعر أيضاً ذلك الرجل الريفي التي رأيته مرة في أحد المطارات وهو ذاهب «لبيع» ابنته الفقيرة الوسيمة إلى أحدهم في بلاد الأغنياء لكي تعيش كخادمة وترسل لهم بعض القروش. أو هكذا خيل إلي من نظرات الهلع والاستغاثة التي ارتسمت على وجهه فجأة عندما رآني. نظرات سحقت قلبي… لكأنه كان يقول لي: خذها إذا شئت ولكن احترمها، عاملها بلطف أرجوك. نظرات لم أنسها حتى الآن. في مثل هذه الحالات النسيان جريمة… إنها لخيانة عظمى أن تنسى مثل هذا المشهد. هنا تكمن حقيقتي. هذا هو العالم الوحيد الذي أنتمي إليه، عالم «الناس الفقراء» أو «المذلولين المهانين» كما يقول دوستويفسكي: أي ثلاثة أرباع العرب. هؤلاء وحدهم هم أهلي، وطني، طائفتي، عشيرتي… وفي عصر الطوائف المتناحرة الهائجة على بعضها بعضاً أو التي تكاد تفترس بعضها بعضاً أنتمي إلى فئة الصعاليك الذين لا طائفة لهم ولا قبيلة كالباهي محمد مثلاً. من قرأ كتاب عبد الرحمن منيف عنه «عروة الزمان الباهي»؟ ناجح جداً. أعدت قراءته للمرة الثانية مؤخراً ولم أشبع منه حتى الآن.
وربما قصدت بالشعر أيضاً ذلك النشيج المتصاعد من أعماق العالم، من زلازله وبراكينه… كل شيء يخرجك عن طورك، ينسيك نفسك ولو قليلاً شعر. كل شيء يخلصك من نثرية الوجود، من بلادة الحياة اليومية شعر. طرفة عين غير متوقعة، ابتسامة صغيرة أو حتى شبح ابتسامة على ثغر إحداهن يمكن أن تدخلك في الحالة الشعرية:
«مقاديرُ من جفنيك غيرن حاليا».
هكذا تلاحظون أني لم أتجاوز بعد مرحلة المراهقة ولا يتوقع أن أتجاوزها في المدى المنظور.
بالأمس القريب حام الشعر حولي، تحرش بي قليلاً، ثم تبخر في الهواء. أقسم بالله كدت ألمسه، أقبض عليه قبض اليد… شعرت بالحنين والضياع وبقيت ساعات وساعات وأنا أتجول في الشوارع بلا هدف أو جدوى. رحت ألف حولي وأدور. عم يبحث هذا الشخص؟ عن شيء ضاع؟ عن حلقة مفرغة؟ وإلى متى؟… الشعر مبثوث في كل مكان ومع ذلك فهو من أكثر الأشياء ندرة. أكاد أقول بأنه موجود في كل مكان ما عدا في دواوين الشعراء العرب! كلما كثرت الدواوين الشعرية المتشابهة في العالم العربي قل الشعر، وربما أذن بالانقراض. لحسن الحظ أني لم أنشر أي ديوان شعر حتى اللحظة. لحسن الحظ أني لم أدمر وجودكم، لم أعتد عليكم، على الأقل حتى الآن. ولكن ألا يكفي أني أمطركم بوابل من المقالات والفذلكات والغلاظات التي لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد؟ والله كرهت حالي. الشعر موجود خارج الشعر في معظم الأحيان. في كل عصر لا يوجد إلا شاعران أو ثلاثة أو واحد أو لا شيء والباقي تفاصيل. قال لي أحدهم مرة متبجحاً: يا أخي الشعر فاكهة، «مجرد تسلية» من وقت لآخر، لا يقدم ولا يؤخر… الشعر «سخافة» في نهاية المطاف ولا يليق بأن «يضيع» المفكرون الكبار وقتهم فيه. كدت أموت من الضحك عندما سمعت هذا الكلام. كدت أسقط على الأرض مغشياً عليّ من شدة الاضمحلال والإهمال والزوال. أعتقد أن عشرات الأكاديميين والمثقفين العرب لم يقرأوا قصيدة واحدة في حياتهم. ولكن ليست هذه هي حالة هيدغر الذي «ضيع» قسماً كبيراً من حياته في قراءة الشعر ومقاربات هولدرلين: إضاءات مسلطة على شعر هولدرلين، دروب تؤدي إلى لا مكان: عنوان كتاب أجمل من قصيدة شعر. الشعر العظيم بالنسبة لهيدغر هو المحل الذي تتجلى فيه الحقيقة الأصلية، الحقيقة الجوهرية: أي حقيقة العالم، جوهر العالم. ولهذا السبب فإن المفكرين الذين يعجبونني أكثر هم أولئك الذين يهتمون بالشعر، ينصهرون، يذوبون. «ناولوني معجز أحمد»، يقول المعري. لا ريب في أن كانط مفكر عظيم وربما كان أكبر فيلسوف في تاريخ الغرب الحديث ولكنه ليس شاعراً على عكس نيتشه. ولذلك؛ فإن عواطفي كلها تذهب في اتجاه نيتشه. أنا نيتشوي في نهاية المطاف: أي تراجيدي، عدمي، جنوني… ولكن لا أجرؤ على التصريح بذلك خوفاً من القيل والقال. تكفيني مشاكل وإشاعات. ثم إن فيّ كائناً آخر يمشي في الاتجاه المعاكس. وبالتالي، فأنا شخص منشق على نفسه، وتوحيده أصعب من توحيد العرب!
أخبار ذات صلة
محمد البريكي: الحداثة تولد من رحم التراث… والحلم يجعلني أحلِّق كالطير
بين المنصب الإداري والعمل الإعلامي والشعر تتوزع تجربة الشاعر محمد البريكي، فهو رئيس «بيت الشعر» بالشارقة، وانتقل من العمل الصحافي المكتوب إلى تقديم برنامج تلفزيوني باسم «ديوان العرب» على قناة الشارقة الفضائية، بينما تتوالى قصائده وأعماله الشعرية، ومنها «مدن في مرايا الغمام» و«بدأت مع البحر» و«بيت آيل للسقوط». وفي النقد الأدبي صدر له «على الطاولة – قراءة في الساحة الشعبية الشعرية» و«بيوت الشعر – شهادات وإضاءات» و«تراسل الشعر العربي مع الفنون».
هنا حوار معه حول تجربته ورؤيته للدور الذي يقوم به «بيت الشعر» بالشارقة ونظرائه بعدد من البلدان العربية.
> بداية حدثنا عن المنابع الأولى، كيف أثّرت في شعرك البيئة القروية التي نشأت في أحضانها؟
– عندما كنت أستند برأسي إلى حائط وأنظر إلى البيوت المتراصة، أرى العجب في شوارعها الممتدة، وفي صباحاتها ولياليها المقمرة وطيبة أهلها، وهو ما لون حياتي بالخيال، وجعلني أرقب الشجر والعشب، وأبحث دائماً عن الربيع، وأصبحت حياتي كلها مبنية على الحلم، وأضحت فصول السنة كلها مواعيد أنتظرها لأقتبس منها الجمال، ما بسط روح الشعر في قلبي، وجعلني أكثر ارتباطاً بحياة القرى، وما تنطوي عليه من أشياء يستحيل أن تراها في أي مكان سواها، فالقرى صديقة الشعراء وأنفاسهم في كل صباح وليل، وكل مغامرة غير مألوفة، إنها الحرية التي يطلبها الشعراء في أي زمان، فنيران الشعر لا تخمد أبداً بين طيات القرى، فالشاعر بوسعه أن ينهل منها كل ما يعمق الجمال في روحه.
> ما العوامل الأخرى التي وجّهت بوصلتك روحياً وإبداعياً نحو الشعر؟
– لم أدرِ حين اكتشفت الشاعر في روحي أنني سأظل أعيش على حافة الدهشة والفضول والتفاؤل ولذة الاكتشاف، وربما أكثر الأشياء التي تستثير قلبي وتدفعني للكتابة البحر والأماكن الخضراء، كالذي يعيش على السراب، لا تعييه المسافات ولا يفكر في الوصول أبداً، فرأسي به ملايين الأفكار، وكلما ظننت أنني قادر على الإمساك بفكرة أجدني قادراً على التحليق مثل أي طير. وتقريباً كل عناصر الطبيعة هي مرشدتي إلى الشعر، ومن ثم التعكز على الريح، وكل ما أبصره في الكون ويستريح له بصري ويرهف له سمعي أرنو إليه وأنتظره لكي أصنع منه خبز الشعر وخبز المحبين لدفقات الكلام، إنني أصير إنساناً آخر حين أرى مشاغبات الشعر تشتبك بالخيال وتعطره لتخرج القصيدة وهي راسخة في الوجدان.
> على ذكر التعكز على الريح، من يتأمل عناوين دواوينك كما في «عكاز الريح» و«سكون العاصفة» و«ساحة رقص» يلمس دوماً هذا الإيحاء القوي بالحركة والأصوات واستلهام مفردات الطبيعة… ما الذي يحدد خيارات عناوينك؟
– أرى أحلامي دائماً مشروعة تقود للفرح أو للحزن، لذلك أسافر مع الأحلام الجامحة حتى لا أنفصل عن الوحدة الموضوعية لنصوصي، ومن المفيد حقاً أن أنتصر للشاعر في روحي، أصغي لحركة الأمواج في وجداني، وألتصق أكثر بعناصر الطبيعة، لأنني أجد في مفرداتها كل الرغبات التي تبحث عنها القصيدة. لقد حملت في ذاتي العالم ومضيت نحو قمم مجهولة، وأسرجت التناقض في نفسي، فما خسرت شيئاً وإنما ربحت في النهاية شعري، واستطعت بمفردات صادقة أن أشكل عناوين دواويني وأسبح ضد تيار الرتابة والاصطناع والزيف، فالقصيدة تحب هذا الالتحام التلقائي بالصخب، وتحمل خصوصيتها من حركيتها المنبعثة من حركة الحياة، فالمنابع كلها واحدة.
> يرى كثير من النقاد أن ما يميز تجربتك الشعرية هو المزج الدائم بين الأصالة والحداثة، إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟
– الأصالة روح كل شاعر، فلن تتشكل التجارب دون ثقافة واطلاع ومعرفة السابق والمؤسس، فالموروث والغوص في تفاصيله هو الفطرة الشعرية، أما التجديد فهو أفق لا يغيب عن الشاعر الذي يتعامل مع قضاياه بديمقراطية وأناة؛ ولم تزل الفكرة تراوده وهو يفكر كيف يروضها وفق مقتضيات العصر حتى تنغمس في أفق غير محدود. هكذا تولد الحداثة من رحم التراث، وتتشكل المعاني والأفكار وفق رؤية الشاعر في البحث عن احتمالات بكر لبناء نص ممتزج بالألفة والمحبة والجنوح للإنسانية، وبرأيي هذا المزج من صميم شعري لأنني مؤمن بهذه الفلسفة في الألفة والإيلاف حيث المزج بين الحاضر والماضي هو ما يجعلني أرى القصيدة من أبعاد أخرى.
> تكتب أيضاً الشعر الشعبي «النبطي» إلى جوار شعر الفصحى. كيف ترى ثنائية «الفصحى والشعبي» في تجربتك الإبداعية؟
– الشاعر كالطفل لديه ولع بتجريب كل شيء، وأنا ابن منطقة جُبلت على كتابة الشعر النبطي وأبدعت فيه، كونه تأريخاً لحياة شعوب أهل الخليج يرصد بعفوية نظرتهم للجمال ويقتبس مفرداته من هالات مضيئة، لذا فمن الطبيعي أن تجد أغلب شعراء الفصيح يكتبون الشعر النبطي بجدارة، والطيران بهذين الجناحين هو دليل استمتاع بمقدرات البيئة الإبداعية التي ينتمي إليها الشاعر، ومحاولة صادقة لاحتضان الشمس والقمر في وقت واحد.
لقد كتبت قصائد كثيرة من وحي بيئتي ومن وحي مفرداتها التي يتغنى بها الناس في كل مكان. وفي الوقت نفسه اندمجت مع القصيدة الفصيحة، وعشت معها تجربة أعتز بها وهو ما جعلني أعيش برؤية متسعة تتوافق مع نشأتي وبيئتي وانتمائي للجذور.
> «الشارقة – غواية الحب الأبدي» عنوان لافت لأحد مؤلفاتك المهمة… ما الذي يميز تلك المدينة برأيك؟
– الشارقة فضاؤها أخضر، تمهد كل الدروب للشعر، تمنحنا أملاً جديداً في أن يكون الشعر شامخاً وعزيزاً. هذه المدينة ذات الظلال والتاريخ المشرف في عالم الشعراء هي ركن أصيل في الإضاءة على التجارب الشعرية الجامحة، وهي من وجهة نظري مدينة المدن المتفوقة في كل شيء، فلا تشبهها مدن ولا يتقارب معها شيء لأنها متفردة وعظيمة. وعندما وضعت مؤلفي هذا عنها عبرت عن مواجيدي تجاه ألقها الذي لا يحد، وصباحاتها الشعرية الآسرة وأماسيها المسكونة أيضاً بالشعر.
> لك تجربة واسعة في العمل محرراً بالصحافة المكتوبة… هل أثرت تلك التجربة سلباً أم إيجاباً على خصوصية اللغة الشعرية لديك؟
– لا شك أن كتابة أي نوع من الأدب أو اقتصاص مفردات الشاعر في مقالات يأخذ كثيراً من وقت الشعر، وقد حدث مع كثير من الشعراء أنهم انخرطوا في العمل الإعلامي ونسوا الشعر، فالشعر لا يحب شريكاً آخر وهذه حقيقة مسلم بها، لكن مهما بعدت المسافات فأنا لا أنسى شعري تحت وطأة ضغوطات العمل، وأرى أنه من حسن حظي أني أعمل في ميدان قريب من الشعر ويساعد على الإبداع، فكلما اقترب الشاعر من العوامل التي تساعده على التواصل الجمالي مع الشعر يستطيع أن يعيد ترتيب حياته، ومن ثم البحث عن حديقة يلمس في محيطها الخيال المثير، كما أنني أستعيد ثقافتي بالقرب من «بيت الشعر» وأواصل مسيرتي مع القصيدة بحب ودهشة.
> قمت بإعداد وتقديم عدد من البرامج التلفزيونية… ألا يحتاج الشعر إلى لحظات من الخلوة والهدوء، ألا يمكن أن تكون مساحة أضواء العمل الإعلامي مضرة بالشاعر؟
– قدمت برنامجاً شعرياً بامتياز هو «ديوان العرب» عبر قناة الشارقة الفضائية، فكنت أحاور الشعراء كما لو كنت أشارك في ندوة شعرية، أناقش في أدق التفاصيل الخاصة بالضيف، طوال الوقت نتحدث عن الشعر، وهكذا كنت أعيش مع الشعر والجمال وكل ما تحبه نفسي، ولا أعتقد أن هذا النوع من العمل الإعلامي يمكن أن يضر أبداً بالشاعر، لأنه يجعله ينزلق إلى مساحات الإبداع ويحركه إلى الإمام فلا يلتفت لشيء سوى الشعر.
> تعمل مديراً لـ«بيت الشعر» بالشارقة… ما الذي يميزه عن غيره من بيوت الشعر ببلدان العربية؟ وكيف من موقعك ترى عالم الشعراء؟
– إرضاء الشاعر أمر صعب، وتحقيق طموحاته وأحلامه صعب أيضاً، ومحاولة ترويض جموحه مسألة فيها نظر، لكن لكوني شاعراً أزعم أنني لا أجد تلك المشقة في التواصل مع الشعراء، ومن ثم محاولة تذليل الصعوبات. وبكل صدق اسم «بيت الشعر» هو الذي يمنح الألق ويجعل الشعراء في حالة محبة، فهذا البيت التابع لدائرة الثقافة في الشارقة هو بيت الشعراء الذي وجّه به الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة ورعاه رعاية كريمة حتى وصل إلى هذا المستوى المبهر. وبالمناسبة، أؤكد أن «بيت الشعر» بالشارقة لا ينفصل عن هموم نظرائه في بلدان عربية، فنحن نسعى إلى التواصل معهم، ونطمح إلى عمل مشترك لخدمة الشعر والثقافة، ولعل ما يميز «بيت الشعر» بالشارقة هو وجوده في فضاء عام محب للثقافة والفن والإبداع.
> ماذا عن جائزة «الأمير عبد الله الفيصل» التي حازها «بيت الشعر» عن «أفضل مشروع لخدمة الشعر»؟
– ننعم بحرية العمل تحت ظلال الشعر، واتسعت رقعة الجمال بداخلنا، لذلك سعدنا بهذه الجائزة التي هي نتاج طبيعي لكل عمل خلاق في ظل هذه الظروف المتوائمة والمناخ الشعري الثقافي الصحي الجميل.
> أخيراً، كيف تنظر إلى حصولك على الدكتوراه الفخرية في مجال الإدارة والعلاقات العامة من إحدى الجامعات الأميركية؟
– كانت مفاجأة سارة أن تمنحني جامعة «الشمال الأميركي للدراسات العليا» هذه الثقة، غمرتني بفرحة ووضعتني أمام مسؤولية ضخمة تجاه ذاتي، فقد مدت شراعاً لكي أواصل عبوري إلى الجهة الأخرى من التعب المفيد لعملي وطموحاتي وطبيعتي المحبة لكل جد ومثابرة.