بدت فلسطين بعيدة، كأنها في أمّة أخرى. حتى في عناوين الصحف بدت بعيدة، وأحياناً لا مكان لها من القضية الوحيدة إلى القضية البعيدة. المستوطنون يحرقونها وينتهكونها، والعرب كلٌّ في همِّه؛ همُّهم الأكبر إيران، وإيران في طريقها إلى القدس عبر لبنان، واليمن، وسوريا، والعراق، وباب المندب، والخصب النووي.
المستوطنون يحرقون الضفة، و«حماس» تتشاور مع طهران في الخطوة التالية. العرب يعرضون السلام، والإسرائيليون يعرضون نتنياهو مكرراً. أطول حاكم في تاريخ إسرائيل بعد المؤسِّس بن غوريون. ونتنياهو يكرر نفسه وصورته، والآن محاطاً بذوي الجدائل. حرائق الضفة مجرد عرض آخر وكشف آخر عن النيات القديمة والحديثة.
ومن جانبنا مجرد عجز آخر، وتضخيم حجم العذاب الفلسطيني وجحيمه. بددت إيران صورة الحد الأدنى من الصف العربي، ومزّقت صورة الحد الأدنى من الشعور الوحدوي. وانتحت جانباً بـ«حماس» لتقفا معاً في وجه أي تنسيق أو مشاركة، وذهبت «حماس» ألفَ مرة إلى مؤتمرات المصالحة، وعادت دائماً أكثر التزاماً بالنص الإيراني، وأكثر بعثرة للروح العربية.
فظيعةٌ هي الصورة التي وصلنا إليها. العروبة في يد إيران بمساندة وتسليم مطلقين من غزة. وفلسطين تحترق بأيدي التوحش الإسرائيلي، الرسمي والاستيطاني. وفي تل أبيب مظاهرات ضد ما يجري أكثر مما في العواصم العربية. أين بيروت، أم المظاهرات؟ أمام الأفران تبحث عن رغيف. وفي عواصم العالم تبحث عن رئيس دولة «سيادي»، ليس إلاّ. وأين دمشق؟ لا تدري أي جِراح تُلملم؛ الزلزال أم مضاعفات التحالف مع إيران؟
شئنا أم أبينا، نقلت إيران الهم العربي من مركزه التاريخي ووزّعته على مدى الأمّة، وأصبحت تحضر –بدعوة أو من دونها– كلَّ مؤتمر عربي. وعندما تقتل إسرائيل 12 فلسطينياً في يوم واحد، تسارع إلى تقديم التعازي والرد «في الوقت والمكان المناسبين». خطان متوازيان لا يلتقيان.
ترتسم أمامنا الآن أكثر من أي وقت صورة الواقع الذي تحدثت عنه إيران يوم قالت إنها تسيطر على أربع عواصم عربية: بغداد، ودمشق، وبيروت، وصنعاء. إنها العواصم الأقل استقراراً في العالم العربي. والدول الأكثر انقساماً. والوحدات الوطنية الأكثر هشاشة بعد كل هذه السنين من النزاعات والمحن.
يضاف إليها طبعاً الوضع الأكثر مأساوية في غزة، التي أُضيف إلى حصارها الإسرائيلي المرعب، عُزلة عربية من صنع قادة «حماس»، ومحاولات التذاكي قصيرة النظر، كثيرة المضاعفات. وقد ينتبه السيد إسماعيل هنية إلى أن مصير القضية في نابلس وجنين، أكثر مما هو في مخيمات صور وصيدا.
في المصائب والكوارث الطبيعية يرى الأسوياء من الناس الجانب الإنساني الصرف في المسألة، ويتعاطفون مع إخوانهم وأخواتهم في الإنسانية، فالزلازل مثلاً لا تضرب الناس طبقاً لأديانهم وطوائفهم وأعراقهم وألوانهم وأحزابهم.
هذا هو الشعور الإنساني «الخام» الذي يخالج السواد الأعظم من بني البشر، لذلك يكون التفكير في توظيف المصائب التي من هذا النوع في بورصة السياسة، وأقبح من ذلك تمكين العمل الميليشاوي أو أي صنف من أصناف العمل المحظور، ضرباً من ضروب التشوه البشري السلوكي.
زلازل سوريا وتركيا الأخيرة لم تسلم من محاولات التوظيف هذه، لنتحدث عن الزلزال في جانبه السوري، رغم أن شراسته الكبرى كانت على الجانب التركي.
كتب أريك يافورسكي، من معهد واشنطن للدراسات، تقريراً عن كيف استغل ذلك «الحشد الشعبي» في العراق، وهو تجمع ميليشيات موالية للنظام الإيراني، وإن فرض نفسه على جسد الدولة العراقية، كما يعلم الجميع ملابسات هذا الفرض.
المهم في هذا التقرير أنه يذكر لنا بالنص مظاهر هذا الاستغلال من طرف هذه الميليشيات فيقول:
«قيادة (المقاومة) في (الحشد الشعبي) – التي تتألف من إرهابيين ومنتهكين لحقوق الإنسان المدرجين على قائمة العقوبات الأميركية – وشركاؤها الإيرانيون يستخدمون على الأرجح الزلزال لتحسين تنسيقهم عبر الحدود بشكل كبير مع الأسد و(حزب الله) اللبناني، وإضفاء الشرعية على أنفسهم داخل العراق. من هنا، يتوجب التدقيق عن كثب في المواقع والعمليات الخيرية لـ(قوات الحشد الشعبي) في سوريا».
هذا الاستغلال تم تحت غطاء العمل الإغاثي بتسميات مختلفة، منها «سيدة الشام زينب». كيف تم ذلك؟
يذكر التقرير أنه في حين يتولى رئيس أركان الحشد عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك) إدارة عمليات المساعدة، حيث تم إرساله إلى سوريا للإشراف المباشر على جهود الإغاثة، يعمل على تسهيل القوافل على الجانب العراقي من الحدود (قاسم مصلح) قائد عمليات الأنبار في «الحشد الشعبي»، والذي اعتقله المسؤولون العراقيون في عام 2021 فيما يتعلق بمقتل ناشط على يد عناصر في «كتائب حزب الله» في عام 2020.
كل هذا تم بإشراف ومباركة من إسماعيل قآاني، الذي يحاول إكمال درب معلمه، زعيم ميليشيا القدس الإيرانية التي تولت إفساد حال البلاد والعباد في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
في اللحظة التي يرى فيها البشر العاديون ملامح الوجع لدى إخوتهم حين تضرب مطارق المصائب الطبيعية، يرى آخرون فرصاً ثمينة للتمكين والتسلل لواذاً تحت رهج الغبار… ولله العجب!