لنفترض أنَّنا نجلسُ في المكتب البيضاوي للرئيس جو بايدن، ونسمعُ النقاشَ الدائرَ حول اتفاق بكين. يتَّفقُ الجالسون على أنَّ هذه المرة الأولى التي تتجرَّأ فيها الصينُ على خوض مياه منطقة الشرق الأوسط، ونزع فتيلِ الخلافِ بين أكبرِ دولتين على ضفتي الخليج، السعودية وإيران.
هل سيراها البيتُ الأبيضُ فرصةً ذهبيةً لتخفيض التوتر، ويبنِي عليها خطواتِه المقبلةَ في منطقة الشرق الأوسط؟ أم سيعتبرُها «فتحاً صينياً» لمنطقة طالما كانت تُعتبر ضمن النفوذ الأميركي؟ تمَّ إخراجُ البريطانيين في الخمسينات في أزمة السويس، ثم إنهاء «الحماية» في الستينات والسبعينات.
الصين تستورد مليوني برميل يومياً من السعودية وحدَها، وستزداد. وأميركا تستورد منها 300 ألف برميل خام يومياً فقط، نحو 7 في المائة من حاجتها، وستتناقص. وهي نسبة قليلة إذا قارناها بأكثر من 50 في المائة تستوردها أميركا من جارتها كندا. واشنطن تستطيع أن تعيشَ من دون نفطِ السعودية والخليج. الصين لن تستطيعَ. نظرياً، يفترض ألا يشكل النجاح الصيني في التقريب بين الرياض وطهران أزمة.
إنَّما الأمر ليس بهذه البساطة بسبب التنافس المحموم بين القوتين العظميين. هنا، الأرجح، أنَّنا سنسمعُ أصواتاً أميركية ناقدة. «الصين تريد إدخال السعودية في فضائِها»، والخليج كلُّه يُعتبر منطقة نفوذ أميركية. «الصين تريد فكَّ الخناق عن حليفتها إيران». «إيران تريد تحييدَ السعودية، والتمدُّدَ في بقية المنطقة».
أولاً، لماذا تقبل السعودية بالوسيط الصيني؟ ليس طارئاً الحضور الصيني في قضايا المنطقة، بكين كانت، ولا تزال، بمباركة واشنطن، عضواً في مفاوضات JCPOA، الاتفاق الشامل مع إيران، في فيينا. وتمَّ إشراكُ الصين مراتٍ في مفاوضات السلام الفلسطينية.
والأهمُّ للسعودية، أنَّ الصين شريكٌ تجاريٌّ كبيرٌ لها ولدول المنطقة، والصين نفسُها متضررةٌ من النزاع. أمَّا واشنطن فليس بوسعها أن تكونَ البديلَ للصين، تحديداً في شراء النفط، شريان الحياة لاقتصادات دول الخليج، ولا أن تلعبَ دورَ الوسيط مع إيران.
مع هذا ستظلُّ الولاياتُ المتحدة لاعباً مهماً… الأخ الأكبر والشريك العسكري لدول الخليج، الذي سيمدُّ في عمر نفوذِها إلى عقد آخر، على الأقل.
هل وساطة الصين هي الحبل الذي سينقذ إيرانَ من الغرق من العقوبات والاحتجاجات؟ بدلاً من النظر للموضوع من الزاوية الإيرانية لننظر إليه بطريقة مختلفة. فاتفاق بكين يفترض أنَّه خبرٌ سعيد لواشنطن، لأنَّها كانت تعتبر مطالبَ دولِ الخليج المتكررة بشراكة أميركية أو ضمانات أمنية، ضد تهديدات إيران، تضع عليها عبئاً ليست متحمسة له. هذا العبء سينخفض في حال نجح الاتفاق. ليس من المتوقع في الاتفاق ملاحق عسكرية، تعطي الصينَ قواعدَ أو بوارجَ لحماية الممرات وضمان عدم اعتداء إيران على جيرانها. المصالحة تقوم على المصالح للدول الثلاث، السعودية وإيران والصين. فالاعتداء الإيراني المباشر أو غير المباشر، من خلال ميليشياتها في العراق أو اليمن، على ناقلة أو منشآت سعودية، مثلاً، هو اعتداء على الصين، صاحبة الاتفاق.
ماذا عن مفهوم تحييد إيران للسعودية؟ إيران خلقت لنفسها عداواتٍ كثيرة، لا علاقة لها بخلافاتها مع الرياض. وعلى العكس من سياسة عزل السعودية عن قضايا المنطقة، قد يفتح الاتفاقُ للإيرانيين فضاءً عربياً جديداً يقوم على المصالحات، وليس عبر السلاح والميليشيات.
تركيا كانت إلى قبل أشهر قليلة متورطة في نزاعات مع نحو نصف دول المنطقة، واليوم على وفاقٍ معها جميعاً، بما فيها إسرائيل، ممَّا حسّن اقتصادها، وأوضاعَها السياسية الداخلية، وعلاقاتها الخارجية. على أي حال توسيع دائرة المصالحات، شأن يخصُّ إيران، وقد يكون «تحييد السعودية» حافزاً لها على السير بقية الطريق، وإنهاء أربعين عاماً من التوتر الإيراني العربي.
سمعت الكثيرَ من المشككين في قدرة بكين على ضمان سلوكِ إيران تجاه السعودية وإنجاح الاتفاق. نقول: نحن واقعيون، وفي الوقت نفسه متفائلون. لا ندري على وجه اليقين، لكن علينا أن نعطيَ السلام فرصة. ونتطلع إلى أن تجرب الصين في بقية النزاعات مع إيران، في العراق ولبنان، ومهادنة إسرائيل. وربما تشترك في إيجاد حل لمشروع التسلح النووي الإيراني، القضية الأهم دولياً. ومن المؤكد أنَّ الولايات المتحدة، وأوروبا، سترحبان بدور صيني، إن اتضح أنها قادرة على إنهاء هذا الملف، الخلاف السعودي الإيراني الصعب.
هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟
في العلا، شاركتُ في منتدى غلبت عليه الصراحةُ عن توترات العلاقاتِ السعودية الأميركية وما تفرَّع عنها، نظَّمه مركز «ثنك»، عن الدبلوماسية والشؤون العسكرية، والاقتصادية، والتقنية، والثقافية، تناقشت فيه شخصيات من الجانبين. ولأنَّها مغلقة، ليس بمقدوري استعراض ما دار، إنَّما يمكن أن أستعير جملةً واحدةً بسيطةً ومهمة: «المملكة العربية السعودية اليوم ليست السعودية قبل خمس سنوات، والولايات المتحدة اليوم ليست أميركا الأمس، وفي الوقت نفسه القيادة السعودية والحزب الديمقراطي باقيان معنا».
عندما تكون أبسطُ الحقائقِ واضحةً يصبح النقاشُ واقعياً مثمراً، بدل الجدلِ العاطفي عن سنوات من العلاقات والمصالح.
الاعتبارات التي قادت إلى المراجعاتِ الجديدة بين الحكومتين ليست كلُّها سلبية؛ عكست ضرورات العلاقات الثنائية وفق مصالح عليا. من الواضح أنَّ خسارة العلاقة الخاصة مع واشنطن لن تقود إلى انهيار المملكة، هذه خرافة ينقضها نحو مائةِ عام من الحكم السعودي الحديث الأطول والأكثر استقراراً. والعلاقة مع الصين ليست عاطفيةً، بل ستقوم على المصالح؛ علاقة مشترٍ وبائع للنفط والسيارات والهواتف وغيرها. حتى لو خفضت العلاقة، سيستمر السعوديون يستمتعون بالفرجة على أفلام «نتفليكس» الأميركية، من دون الحاجة إلى التزامات سياسية كبرى، وستقوم الصين لاحقاً بحماية طريق تجارتِها، ومناطقِ البترول سواء من خلال موفديها الدبلوماسيين، أو تضطر مستقبلاً إلى بعث بوارجِها، كما فعلَ مِن قبل البرتغاليون والإنجليز والأميركان لحماية مسارات تجارتِهم في منطقتنا.
أعتقد أنَّنا تجاوزنا مرحلة الخلافات الخطرة، ولسنا في مرحلة طلاق مع الولايات المتحدة، بل في جلسات مصارحة وإعادة ترتيب العلاقة. وهذا هو لبُّ الموضوع.
من جانبِنا، الخطأ أنَّنا نتوقَّع الكثيرَ من علاقات الماضي ونبني عليها. نعم، كانت علاقات مهمةً، وحيوية، وناجحة خدمت البلدين لعقود. كان ذلك في السابق؛ شراكات البترول، ومواجهات الشيوعيين في أنحاء العالم، وصدّ البعثيين، وتحرير الكويت، والتنمية، وجيوش المبتعثين في الجامعات، والتبادل التجاري الهائل. أيضاً، لم تكن دائماً عسلاً على سمن، تخللتها اختلافاتٌ سياسية، وطرد سفراء، وخيبات عسكرية، ومشادات إعلامية. كانت تلك حقبة طويلة، والأرجح أنَّنا نبدأ فصلاً جديداً، وأتوقَّع أن يكون أفضلَ من السبعين سنة الماضية.
هل يمكن أن توجد علاقة «استراتيجية» من دون بترول؟ واشنطن عندما تسلَّلت إلى المنطقة كان تسلّلُها فقط من أجل النفط… هل توجد من دون أن تلعبَ الرياض دورَها القديم في الحرب الباردة ضد خصوم واشنطن؟
ستبدي الأيام المقبلة أنَّ الفرصةَ قائمة لتطوير علاقة قوية، من دون نفي ومن دون تحالف الحرب الباردة. السعودية أعادت تفسيرَ مكانتها وترتيب أوضاعها، تريد أن تصنعَ لنفسها موقعاً جديداً، وهي، بالفعل، ماضية في ذلك؛ أن تكون دولةً اقتصادية كبرى وفاعلة إقليمياً ودولياً. وسيكون للرياض، التي يكبر دورها، أن تعودَ شريكاً سياسياً واقتصادياً مهماً.
ولو لاحظنا مسارَ العلاقة، نجد أنَّها انتقلت، في عهود ثلاثة رؤساء أميركيين، من الاضطراب إلى شيء من الاستتباب؛ من اللامبالاة والاستخفاف في عهد أوباما، ومن أنَّ السعودية، والمنطقة برمتها، لم تعد استراتيجياً مهمة لبلاده، إلى ترمب الذي، بشجاعة، أعاد التعاملَ بقوة مع الرياض، لكنَّها كانت تعاملات من دون استراتيجية الدولة، واليوم بايدن إلى حد كبير سار على خطى ترمب، ويقوم بتأطير العلاقة على أسس أطولَ أمداً.
كانت السعوديةُ لواشنطن نفطَها. اليوم تصنع السعوديةُ لنفسها دورَ الدولة المهمة اقتصادياً في العالم، وتحافظ على مكاسبها الأخرى؛ دورها الإسلامي الذي ليس له منازع، ودورها الجيوسياسي الحيوي، واستقرارها في منطقة مضطربة، وسيستمر البترول عاملاً مهماً في السياسة والاقتصاد العالمي إلى آخر برميل بعد ربع قرن من الآن، أو حتى ما وراء ذلك.
أصبح واضحاً للجانبين التحديات. لا تستطيع الولايات المتحدة يومياً شراءَ المليوني برميل بترول التي تباع للصين. ولا تستطيع الرياضُ تجاهلَ الدولةِ العظمى المهيمنة بالقوة العسكرية والدولار والصناعات التقنية. والأميركيون يدركون خططَ التطورات الجديدة في السعودية، ويعون كيف ستكون عليه في عشر سنوات مقبلة. هل هذه إعادة تفعيل العلاقة، في ظل التنافس الدولي الذي نحن في بدايته؟ يبدو ذلك.
د. عبد الله الردادي:كان بنكاً فهوى
اصطدم العالم الأسبوع الماضي بانهيار بنك وادي السيليكون (SVB) في تداعيات متسارعة لبنك أميركي عريق يزيد عمره على أربعين عاماً. انهيار البنك الذي تبلغ أصوله 209 مليارات دولار ليس بالحدث البسيط، فهو أول انهيار لبنك مؤمّن في الولايات المتحدة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2020، وثاني أكبر انهيار بنكي في تاريخ الولايات المتحدة بعد بنك واشنطن ميوتشوال الذي انهار في الأزمة المالية عام 2008، ووصلت أصوله حينها إلى 327 مليار دولار. ولـ(SVB) مكانة مرموقة ضمن المقرضين الأميركيين، فترتيبه السادس عشر على مستوى الولايات المتحدة، ولديه علاقات مع أكثر من نصف الشركات الناشئة الأميركية، ويملك حصة بنحو 44 في المائة من الشركات الناشئة الأميركية التي طرحت للاكتتاب العام الماضي، فما مسببات انهيار بنك يعد الأكبر من نوعه في العالم في وقت تنعم فيه البنوك بالأرباح مع ارتفاع أسعار الفائدة؟
يستهدف بنك (SVB) الذي تأسس عام 1983 الشركات الناشئة التي عادة تعاني للاقتراض من البنوك التقليدية، لأسباب منها ارتفاع معدل الخطر في استثماراتها، أو عدم امتلاكها لأصول صالحة للرهن. ووجد البنك في وادي السيليكون ضالته، حيث يتوجه روّاد الأعمال لتأسيس شركاتهم الناشئة لوجود البنية التحتية والشركات المساندة. وحتى قبل عام ونصف العام كانت الأمور تبدو مبشّرة، حيث وصلت القيمة السوقية للبنك إلى نحو 45 مليار دولار.
وحينما انتعشت الشركات التقنية خلال السنوات الخمس الأخيرة زادت نسبة الودائع لدى البنك مقارنة بالقروض، فبينما كانت الودائع تزيد قليلاً على 40 مليار دولار في عام 2017 وصلت إلى 189 مليار دولار نهاية عام 2021، أي أكثر من ثلاثة أضعاف! بينما ازدادت القروض في هذه الفترة من 23 إلى 66 مليار دولار، وحيث إن أرباح البنك تأتي من القروض لا من الودائع، حاول البنك استثمار هذه الودائع في أصول مدرّة، مشترياً سندات حكومية. عند وقت شراء هذه الأصول كانت نسبة الفائدة منخفضة، وبالتالي كانت السندات في قمة أسعارها، وعندما ارتفعت أسعار الفائدة اصطدم البنك بواقع مؤلم، فارتفاع أسعار الفائدة يعني أن يعطي البنك أرباحاً على ودائع عملائه التي كانت تقارب الصفر قبل ارتفاع أسعار الفائدة، كما أن كثيراً من هؤلاء العملاء بدأوا في سحب ودائعهم كبديل للتمويل بسبب ارتفاع تكلفة القروض. هذا الوضع أحدث فجوة في الموازنة المالية لدى البنك، فاضطر إلى بيع السندات التي اشتراها بأسعار مرتفعة، مما تسبب في خسارته نحو 1.8 مليار دولار، وهو ما أعلنه البنك يوم الأربعاء الماضي.
ولم يكن ذلك كافياً لتعويض هذه الفجوة، فسعى البنك إلى جمع 2.5 مليار دولار، وبعد يومين من إعلان البنك نيته لجمع هذا المبلغ أُعلن فشل هذه العملية من شركة تأمين الودائع الفيدرالية، وهي المنظّم للودائع البنكية في الولايات المتحدة. كان هذا الإعلان بداية السقوط الحر للبنك، فانخفضت قيمة البنك بأكثر من 60 في المائة في يوم واحد، وهو يوم الخميس المنصرم، وفقد نحو 10 مليارات دولار في أكبر خسارة للبنك في تاريخه، وسحب عملاء البنك 42 مليار دولار في يوم واحد، ليقفل البنك بعد ذلك أبوابه في اليوم التالي مباشرة.
هذا الوضع يوضح قسوة القطاع البنكي بكل وضوح، فهذا البنك لطالما كان مسانداً لأنشطة الاستثمار الجريء، وللشركات الناشئة التقنية والطبية، وهذا ما حاول المدير التنفيذي إيصاله للمستثمرين، حين علّق أن البنك لطالما ساند عملاءه، وجاء الوقت الذي يحتاج فيه إلى مساندة عملائه. ولكن نحو 93 في المائة من هؤلاء العملاء لا يملكون تأميناً على ودائعهم، ولذلك فلا ملامة عليهم من الهرع إلى البنك لسحب أموالهم. وقد علق أحد كبار التنفيذيين في إحدى شركات الاستثمار الجريء بقوله إن أربعين عاماً من العلاقة بين البنك وعملائه انتهت في أقل من 14 ساعة!
إن انهيار بنك (SVB) يحمل رسائل كثيرة، منها أن القطاع البنكي الأميركي، وعلى الرغم من كل التحوطات التي تتخذها الحكومة الأميركية ما زال بعيداً عن الكمال، فالبنك تجاوز اختبارات الضغط السنوية التي تجريها الحكومة الأميركية، ومع ذلك لم يستغرق انهياره أكثر من أشهر قليلة، فاختبارات الضغط كانت تركز أكثر على أثر انهيار أسعار العقار، دون النظر إلى حساسية البنوك تجاه ارتفاع أسعار الفائدة. وهو ما يعني أن الحكومة الأميركية تحتاج إلى مزيد من التشريعات لأنظمتها البنكية حتى لا تعاني ما عانته قبل أقل من عقدين. كما أن انهيار البنك سوف يؤثر على نشاط الشركات الناشئة الأميركية في وادي السيليكون، في وقت تسعى فيه الحكومة الأميركية إلى زيادة الابتكار في شركاتها من خلال نظام خفض التضخم.