كتب ف. إس. نايبول في القرن الماضي «عاش الأفارقة الكاريبيون في زمن عبودية المزارع في عالمين: كان هناك عالم النهار، وهو العالم الأبيض، وكان هناك عالم الليل، وكان ذلك العالم الأفريقي، عالم الأرواح والسحر والآلهة الكثيرين. وإذ يستعبدهم جميعاً الأبيض صاحب المزارع، يتصورون أنفسهم زعماء وسحرة وأطباء أعشاب. وينظر الأبيض إلى ذلك على أنه عالم خرافي طفولي، فيما يصر الأفريقي على أنه عالم الحقيقة».
كان نايبول هندياً من جزر الأنتيل، وقد منح نوبل الآداب (2001) لأعماله عن تلك الهوية المختلطة في مرحلة استعمارية طال زمنها وكثرت بشاعاتها. وصنعت تلك المرحلة الكثير من الأدباء «البيض» الذين ساهموا في الدفاع عن حرية الأفارقة أمثال غراهام غرين، ووليم فوكنر، وجان بول سارتر، أو الأدباء الأفارقة مثل سنغور، وفرانز كانون، صاحب القول الشهير افتحوا النوافذ النور سيزيد هواءه.
غريبة الأزمان كيف تمضي. كل تلك المراحل عايشناها وعشنا فيها. وخلالها قرأنا سنغور وسيزير وغراهام غرين. وكنا نقرأ في شيء من الولاء والعصبية «زنوج» أميركا.
فتحنا عيوننا على عالم يتغير في سرعة. عالم ليس النهار هو الأبيض ولا الليل هو الأسود. والذي أعاد فيه الألوان إلى حقيقتها الكتّاب والشعراء والمفكرون. من كتاباتهم ولد جومو كينياتا، وأحمد بن بلة، والحبيب بو رقيبة، وصنّاجة الشجاعة والسماح على مدى العصور السوداء والبيضاء وسائر الألوان نيلسون مانديلا.
لا شيء من هذا، اليوم. لا مزارع قصب وعبودية. حتى الرئيس في أميركا لم يعد من الضروري أن يكون أبيض مثل النهار. ونائبته يمكن أن تكون هندية اللون والجذور، مثل نايبول. لم يعد الشقاء قدرا في أميركا السمراء التي أصبح وزير دفاعها من أحفاد «العبيد» الذين شُحنوا إلى العالم الجديد مثل الماشية. لا يعني هذا أن عالمنا قد تغيّر وأن عنصرية اللون والعِرق والمعتقد قد انتهت. لكن ما بقي منها ليس على تلك الوحشية السابقة.
أفريقيا اليوم شريكة من شركاء الغرب. وقد تحتل المرتبة الآسيوية في وقت غير بعيد. ولم تعد آدابها حزناً وبكائيات وروائع محمد الفيتوري. وثمة قارة بأكملها خرجت إلى الحياة ليلها ليل ونهارها نهار مثل سائر البشر.
عمر أنهون:عراقيل حول القمة التركية ـ السورية المأمولة
روسيا مشغولة بالحرب في أوكرانيا، لكنها تواصل أيضاً مشاركتها في ما يجري في سوريا، نظراً لأهميتها في الجغرافيا الاستراتيجية.
ولطالما أرادت روسيا، التي تتمتع بعلاقات خاصة وبطريقتها الخاصة مع كل من تركيا وسوريا، استعادة العلاقات بين الدولتين. وقبل بضعة أشهر، اغتنمت فرصة وشرعت في إتمام عملية من هذا النوع.
وقبل أسبوعين، أعلن وزير الخارجية التركي في مؤتمر صحافي مع نظيره الإيراني في أنقرة عن عقد اجتماع لممثلي روسيا وإيران وتركيا وسوريا، على مستوى نواب وزراء الخارجية، يوم 16 مارس (آذار) في موسكو. وقال إن الاجتماع كان للتحضير لاجتماع محتمل لوزراء خارجية تلك الدول.
ومن المفترض أن تكون المرحلة الأخيرة من هذه العملية هي الاجتماع بين الرؤساء، أو كما يحب الموالون للحزب أن يطلقوا عليهم: القادة.
بدأت العملية الروسية باجتماعات بين مسؤولي الاستخبارات في البلدين، وأعقبها في ديسمبر (كانون الأول) اجتماع بين وزيري الدفاع.
وفي بداية العملية، ذكر الجانب السوري أن انسحاب القوات التركية من سوريا ووقف الدعم لجماعات المعارضة يجب أن يكونا نقطة انطلاق للتقارب بين البلدين.
ورد وزيرا الخارجية والدفاع التركيان بأن القوات التركية موجودة فقط لمنع التهديدات القادمة من المناطق الحدودية، ولن تبقى عندما يتم القضاء على هذه التهديدات.
وربما اعتقد الجانب التركي أن هذه التصريحات قد طمأنت دمشق، وأنها الآن راضية عن السير في هذا الاتجاه. لكن الأمر لم يكن كذلك على ما يبدو.
في المساء، قبل الاجتماع الرباعي للدبلوماسيين، كان الأسد في زيارة رسمية إلى موسكو، حيث التقى بالرئيس بوتين، وكان التقارب مع تركيا أيضاً على جدول أعمالهما.
وفي مقابلة مع وكالة أنباء «سبوتنيك» الروسية الرسمية ذلك المساء، قال الأسد إنه لن يلتقي بالرئيس إردوغان إلا إذا «كانت تركيا مستعدة، بوضوح ودون أي غموض، للانسحاب الكامل من الأراضي السورية، والتوقف عن دعم الإرهاب، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل بدء الحرب في سوريا».
وفي اليوم التالي، صبيحة يوم الاجتماع، جرى الإعلان عن تأجيل الاجتماع «لأسباب فنية»، ولم يتم الإعلان عن موعد جديد.
لم يأمر الأسد الممثل السوري بعدم حضور الاجتماع بطريقة تحرج مضيفه الروسي، وهو الذي يدين لهذا المضيف بكل شيء تقريباً. ولا أعتقد أن قرار تأجيل الاجتماع سيكون ممكناً دون أن يكون لروسيا دور فيه.
على أي حال، ما حدث في موسكو لا يمكن أن يكون خبراً جيداً لإردوغان الذي تعرضت سياسته في سوريا لانتقادات حتى بين أنصاره.
يريد إردوغان شيئاً ملموساً مع الأسد قبل الانتخابات الحاسمة في 14 مايو (أيار)، لأنه يحتاج إلى إظهار أنه على الرغم من كل ما حدث، لا يزال بإمكانه وضع الأمور في نصابها الصحيح، وأنه الشخص الذي يمكنه حل المشكلة.
ما الذي يدفع سياسة الأسد ضد إردوغان؟
توترت العلاقات بين إردوغان والأسد إلى مستوى العداء منذ عام 2011. قد تجمعهما السياسة الواقعية حول طاولة واحدة، لكن الشعور المتبادل بعدم الثقة والكراهية من غير المرجح أن يزول قريباً، هذا إن حدث.
ومن المقرر أن تجرى الانتخابات التركية في غضون شهرين، وسيكون للقضايا المتعلقة بسوريا، وخاصة عودة السوريين والمسائل الأمنية، تأثير مباشر فيها. ومن غير المرجح أن يرغب الأسد في تقديم هدية انتخابية لإردوغان بمقابلته أو التوصل إلى اتفاق معه.
ولدى المعارضة التركية فرصة جيدة للانتصار على إردوغان. وقد يفضل الأسد الانتظار للتفاوض معها، نظراً لأنها كانت دائمة الانتقاد لسياسة إردوغان في سوريا.
ويحاول الأسد، الذي ظل معزولاً في المجتمع الدولي لسنوات عديدة، العودة إلى الظهور. وبالفعل، غطى بعض المجالات في هذا الصدد، خاصة في العالم العربي.
صحيح أن الأسد ليس بالشخصية المفضلة لدى العديد من القادة العرب، لكن الذكريات المريرة لفشل الدولة كما في حالة العراق، وطموحات إيران في المنطقة، وخطر ترك سوريا بالكامل في أيدي إيران، وتسارع الأحداث في سوريا، جميعها أسباب دفعت بشكل ما العديد من الدول العربية إلى البدء في مد جسور التواصل مع الأسد مرة أخرى.
ويركز الأسد على العالم العربي أكثر من تركيزه على أي دولة أخرى. فتخفيف حدة المواقف السلبية لعدد قليل من الدول العربية، واستعادة مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، سيكونان إنجازين كبيرين للأسد.
ومن السمات المهمة للاجتماع المؤجل في موسكو أن إيران قد انضمت إليه أيضاً، وكان من الممكن أن يكون هذا أول اجتماع رباعي. في البداية، ولأسباب مختلفة، لم تشرك روسيا إيران في هذه العملية، لكن إيران وجدت طريقها (أو شقت طريقها بنفسها). ولست على يقين مما إذا كانت روسيا وتركيا سعيدتين حقاً بانضمام إيران، لكن عدم قبول إيران ستكون له تداعياته على الأرجح.
وتعتبر الولايات المتحدة الجزء الرئيسي الآخر من العقدة السورية. فهناك حوالي 1000 جندي أميركي في سوريا يواصلون العمل مع حلفائهم المحليين المتمثلين في «قوات سوريا الديمقراطية». وقد صوّت مجلس النواب مؤخراً ضد مشروع قانون يقترح سحب القوات الأميركية من سوريا.
ويقف الأميركيون ضد عقد اجتماعات وإقامة علاقات مع الأسد. وقد ذكرت الولايات المتحدة أن قرار مجلس الأمن رقم 2254 هو الطريق إلى الأمام للتوصل إلى حل سياسي وسلام دائم. هذا صحيح، لكن، لا الولايات المتحدة ولا الدول التي تفكر بنفس النهج تفعل شيئاً ذا معنى في هذا الاتجاه. على العكس من ذلك، فإن العديد من الأطراف مقتنعة بأن وجود الأميركيين وسياساتهم يجعلان الأمور أسوأ.
في هذا الصدد، على سبيل المثال، تشعر كل من تركيا وسوريا بالقلق من أن دعم الولايات المتحدة لـ«وحدات حماية الشعب / قوات سوريا الديمقراطية» يشجع على الانفصال ويعرض سلامة أراضي سوريا للخطر.
إن تأجيل الاجتماع في موسكو لا يعني بالضرورة نهاية العملية، إذ يمكننا أن نتوقع من روسيا متابعة القضية.
لكن، كما هو الحال، فإن الضغوط الانتخابية في تركيا وموقف الأسد القائل «لقد كسبت الحرب وأنا صاحب اليد العليا» يشكلان موقفاً مضللاً من نواح كثيرة، وسيستمران في التأثير. وفي ظل هذه الظروف، قد لا يتوقع المرء رؤية إنجاز كبير ذي مغزى في وقت قريب.