الجزء 3-3
كيف كان تولستوي عشية زواجه من صوفيا بيرس في سبتمبر (أيلول) 1862؟
كان يعتبر نفسه مريضاً. يخاف الموت خوفاً مرعباً. يخاف العلاقات مع النساء، مع سيطرة الرغبة الجامحة عليه. وهو لم يتمكن من أن يصبح إقطاعياً رائعاً. كان رجلاً عاطفياً ورجل «مشروع».
هل أحب تولستوي النساء عموماً؟ إنه سؤال معقد للغاية. معروفة «فوبيا النساء» عند تولستوي المتقدم في السن، التي كان يسخرون منها في أسرته، كأن تزعج صوفيا أندرييفنا كثيراً. كان تولستوي يصرح أن الحقيقة عن المرأة لن يقولها إلا على حافة القبر: سيقفز من التابوت ويقول الحقيقة، ثم يعود ثانية ويغلق الغطاء. منذ شبابه وحتى آخر أيامه كان شعوره نحو النساء مزيجاً من الخوف، والاهتمام الحارق، والأفكار الثقيلة حول الطبيعة الشيطانية للحب. كتب في يومياته: «… لم أكن يوماً مغرماً بالنساء».
يبدو لنا أن قصة حب ليف نيقولايفتش وصوفيا بيرس انتقلت ببساطة طبيعية إلى روايته «آنا كارنينا» من دون أي تحرير عملياً.
أرستقراطية تولستوي ليست للتفاخر والعرض، بل أرستقراطية منزل مأثور. كتبت ابنته: «كان أبي، بولادته، وتربيته، وأخلاقه، وعاداته، أرستقراطياً حقيقياً. كان نبيلاً وبقي نبيلاً حتى آخر أيامه».
كان تولستوي وزوجته يدونان يومياتهما ويسمحان لبعضهما بعضاً بقراءة يوميات الآخر. عائلة بلا أسرار!
هي: «إنه مقرف مع شعبه، بالنسبة لي»؛ «أنا مهجورة… أنا قطعة أثاث».
هو: «لا يمكن العمل»؛ «أشعر بالأسف على حياتي وحتى على حياتها».
هذه اليوميات أصبحت أحد أهم أسباب النزاع العائلي، الذي انتهى بكارثة سنة 1910.
رغم حبه لابنه أندريه، كانت لدى تولستوي جميع المبررات، كي لا يحبه فقط، بل ليكرهه أيضاً. أندريه هو من وصف أباه العظيم بـ«العجوز المجنون». ومن بين جميع أبنائه، كان بصراحة، أكثر شبهاً بأمه. ووقف بصورة مكشوفة إلى جانبها.
كان رحيل تولستوي من شاموردينو في الصباح الباكر من 31 أكتوبر (تشرين الأول) يكرر بشكل عجيب ودقيق هروبه. أدرك تولستوي المريض جداً، الفاقد لجميع طاقات جسده، أنه من الممكن الهروب من زوجته، أما الهروب من شهرته العالمية فأمر مستحيل. العالم كله يتابع كل خطوة من خطواته. وأن الصحافيين سيصلون إليه أينما حل.
في أواخر أيام حياته قدَّر الناشرون الأجانب قيمة الملكية الأدبية لتولستوي بعشرة ملايين روبل ذهبي. إن تخلي تولستوي عن الحقوق الأدبية كان خسارة ليس للحقوق المادية فحسب، بل للحقوق المعنوية لزوجته. فهي اعتبرت ذلك بمنزلة إهانة شخصية لها. رغم تخليها عن حصة الأسد من ممتلكات زوجها لمصلحة أبنائها ببساطة. لكنها في مسألة الحقوق الأدبية أبدت عناداً، تحول إلى تمرد على إرادة تولستوي.
قال صديقه وسكرتيره الأقرب، تشرشكوف، إن معلمه فقد كل قواه في الأيام الأخيرة، إلَّا ذاكرته، وظل يخشى شيئاً واحداً: أن تعثر صوفيا على مكانه. وفي اليوم السادس فقدت روسيا عملاقها.
ممدوح المهيني:محاكمة تعيد الحياة لترمب
مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، عدو ترمب اللدود الذي نشر كتاباً كاملاً هدفه الوحيد فضح رئيسه السابق، غير سعيد بخبر محاكمة ترمب. هل غيَّر موقفه منه؟ بالطبع لا، بل إنه يفضّل أن يراه خلف القضبان، ولكنَّه يخشى أن تلعب المحاكمة دوراً عكسياً وتصبُّ في مصلحة الرئيس السابق وتزيد من شعبيته، وتعيده منتصراً من جديد للبيت الأبيض.
ليس بولتون وحده مَن يتخذ هذا الموقف، ولكن حتى خصومه الديمقراطيين الذين يرون أن ترمب سيوظف المحاكمة لتجييش مناصريه وشد عصب جماعته، وبالتالي استعادة الزخم الهائل الذي جعل منه رئيساً في عام 2017. حتى منافسيه حالياً من الجمهوريين مثل نائبه مايك بنس وحاكم فلوريدا ديسانتيس اتخذوا موقفاً دفاعياً واعتبروا أن المحاكمة مسيّسة وتسليح للقانون بدافع الانتقام للقضاء على ترمب ومنعه من الترشح. بالتأكيد أنهم يتمنون أن يختفي ترمب من المشهد حتى يُفتح لهم الطريق، ولكنهم يدركون أن الوقوف ضده في هذه القضية لن يكون في صالحهم وسيقلب قطاعاً واسعاً من الجمهوريين ضدهم وهم بأمسّ الحاجة لهم.
أما بالنسبة لترمب فربما ستكون هذه المحاكمة هي قبلة الحياة. قبلة لم تكن متوقعة وأتت ربما في الوقت المناسب، قبل ما يقارب عاماً ونصف العام على الانتخابات الرئاسية. أما لماذا قبلة الحياة، فلأن شعبية ترمب تضررت عقب أحداث اقتحام الكابيتول فقد ظهر كرئيس مارق لم تردعه التقاليد العريقة للرئاسة عن تحريض الرعاع، وأعقب ذلك الادعاء أن هناك تزويراً في الانتخابات وأخاف هذا قطاعاً واسعاً عدّوه تهديداً لنظامهم السياسي وأُسس الدولة.
حاول أن يستخدم هذه الأحداث لتبرير أنه مظلوم ومضطهد وأن الانتخابات سُرقت منه، ولكن لم يصدقها إلا جمهوره المهووس الذي يراه المسيح المخلّص، ولكن في الواقع ظهر بصورة الرجل المضطرب الذي يمكن أن يفعل أي شيء حتى لا يوصم بالخاسر. تشبث بهذه الحجج، ولكنها قادته مرة أخرى إلى خسارة غالبية الشخصيات التي دعمها في الانتخابات النصفية. لكن كانت تلك الانتخابات استفتاء على شعبيته المتآكلة وعلى تهافت استراتيجيته الانتخابية.
من الواضح أن جمهوره أصيب بالإرهاق وحدث انقسام في قاعدة مناصريه، مع ظهور أسماء لامعة أبرزها حاكم فلوريدا الحاكم الناجح والكاريزمي الذي يراه كثير من الجمهوريين مستقبل الحزب الذي قام ترمب بتمزيقه. هكذا كان الحال، ترمب 2023 نسخة باهتة ومنهكة من ترمب 2015، حتى ظهرت من الرماد قصة الممثلة الإباحية ستورمي دانيلز ومنحته الفضيحة والقبلة التي كان ينتظرها. وقد استغلها كما هو متوقع منذ البداية في حملته؛ حيث أعلن بذكاء أنه سيتعرض للاعتقال ليتحول بعدها إلى العنوان الأول في الأخبار. وترمب الذي يعرف كيف يتعامل مع التلفزيون أكثر من غيره من الزعماء، ومحترف في أن يكون محور الاهتمام وفي قلب الأضواء سيحول المحاكمة اليوم بكل تفاصيلها إلى وقود لاستعادة توهجه. مثل هذه المحاكمات تخيف القادة والساسة ويتجنبون الفضائح، ولكنها اللعبة المفضلة لترمب الذي لن يمانع أن يظهر بصورة ترمب «المجرم» المقيد بالأصفاد، إذا كانت مفيدة لصورة ترمب «الرئيس» المنتصر. ولهذا من المنتظر أن يحوّل المحاكمة إلى مسرحية طويلة تبدأ اليوم ولا تنتهي إلا مع إعلان اسم الرئيس القادم.
النقطة الأخرى المفيدة لترمب هذه المرة عكس المرات السابقة، هي أن حججه السابقة بالمظلومية غير متماسكة وسقطت سريعاً، ولكن هذه المرة مختلفة. حجة الاضطهاد والملاحقة السياسية قوية ومقنعة للكثيرين وبحسب آخر الاستطلاعات فإن هناك انقساماً شعبياً حولها، ولكن غالبية الجمهوريين مصطفون خلفه. وحتى من غير المؤيدين له يرون أن خروجه بريئاً بمثابة الكابوس. هذه المرة الأولى التي يُجَرُّ فيها رئيس أميركي إلى المحكمة كالقتلة. نحن أمام مشهد جديد سياسي تاريخي غير مسبوق، ومن المؤكد أنه الفصل الأول في دراما مثيرة وطويلة.